لكل حضارة رموزها الشخصية وكتبها المقدّسة ومخزونها الثقافي الّذي تعتزّ به، وتعدّه جزءا مهمّا من كيانها الحاضر التي يصلها بالماضي، وترفض القطيعة معه، ولا تقبل الاستهزاء به والسخرية منه. وقد أجمعت الإتفاقيات الدّولية ومواثيق حقوق الإنسان على رفض التمييز بين أفراد الإنسانية، وعلى ضرورة احترام عقيدة الإنسان، وحضارته وثقافته. إلا أن هذه القاعدة وقع اختراقها في عديد المناسبات خاصّة بالنسبة للإسلام ولنبيّه محمد - صلى الله عليه وسلم - اخترقها من لا يحترمون دينهم ولا إنسانيتهم بالدرجة الأولى لأن من يحترم دينه وثقافته يستنكف عن أن يلحق الأذى بمن يخالفه في الدّين والمذهب.
وإذا عدنا إلى أوائل القرن التاسع عشر والقرن العشرين فإننا نجد فريقا من المستشرقين أساءوا إلى الرّسول محمّد - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم من اتّهمه بسرقة ما جاء في التوراة والإنجيل كأبراهام جيجر في كتابه "ماذا استفاد محمد من اليهودية" (بون 1833)، وهير شفيلد في "العنصر اليهودي في القرآن" (برلين 1878)، وسيدرسكي في "أصول الأساطير الإسلامية في القرآن" (باريس 1933)، وريتشاربل في "أصل الإسلام في بيئته الإسلامية" (لندن 1926).
هؤلاء وأشباههم يزعمون أن محمّدا باعتباره مؤلّفا للقرآن اقتبس أغلب القصص، وعددا من الصور البيانية، والحكم والأمثال من التوراة والإنجيل، وهو زعم باطل وافتراء لأنه يلزم الرّسول محمد مكتبة عظيمة تحتوي الكتب المقدّسة وشبه المقدّسة، ويلزمه إتقان اللّغة العبرية والسريانية واليونانية، وقرارات المجامع الكنسية، وبعض أعمال الآباء اليونانيين...هل هذا معقول في ذلك الزمن، كما أنّه لا توجد وثيقة تاريخية مكتوبة أو مروية تؤكّد هذه المزاعم الوهمية، ومن مزاعمهم أيضا أنّ أكثر القرآن ضاع، وأنه لم يجمع، وأنّ الرّسول مصاب بالهستيريا، وهي تُهم لا أدلّة عليها.والسبب الوحيد لتلك التهم كرههم للإسلام وللمسلمين ونظرتهم الفوقية، فهم الشعوب المختارة التي خصّها اللّه بالكتاب المقدّس الوحي فكيف يكون نبيّ من العرب، وكتاب للعرب.
ويمكن أن تصدر مثل تلك التهم في ذلك الزمن من المتعصّبين والمتطرّفين والإرهابيين، فالعدوان منتشر والحروب متتالية، والتطاحن على اقتسام خيرات الضعفاء على أشدّه، وقد اكتوى الكلّ بنار الحرب العالمية الأولى والثانية، ثم استفاقت البشرية لتنظّم العلاقات بينها وقف بنود حقوق الإنسان التي تضمن حرّية المعتقد والمساواة بين أفراد البشرية بغضّ النظر عن الدّين والعرق والجنس، كما ناضل أحرار الفكر في كلّ الحضارات للحدّ من الصّدام بين الأديان والحضارات والثقافات، والدّعوة إلى احترام الإنسان ورغم هذا الجهد وجدت بعض الأصوات التي تؤسس للصّدام، والتناحر وغرضها تحقيق مصالح استعمارية في الألفية الثالثة، ألفية العلم والتحاور والتكنولوجيا، والحرّية.
ومن تلك الأصوات هذه المجموعة التي تشنّ حاليا وانطلاقا من الدانمارك حملة تسيء إلى المسلمين وإلى الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وتشوّه صورتهم، وتحثّ على الكراهية، والتمييز من خلال تصوير كاريكاتور للرسول محمد مع بعض النساء، وعبر بعض الفضائيات الدّينية التي تسخر علنا من شخصية الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمستهدف هم العرب المسلمون.
إنه لعجيب حقّا أن تصدر مثل هذه التصرّفات من الإعلام الغربي بدعوى حرّية الصحافة، وأن السلطة لا تحكّم لها في الإعلام وهذه مغالطة كبيرة، حيث لا تصعد إلى السطح حرية الإعلام إلا إذا أساءت إلى الإسلام ورموزه، في حين تغيب حرّية الإعلام، وتتدخّل السلطة الحاكمة إذا تعلّق الأمر بالمسيحيين أو اليهود، إن الدّول الأوروبية لا تتجرّأ على الخوض في بعض الموضوعات، ولا يمكن التعلّل بالديمقراطية وحرّية الصحافة في ملفّ الهلكوست، ومعاداة السامية، وهنا يبدو جليّا الكيل بالمكيالين، ألا يدفع مثل هذا الموقف المسلمين والعرب إلى إعادة النظر في مواقفهم المتسامحة التي تجلب لهم السخرية من دينهم ومن نبيّهم ومن حضارتهم؟؟؟ ألا يعي الغرب مخاطر العنصرية والتمييز؟
وإنّه من المستغرب حقّا أن نسمع ونشاهد آراء ومواقف لا تزال تدعو إلى صدام الحضارات، وإلى التمييز في معالمة الإنسان مما يذكّي جذوة العصبيّة والكراهية بين الشعوب، ويولّد الإرهاب والإرهاب المضادّ. فكيف ندعو إلى محاربة الإرهاب من جهة، ونترك مسالك تغذيته تترعرع من جديد عبر الصّحف وبعض الفضائيات بدعوى حرّية الصحافة.
ألم يدرك من يسخر من شخصية الرّسول، ومن الإسلام أنّه يحضّ المسلمين على ردّ الفعل، أم أن هؤلاء يبحثون عن حروب دائمة لأنهم يستفيدون منها مادّيا، ولا يهمّهم الإنسان في شيء.
هل يسمح هؤلاء أن يسخر غيرهم من أنبيائهم ورسلهم ودينهم حتى يسمحوا لأنفسهم بالسخرية من دين قائم وله أكثر من مليار تابع، وهم الّذين تلحقهم الإساءة وليس نبيّهم لأنّه مات منذ خمسة عشر قرنا بعد أن خلّد الزمن ذكراه، ولا يمكن لبعض المزاعم أن تمحو ذاك التاريخ.
ما هو موقف الّذين يجتمعون وينظّمون لمقاومة الإرهاب في العالم من هذا النّوع من الإرهاب النفسي البشع الّذي يلحق الضرر بالمسلمين وخاصة المعتدلين منهم؟
نقول لهذه الفئة الحاقدة على الإسلام وعلى نبيّه إن ما تقوله وما تصوّره لا ينقص شيئا من عظمة الرّسول محمد ولا من عظمة غيره من الأنبياء الّذين نجلّهم كلّهم ونؤمن برسالاتهم التوحيدية، بل على العكس من ذلك، فإن مزاعمهم تلك دليل على قيمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الّذي لا يزال مثار جدل ونقاش بعد مضيّ قرون على بعثته.
ونقول لهم إن الدّيانات والحضارات والثقافات تزخر بزاد من المحبّة والاحترام، والسماحة والتفاهم مما يسهّل عليها مواصلة درب الحوار والتعايش لتحقيق السلام والسلم، "لأن السلم العالمي لا يمكن أن يبنى إلا بالحوار والتسامح والتفاهم، كما أنّ مصير العالم لا يمكن أن يقرّر إلا بالبشر جميعا، ومعهم جميعا ولصالحهم جميعا".
ونقول لهم أخيرا إن العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي مليء بأحرار الفكر، وبالباحثين عن مسالك الحوار، والساعين لخير الإنسان مهما كان دينه أو لونه أو عرقه أو جنسه، وهم الّذين تعوّل عليهم الإنسانية للحدّ من الصّدام، ومن ويلات الحروب، والبقاء للأصلح.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد