بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يَسعَدُ أحدنا ويُسَرّ حين تلوح له منفعة دنيوية تدخل عليه أو على أحد أقاربه، ويعبر عن تلك السعادة والفرح بحركات وكلماتٍ يشعر من خلالها الآخرون بسعادته ويعرفون بها تجدد النعمة عليه، بينما آخر تظهر على وجهه ملامح البؤس والعبوس لأمرٍ توقعه أو نزل به أو بقريب له، وهاتان الحالاتان لا يكاد يخلو منهما بشر، غير أن الحالة الثانية أعني حصول المكروه وتوقعه وإن كان أمرًا طبيعيًا إلا أنه نادر في حياة أحدنا، فالله أرحم من أن يجعل حياة الإنسان بلاءً ومكروهًا سرمديًا، وقد خلقه للسعادة ولإتمام نعمته عليه، وما أنزل الله القرآن إلا لسعادة البشر ولإحياء من أخذ به (حياة طيبة) خالية من الضنك والشقاء، (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)،
ولذلك فإن القرآن الكريم ينبه على انشراح الصدر عند اتباع الحق أو ضيقه عند الإعراض عنه، فانشراح الصدر قضية جوهرية في حياة المسلم إذ إنها متعلقة برضاه بدينه أولاً، ثم برضاه بنمط حياته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشرح الناس صدرًا حتى عُرف ذلك الإنشراح في سلوكه وبسماته وضحكاته وتقاسيم وجهه صلى الله عليه وسلم، وفي السيرة ما يكفي من طريقة تعامله مع الآخرين وبشاشته ومواقفه التي يملؤها الأمل والرجاء، وحثه على إدخال السعادة على الآخرين بالإحسان ولو (بكلمة طيبة) فهي صدقة (وبالابتسامة) فهي كذلك صدقة، وأيضًا كان المرء يأتي ليسلم، فيعرف إسلامه من إشراقة وجهه وتهلله قبل أن ينطق؛ لأن نعمة الإسلام إذا دخلت القلب أضاء منها الوجه، وفي ذلك ما لا يخفى من الآيات والآثار والأشعار، غير أن كثيرًا من المسلمين يعيشون بنفوس سوداوية لا تجده إلا مغضبًا – لغير سبب معتبر- ولا يعرف للابتسامة بابًا يدخل منه إلى الآخرين، فضلًا عن أن يضحك أو يمزح، فالضحك والمزاح في نظره تسقط المهابة وتخرم المروءة، بل وصل الوهم ببعضهم حد تصور أن ذلك مما ينافي الإيمان ويذهب الخشوع، وقد ذكر الإمام الذهبي في سيره عن أحدهم أنه لم ير مبتسماً قط، وقد قيل ذلك من باب مدحه، فردّ ذلك بذكر كثرة تبسمه عليه الصلاة والسلام.
وقد تكون تلك الحالة السوداوية طبيعة في المرء، لكنه لم يحاول إصلاحها وتقويمها بما يتوافق مع الأمر القرآني (فليفرحوا) ومع سلوك صاحب أزكى خلق وأعطر سيرة فكم تبسم وكم مازح وكم ضحك صلى الله عليه وسلم؟! ومكث بين أصحابه ومجتمعه بروح طيبة وبوجه طلق تُرى فيه علامات السعادة، وبابتسامة وسعت العدو فكيف بالصديق، ووسعت البعيد فكيف بالقريب؟ وعاش حياةً متواضعة يعبر عنها أحد أًصحابه وقد كان غلامًا صغيرًا يقول: إن كان النبي ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير.. "يا أبا عمير مافعل النغير" وهذه مزحة من مزحاته كان يواسي بها طفلاً صغيرًا. والنغير طائر صغير لذاك الطفل لكنه مات، فأراد عليه الصلاة والسلام تسلية الطفل والتخفيف عنه.
تلك الحالة العفوية التي تعطي الروح حقها من السرور والانشراح والمراح ليست حالة متكلفة، فلم يكن من المتكلفين، ولكنها سمة تلبّست الأنبياء والمرسلين، ونضحت بها الآيات المنزلة، بل التكلف هو إخفاؤها وكبحها حتى يدخل المتكلف إخفاءَها في حالة من التناقض الروحي، وهو يظن أن تكلف العبوس وإظهار المهابة المصطنعة شيء من الدين أو من عادات الفضلاء وكأنه لم يعرج على تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا على حياة أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم، الذين نعتز بالسلوك في طريقهم، فلم يكن الدين يمنعهم من إعطاء طبيعة خلقتهم حقوقها، بل كانوا أعمق منا فهمًا لمعاني الدين الجميلة والرائعة فلم يفهموا الدين على أنه (كاريزما مصطنعة)، وإنما أخذوه على أنه هبة إلاهية تعنى بسعادة القلب وصلاحه، وتنظم حياة المسلم وفق ما تقتضيه طبيعته البشرية، وفي الأدب المفرد "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال" ويصدق عليهم قول القائل:
أنا لستُ من خلطَ المُزاحَ بجدِهِ
فالجدُ جِدٌّ والمُزاحُ مُزاحُ
ولا ريب أن هذا كان مما لاح لهم من معاني هذا القرآن العظيم، وموافقة لأهل الجنة فيما وصفوا به من جميل تخالطهم وتفكههم وانشراح صدورهم (في شغل فاكهون) ومخالفةً لأهل الباطل والإجرام الذين وصفوا بعلامة اكتئابية وسمة تشف عما في نفوسهم (تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر)، وحين زُفّت امرأة إلى رجل من الأنصار قال صلى الله عليه وسلم "ياعائشة ماكان معكم لهو فإن الأنصار تحب اللهو"، فوافقهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم.
ونحن إذ نتكلم عن اللهو والمزاح والابتسامة والضحك التي هي سجية تعبر عن اعتدال الطبع وصحة الروح، مرغبين في إظهار الابتسامة وطلاقة الوجه وعفوية المعاملة مع الآخرين بغير تكلف ولا تصنع، ونذم تلك الشخصية ذات الوجه العبوس والصدر الضيق والكلمة الثقيلة التي لاتكاد تخرج من فيه إلا بشق الأنفس؛ أيضًا نحذر من سلوك تلك الشخصية الهزلية التي لا تعرف للجد باباً وطريقًا، وجعلت الهزل والمزاح وسيلة لتنقص الآخرين والولوغ في أعراضهم والاستهزاء بهم، ونأسف إذ قلنا إن هذا النوع من المزاح المتعمد أذية الآخرين قد أصبح رائجًا في مجتمعاتنا وخصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي فتجد من يسفه الآخرين ويظهر مثالبهم ويتلذذ بالإساءة إليهم في صورة تغريدة أو تعليق أو منشور وكأنما أبيحت له أعراض الآخرين في مواقع التواصل، ولعل بعض هؤلاء المتراشقين تجد بينهم من القرابة والأخوة حبلًا متينًا غير أنه لايعبأ به في مزاحه وكما قيل:
لي صاحب ليس يخلو لسانه من جراحِ
يجيد تمزيق عرضي على سبيل المزاحِ
والأسوأ من ذلك والأدهى هم أولئك الناس القلة في المجتمع الذين جعلوا دينهم مرتعًا لمزاحهم واستهزائهم، وتأطروا في إطار من ذمهم كتابهم (الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهواً)، فالقرآن الكريم يدعونا لخُلُق هو بين الإفراط والتفريط، بين الاسترسال في اللهو والمزاح وبين الانقباض وإظهار البؤس. والله من وراء القصد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد