بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
حين يُقلِّبُ طالب العلم طرفَه في أنحاء المكتبات الخاصة والعامة، وينظرُ في اتساع المصنفات وكثرة المجلدات = يعتريه طائفٌ من الحسرة، وباعثٌ من الهمِّ والشَّجَى .. إذ متى يتسنَّى له جَرْدُ هذا الكم الهائل من المجلدات، ومتى تساعفه الظروف لينتبِذَ بهذه المجلدات ناحيةً من دارِه فيناجي فوائدها وفرائدها؟
يأتي جواب متعجِّلٌ بأن هذه الكثرة من المجلدات ليست مما يُقرَأ بالضرورة، فإن منها ما هو مرجع لا يُستفاد منه إلا حين الحاجة.. وهذا وإن صح في بعضٍ إلا أن الأصل في المصنفات الموضوعة في كل فنٍّ أنها من مظانِّ قراءة المتخصص وجَرْده، ونحن إذا أسقطنا ما كان من المطوَّلات موضوعا للمراجعة وما كان منها قليل العائدة بقيَ كثيرٌ كثيرٌ منها يُعَدُّ من أصيل المصنفات التي لا غنى للمشتغل بالعلم عن مطالعتها.
فالمفسر مثلًا لا بُدَّ وأن يقرأ تفسير الطبري والقرطبي وابن عطية وابن كثير والبغوي والمهدوي والزمخشري وأبي حيان والثعلبي وأبي السعود وابن عاشور إلخ.
والنحوي لا بد وأن يقرأ كتاب سيبويه وكتب المبرد والفارسي وابن جني وأبي حيان وابن هشام وابن مالك إلخ.
والفقيه الحنبلي لا بد وأن يقرأ كتب القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وابن قدامة وابن تيمية الجد والحفيد وابن مفلح والزركشي والبهوتي والكرمي والخلوتي إلخ. وهلمَّ جرًّا.
دعْ عنك أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء محتاجٌ إلى جَرْد لفيفٍ من المطولات في غير فنِّه، فالمفسر والفقيه لا غنى لهما عن مطالعة كثير من الشروح المطولة لكتب السنة، والنحوي لا غنى له عن مطالعة مطولات التفاسير المعتنية باللغة، وقِسْ على ذلك.
فما الحل إذا ما استحضرنا أنَّ المطولات ممدودة والأزمنة محدودة؟
وقفتُ على خبرٍ أنار لي الطريق، وأبان لي أن الأمرَ قريبٌ، لكنْ لمن عَقَل!
مبدأ ذلك أنَّ الحافظ برهان الدين سبط ابن العجمي بلغه أنَّ الشيخ بهاء الدين ابن عقيل حُكِيَ له عن قَيِّمِ مسجد النارنج بالقرافة أن الشيخ عز الدين بن عبدالسلام كان يخرج إلى المسجد يوم الأربعاء ومعه «نهاية إمام الحرمين»، فيمكث بالمسجد يوم الأربعاء، ويوم الخميس، ويوم الجمعة إلى قبيل الصلاة، فينظر في هذا الوقت «النهاية».
فهذه يومان وبعضُ يومٍ طالع فيه العز بن عبدالسلام «نهاية المطلب» للجويني.
إلَّا أنَّ هذا الخبر لم يقع من الشيخ بهاء الدين موقعَ القبول، فقال: (أنا أستبعد ذلك).
وهذا الاستبعادُ منه يقوِّيه أنَّ كتابًا بضخامةِ نهاية المطلب -وهو مطبوعٌ في 19 مجلدًا إذا أسقطنا مجلَّدَي المقدمات والفهارس– مع عويصِ ألفاظه وتراكيبه، وكونهِ جامعًا فقهيًّا مشحونًا بكثير من المسائل والنقول والأقاويل = يصعب إنجازه في مثل هذا الوقت.
غيرَ أنَّ للسراج البلقيني رأيًا آخرَ، فقد بلغه استبعاد الشيخ بهاء الدين لهذا الخبر ، فدفعه بقوله: (ولا أستبعد! لأن الشيخ عز الدين لا يشكل عليه منها شيء، ولا يحتاج إلى أن يتأمَّل منها إلا شيئًا قليلًا، وأنا أنظر مجلدًا في يوم واحد).
فهنا بيَّن البلقيني أن العبرة ليست بكثرة المجلدات، بل بالعقلية التي تعالج تلك الكثرة، فعقلٌ كعقل العزِّ وقد ارتاض طويلًا بمذهبه الشافعي وخَبَرَ مداخله ومخارجه يكفيه اليسير من الزمن لطيِّ هذه المجلدات، لأنه لن يقف مع جمهور ما يلقاه منها طويلًا، إذْ قد سبقتْ إلى ذهنه واستقرَّتْ من ضبطٍ متقدِّمٍ ومعالجةٍ ناجزةٍ.
ثم إنَّ سبط ابن العجمي حمل هذا التعليقَ البلقينيَّ إلى شيخه سراج الدين ابنِ الملقِّن، فأيَّده بقوله: (أنا نظرت مجلدين من الأحكام للمحب الطبري في يوم واحد).
فهذه ثلاثة شواهد دالةٌ على أن القارئ – لا المقروء - هو مبدأ الأمر ومنتهاه، فالعزُّ يقرأ «النهاية» 3 أيام، والبلقيني يقرأ مجلدًا منها في يوم واحد، وابن الملقن يقرأ في يوم واحد مجلدين من «الأحكام» للمحب الطبري، وما ذلك إلا لما سبق هذه القراءة من توطئة تحصيلية أهلتهم لهذه القراءة الجَرْديَّة.
وخلاصة ما تقدَّم أن طالبَ العلم بوسعه أن يكون عظيمَ البسطة في القراءة واسعَ الخطْوِ في ميدان المطولات إذا كان تحصيلُه منظَّمًا، بحيث يأتي العلم من أبوابه، ويبدأ بالأهم فالأهم، ويُعنى بضبط معارف كل مرحلة قبل أن يغادرها، حتى إذا ما بلغ مرحلة جرد المطولات أمكنه أن يأتي على شريحة عريضة منها في الزمن اليسير.. وأنتَ إذا تصفَّحتَ واقع كثير من طلبة العلم وما يواجهونه من مصاعب ومتاعب أدركت أن الأمر يشتدُّ عليهم كلما كان تحصيلُهم أمسَّ بالفوضوية وأبعدَ عن الانتظام.. وعلى الله قصد السبيل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد