مسألة اللغات المتعددة عند الأطفال

278
11 دقيقة
14 ربيع الثاني 1447 (07-10-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

تنشأة الأطفال بين لغاتٍ متعدّدة (لغتين أو أكثر) صارت سمتًا غالبًا في هذا الزّمن. ولا يقتصرُ هذا على أبناء المهاجرين إلى بلادٍ تنطقُ بلسانٍ غيرِ لسانِهم. بل إنّه يمتدّ إلى النّاس جميعًا في البلادِ العربيّة التي صارت اللغة الثانية تدخل إلى عالمِ أطفالِهم منذُ أبكرِ سنٍّ -أحيانًا دون الثالثة- بدعمٍ وتشجيع وسعيٍ من الأهل وبالبحث عن حضانات تخلق بيئةً كاملةً قائمة على لغةٍ غير اللغة الأمّ

قد يقول قائل. وما العيب في ذلك؟. هذه سعة أفق وتأهيلٌ لعالمٍ قائم على تنوّع اللغات واختراق الثقافات. ومخّ الطفل قادرٌ على استيعاب لغاتٍ متعدّدة ولا يضرّه ذلك.

أقول. هناك فارقٌ بين ازدواج اللسان بطريقةٍ صحّيّةٍ صحيحة. يكون هيكل كل لسانٍ فيها مستقيمًا في عالِمِه. وبين أن ينشأ طفلٌ بلا لغةِ أمٍّ حقيقيّة. هذا طفلٌ معذّبٌ تائهٌ يهيم في الحياةِ على غيرِ هُدًى.

منذ بضعةِ أشهر كنتُ كتبتُ في بعض مجموعاتِ المقيمين في ألمانيا عن اعتزامي أن أبدأ برنامجًا تعليميًّا يستهدف الأطفال في سنّ 7-11. الذين يحتاجون إلى تحسين لغتِهم الألمانيّة.

كنتُ أريد أن أبدأ هذا البرنامج بشكلٍ تجريبيّ ومعي طفلان أريد أن أضيفَ لهما 3 أطفال آخرين. لكن فوجئت ب24 طفلًا رغبَ آباؤُهم أن يسجّلوا أبناءَهم في ذلك البرنامج

جلستُ مع الأطفال ال24 في لقاءات تعريفيّة واخترتُ منهم ال12 الأنسب للصورة المستهدفة من حيث قدر التحسين المطلوب وانضباط اللسان العربيّ الذي يمكن البناءُ عليه. واستمرَّ عملي معهم منذ ذلك الحين

لكن هالني وأفزعني ما رأيتُ وسمعتُ من كثيرٍ من هؤلاء الأطفال ال24. بينما كنتُ أنوي أن أساعدَ الأطفال الذين أتوا إلى ألمانيا حديثًا فوجئت أن ظاهرة ”انعدام اللغة الأمّ” آخذةٌ في التفشّي. بل إنها تسبقُ انتقالَ هؤلاء إلى ألمانيا أصلا. وتنتشرُ انتشارًا واسعًا في بلادِنا العربيّةِ المنكوبة. والله يعلمُ أينُ تقفُ حدودُها ما لم ينتبه النّاس أنّهم يقتلون أبناءَهم قتلًا من حيث ظنّوا أنّهم يحسنون إليهم

باعتباري أنا أيضًا من مزدوجي اللسان نشأتُ بين العربيّةِ والألمانيّة فإنّ هذا الموضوع يمسّني ويلمسُ روحي. وأنا عليمٌ بالتّيه بين العوالم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ورأيتُ آثارَه من حولي كثيرًا. ثم إنّني باعتباري تخصّصتُ في علومِ المخّ والأعصاب فقد أُتيحَ لي أن أطّلعَ على جانبٍ من أساليب عمل المخّ البشري وتطوّر قدراتِه صعودًا وهبوطًا مع تطوّر العمر.

لذلك أحبّ فيما يتلو هذا المنشور، أن أفردَ مساحةً أتحدّثُ فيها عن مسألةِ اللغة. كيف هي وكيف يتعلّم الطّفل في سنٍّ باكرة. وكيف تختلفُ طريقة التعلّم في سنٍّ أكبر.

وكيف تؤثّر اللغة فيه ويؤثّر هو فيها. وما إلى ذلك.

1. من اللغة إلى النّفسيّة ذهابًا وإيابًا:

إنّ استقرارَ اللغةِ الأمّ عند الطّفل. وسعة مفرداتِها وعمق قدرتِه على استخدامِها للتعبير عن مكنونِه للقريب والبعيد. يرتبطُ ارتباطًا وثيقًا بثباتِه النّفسيّ والعاطفيّ ثم بقدراتِه وأدائِه في المراهقةِ وفيما بعد. هذا معلومٌ ومشاهدٌ وتشيرُ إليه أطنانٌ من الدراسات والأبحاث المنشورة حديثًا ومنذُ عقود.

الذي يغيب عن النّاس ربّما هو مدى وثوقيّة ومباشرة هذه الصّلة. فعلى سبيل المثال. في دراسة نُشِرَت عام 2010 بُحِثَ سلوك 120 رضيعًا عند نقاط محدّدة (عمر 14 شهرًا) (عمر 24 شهرًا) (عمر 36 شهرًا).

وثبتت علاقة مباشرة بين سعة المفردات التي يستخدمها هؤلاء الأطفال -ذكورًا وإناثًا- عند كل نقطة، وبين *مؤشّر القدرة الضبط الذاتي*.

ومؤشّر الضبط الذاتي هذا قائم على متوسطّ أداء الطفل في إطار 7 عوامل هي:

1- الثبات في مواجهة الإحباط

2- الحساسيّة للمؤثرات الخارجية.

3- القدرة على التكيّف مع التغيير.

4- القدرة على التركيز.

5- مدى سهولة العودة من حالة الغضب والحزن إلى الحالة الطبيعية.

6- معدّلات حالات الانزعاج وشدّتها.

7- درجة النشاط {1}.

يعني أن الطفل الذي تزيد عدد المفردات التي يستخدمها في عمرِ 14 شهرًا (تخيّل!) يكون أكثر قدرةً على التركيز وأقلّ في حدّة غضبه وأسرع في العودة إلى الهدوء وأقدر على التكيّف مع التغيير.

في دراسةٍ أخرى منشورةٍ عام 2019 بُحِثَت العلاقة بين مدى قوّة اللغة الواصفة لدى الأطفال في عمر الحضانة السابقة للمدرسة مباشرةً (4-5 سنوات) وبين القدرة على الضبط العاطفي. على 380 طفلًا في 15 مدرسة مختلفة.

هذه الدراسة كذلك تشير إلى أن الزيادة في القدرات اللغوية تعني في هذه السّنّ المبكّرة زيادةَ القدرة على الضبط العاطفي السليم في التعامل مع العواطف الإيجابيّة والسلبيّة على حدٍّ سواء {2}.

إذًا. كلّما توسّعت القدرة اللغوية لدى الطفل في أبكرِ سنٍّ ممكن، كلّما استقرّت نفسيّتُه بشكلٍ ملحوظ ومشاهد.

2. ازدواج اللسان، نعمةٌ مُطِلّة. أو لعنةٌ مُذِلّة:

الأطفال الذين ينشؤون بين لسانَيْن يواجهون تحدّيًا خاصًّا. من وجوه:

الأوّل أنّهم يتحرّكون في مجالٍ يوميٍّ خارجَ المنزل يباعد بينهم وبين آبائِهم ويزيد الفجوة، خصوصًا إذا كان آباؤهم أقلّ إتقانًا للسان الثاني بشكلٍ ملحوظ. ومن هنا تنشأ حالة الذبذبة بين مجتمع الموئل خارج المنزل ومجتمع الأصل داخل المنزل. تشغلهم قضايا غيرُ التي شغلت أهاليهم، ويواجهون مشكلاتٍ غير التي واجهوها، ولا يشعرون بأن أحدَ المجتمعيْن يمثّلُهم تمثيلًا كاملًا.

الثّاني، كثيرًا ما يمارسون دورَ الترجمان لآبائهم وأمّهاتِهم من سنٍّ مبكّرة، بما يغيّر من معادلات القوى والتفوّق عن الصورة التي يكونون فيها مستَقبِلِين في عمرٍ يحتاجون فيها إلى هذا الاستقبال إلى صورةٍ يكونون فيها موجّهين في سياقاتٍ معيّنة.

الثالث، الأطفال في سنّ المدرسة شديدو الحساسيّة لمسألة تقبّل الجماعة لهم فيها بسلاسة وهو ما يتعذّر غالبًا في بلد المهجر، لكنّ الذي يزيدهم أسًى أنّ هذا الفقد في التقبّل داخل "جماعةٍ كبيرة" يستمرّ ليشمل بلدَ الموطن كذلك، فهؤلاء الأطفال يتحدّثون بلسانٍ يختلف غالبًا اختلافًا ظاهرًا عن لسان بلادِهم الأصليّة، وإن بُذِلَ معهم أكبرُ الجهدِ في ضبطِ اللغة فإنّه يفوتُهم -مهما صنع آباؤهم- كثيرٌ من الإرث الاجتماعي والثقافي الذي يصبغُ المفردات. فتمتد حينئذٍ حالةُ الاغتراب لتصيرَ شتاتًا عامًا لا يزول {3}.

فإمّا عولجَ هذا من بابِه فصار الطّفلُ حُرًّا حقًّا ووقعت له ميزات الطّيرِ الطليق بين العوالمِ يقطفُ من أيِّ ثمرِها شاء. وإمّا قضى عمرَهُ حبيسًا عاجزًا لا يطيبُ لهُ مُقام

3. بين فصحى الأساس وعامّيّة المِساس:

العربيّة تجمعُ في حالةِ الازدواج صعوبةً زائدةً عن كثيرٍ من نظيراتِها. فإن الفارق في العربيّة بين العامّية المنطوقة والفصحى أعمقُ وأجلّ لسعةِ مساحة بلادِ العربِ وكثرةِ عددِهم وطول مُقامِ العربيّة بين ألسنتهم {4}.

هنا ينبغي أن نفهمَ معنًى هامًّا، حتّى الطفلُ الذي ينشأ مزدوجَ اللسان مهما بلغَ إتقانُها لكليهما فإنّ مخّه يفهم لغةً منهما على أنها "اللغة الأمّ الغالبة"، والثانية تُبنى عليها

تمييز هذه اللغة الأمّ الغالبة. وتطوّرها يخضع لعوامل، أهمّها وأبرزها هو لغةُ أمِّه التي تربّى في حِجرِها. فإذا كانت عربيّةً مغربيّة وكان أبوه عربيًّا عراقيًّا ونشأ في فرنسا. فإنّ هذا الطفل ينشأ. أو ينبغي أن ينشأ بين 4 لغات، هي العاميّة المغربية والعاميّة العراقيّة والفصحى العربيّة والفرنسيّة وتكون العاميّة المغربيّة هي الغالبةُ عليهم جميعًا، بها يفهمُ نفسَه ويعبّر عنها وإليها ينسحبُ ومنها يعود. ولا تزول هذه الغلبةُ إلا في ظروفٍ خاصّةٍ وبعد سنواتٍ طويلة {5}.

وضبط هذه اللغات الأربع حينئذٍ قبل أن تدخل عليها لغةٌ أجنبيّة -ليست أمًّا- كالانجليزيّة ونحوِها هو أوجبُ واجبات الأبويْن، وهو مفترقُ الطّرق إما في اتّجاه الثبات أو في اتّجاه الضياع.

تابع 3. بين فصحى الأساس وعامّيّة المِساس:

إذًا، اللغة الأم الغالبة هي لسان الوالدة المرضعة المربّية. هذه اللغة -العامّيّة غالبًا- ضبطها ضرورةٌ قصوى للضبط النفسيّ والاتصال الانتمائي بين الطّفل وجماعتِه الإثنيّة. وبها يعرّف جانبًا من نفسِه، وإذا اختلّ هذا الاتّصال فإن بقعةً مُظلِمةً في روحِ هذا الإنسان ستبقى خَرِبَةً إلى الأبد.

طبعًا هنا رسالةٌ إلى الذين يسلخون أبناءَهم من لغاتِهم الأمّ الغالبة، إمّا راغبين في ذلك تطلّبًا لارتقاءٍ متوهّم، أو جاهلين يلوون ألسنتَهم بلغاتٍ أجنبيّةٍ عنهم لا يتوطّنونَها ولا يتوطُّنها أبناؤُهم مهما صنعوا. إنّما يؤذون أبناءَهم بلا طائل.

أما العربيّة الفُصحى، فلا ينبغي أن تُغفَلَ هي الأخرى.

إنّنا حين نقولُ ذلك لا نخصّ به أهلَ الدّيانةِ وطلبةَ الاستقامةِ دونَ غيرِهم، وإنّما نقوله للنّاسِ كافّة.

ولا نقولُهُ لأنّ العربيّة لغةُ القرآن وبها يُبتَغَى القربُ من الله عزّ وجلّ. وإن كفى به عندنا الدّافعُ والطّلب.

وإنّما لأنّ اللغة الفصحى -في أيّ لغة- هي لغةُ القواعد والاشتقاقات وفهم الإعراب وأنواعِ الكلمةِ وصُوَرِها. فلا نستطيع أن نبني لغةَ الأمّ المغلوبة بغير استقرار هيكل اللغة الغالبة، وبغيرِ ذلك لا تستقرُّ في ذهنِ الطّفل معاني الفاعليّة والمفعوليّة وحروفِ الجرّ وطريقة استخدام الصفات وغيرِها من التوابع

إذًا، يحتاج الطفل أن يتشرّب العاميّة لنفسِه، ويحتاج أن يتشرّب الفصحى وسيلةً للغةِ الأمّ الثّانية. فإذا كانت والدتُه من أهلِ العربيّة وجبَ ضبطُ عاميّةِ العربيّة وفصحاها.

4. في رَحِمِ الأمّ قلبٌ نابض. وأذنٌ سامعة:

إن تعلّم اللغة وإدراكَ أنماطِها وبناء قواعِدِها في نفسِ الطفل يبدأ مُذْ هو جنينٌ في بطن أمِّه. وبهذا تراكمت أبحاثٌ متعدّدة منذُ ثمانينيّات القرنِ الماضي. وهذا من أسباب صعوبةِ تغيّر اللسان الغالبِ عند الطفلِ عن لسانِ أمّه الذي ينطبع على سمعِه فترةً معتبرةً قبل أن يسمعَ غيرَه.{1}.

ومن ثمّ فإنّ عمليّة تلقينِ اللغةِ وتعليمِها ينبغي أن يبدأ بطريقةٍ واعيةٍ منذُ الحمل ولا ينتظر حتّى إلى الولادة، فإن الطفل يميّز صوتَ أمِّه ويُظهِرُ نمطًا من ردّ الفعل تجاهَه منذ الأسبوع ال36.{2}.

5. السّر في فصلِ السياقات وضبطِها:

إذا استقرّ عندنا أنّ اللغةَ ليست مفرداتٍ مصمتةً وكلماتٍ جوفاء متراصّة. بل حالةٌ شعوريّة نفسانيّةٌ متكاملةٌ يغوصُ بها الإنسانُ في أعماقِ نفسِه ويعبرُ بها إلى الفضاءِ الشّاسع حولَه. تبيّن لنا بسهولةٍ أنّ لكلِّ سياقٍ لغةٌ تغلبُ عليه وتمثّل منطقةَ الرّاحة للطفل فيها، كأنّما هي رفيقُه إذا دخل ذلك المكان، يستقبلُه عند أوّلِه ويودّعه عند آخرِه.

فإذا تعوّد أنه يلعب مع الصبية في الشارع بالألمانيّة انطبع ذلك في ذهنِه وصَعُبَ عليه كثيرًا أن يتغيّر في هذا السياقِ إلى العربيّة حتّى ولو كان كلُّ المشاركين عربًا.

وكثيرًا ما رأيتُ شبابًا وُلِدوا لأسرٍ مهاجرةٍ عربيّةِ الأصل لكنّهم أضاعوا طريقَ الدّين صغارًا، ثمّ رجعوا إليه كبارًا لكن حال ضعفُ اللسان دون تعلّمِهم أصولَ الدين بالعربيّة فاضطروا حينئذٍ أن يطالعوا فقه الصلاة والصيام والزكاة بالألمانيّة، ثم انضبطت العربيّةُ عندهم فيما بعد، لكن مكثوا -ولو بعد عشر سنين- لا يستطيعون الكلام في حديث الديانة والتزكية والعباداتِ إلّا بالألمانيّة.

بل أكثرُ من ذلك، إنّني إذا لقيتُ شابًّا عربيًّا عرفتُه طفلًا في سياقٍ كان الغالب فيه الحديث بالألمانيّة فإنني أحدّثه بالألمانيّة رغمًا عنّي، وقد وقعَ هذا مرارًا مع شبابٍ ربّما انقطعت الصّلة بهم سنواتٍ طويلة حتّى إذا لقيتُه - ولو في سياقٍ عربيّ، بل ربّما في بلدٍ عربيّ- حدّثتُه بالألمانيّة طبيعةً وسجيّة. ولو انتقلنا من الألمانيّة إلى العربيّة تكلّفًا سرعانَ ما نعودُ إليْها بغيرِ إدراك.

وكذا إذا انضبطَ عند الطّفلِ أنّه يعبّر عن حزنِه وألمِه وضيقِه، أو فرحِه وبهجتِه في سياقٍ معيّن بإحدى اللغتين فإنها ترافقُه فيه -غالبًا- ما بقي.

بل إنّه حين يحلمُ نائمًا أو يفكّر يَقِظًا في هذا السّياق فإن لغةَ السياقِ هي التي تحدو فكرتَه وتصاحبُ حلمَه.

إذا انتبه النّاس إلى هذا أدركوا المفتاح. إنّه إعمالُ هذا السّياجِ الفاصلِ واستخدامُه في ما يصلحُ لسانَ الطّفل ويرسّخه. لا أن يجوروا عليه ويرغموه على خلطِ الحابلِ بالنّابل فإنّهم بذلك يربكونَه ويشوّهون بنيانَه.

6. وصفةُ الحلّ:

قبل أن أعرضَ ما أعتقده في مسألة الحلّ. أقول:

إذا كنتَ تبحثُ في أمرٍ مركّبٍ بالغِ الخطورةِ كهذا عن وصفةٍ سهلةٍ يسيرة، فلقد أخطأتَ العنوان. هنا نستعين بالله ونسلك ما نحسبها سبيلَ الرّشاد ولو كانت الطريقُ وعرةً شاقّة.

هذه الوصفةُ فيها ثوابت، ثمّ فيها متغيّرات ينبغي أن تُضبَط وفقَ ظروف كلّ أسرة.

هنا أفترض أن الأبويْن من نفس البلد العربيّ، ويعيشان في بلدٍ أعجميّ، ويعتزمان المُقامَ فيه بضعَ سنين على الأقلّ.

أ. قراءةُ الأمّ للقرآن يوميًّا بصوتٍ مرتفع منذ منتصف الحمل ولو ثلاثةَ صفحاتٍ فقط. يا حبّذا لو يُضاف إلى ذلك من الثلث الأخير للحمل قراءةُ الأب له كذلك بجانب الجنين ما استطاع، ولو صفحتين.

هذا بطبيعة الحال بافتراض أن الوالديْن يتقنان تلاوةَ القرآن بتجويدٍ مقبول، وإلّا اكتفيا بتلاوةٍ شيخٍ ضابطٍ مسجّلٍ له يوميًّا كالحصري.

ومع هذا، يبادران إلى تعلّم تجويد القرآن في أسرع وقت، إنّه حقُّ ولدِهما عليهما، وحقُّ أنفسِهِما من قبلِه.

ب. إذا كان الطفلُ رضيعًا يُضافُ إلى الصفحات اليسيرة من القرآن في اليوم، بضعُ صفحاتٍ من كتابٍ بالعربيّة، أيّ كتابٍ في أي تخصّص بشرطِ أن يكونَ بلغةٍ سليمة وبضبطِ التّشكيل ما لم يكن القارئ قادرًا على القراءةِ بلا لحنٍ بغيرِ التّشكيل. ولا يُشترطُ أن يكونَ كتابًا للأطفال أصلًا.

ج. لا يُتحدّثُ في داخلِ المنزلِ بغيرِ العربيّة ولو على سبيل المُزاح، ولا يتدرّبُ أحد الأبوين على اللغة الأخرى -ولو على سبيل التعلّم الذّاتيّ- في حضورِ الطّفلِ ما وسِعَهُم ذلك. وإذا كان للطفلِ أخوةٌ أكبر منه فإنه يسري عليهم نفسُ القانون، ولا يُقبَلُ أن يُجيبُ على السؤال العربيِّ بلغةٍ أخرى، ولا حتّى أن يزرعَ كلمةً أجنبيّةً واحدةً بين الكلام العربيّ. فإذا كان خارجَ المنزل بغيرِ الانفرادِ بأهلِ بيتِهِ فالعكس هو الصحيح، عندئذٍ يُشجّعُ أن يتحدّث بالأجنبيّة بلا كلماتٍ عربيّةٍ إطلاقًا.

لا مانعَ من تخصيصِ غرفةٍ بعيْنِها -حبّذا لو كانت تتمايز شكلًا عن بقيّة الغرف كاختلاف لون الدّهان أو الشكل أو نحو ذلك- للغةِ الثانيةِ، إمّا كلَّ الوقتِ أو بعضَه مع تمييز هذا الوقت، كمثل أن يكون من الفطورِ إلى الظهر كلّ يومٍ أو بعضَ الأيّام. المهمّ أن يكون قانونًا صارمًا. وأن يمارسَ معه اللغةَ في هذا السياق المستقلّ من يتقنها إتقانَ أهلِها، لا أن يكون ممّن لازال يتعلّمها ولو أحسن في ذلك.

د. يرتّب للطفل لقاءٌ أو لقاءان أسبوعيًّا مع أقرانٍ من أهل نفس اللغةِ الأمّ الأولى بواقع ما لا يقلّ إجمالًا عن 4 ساعاتٍ أسبوعيّة، حبّذا لو كان لقاء الأطفال في حضورِ أمّهاتِهم بحيث يُخلقُ مجالٌ عامٌّ تُتحدّثُ فيه اللغة الأمّ الغالبةُ حصرًا.

ذ. يُنتخَبُ له منذ سنّ الثالثةِ أو دونَها بقليل، فتاةٌ متقنةٌ ضابطةٌ للغة الأمّ الثانية، تأتيه في الأسبوع ثلاث مرّاتٍ على الأقل بواقعِ ساعتين على الأقل في المرّةِ الواحدة، ولا تصنعُ معه شيئًا سوى أنّها تلاعبُه -وإخوانَه إِن وُجِدُوا- باللغةِ الثّانية، بغيرِ اللجوءِ إلى شرحِ المفرداتِ باللغةِ الأولى نهائيًّا ولو كانت تتقنها، وبغيرِ تدخّل الأم بالشّرحِ أو بالتيسير وإنّما يُتركُ الولدُ يفهم من الإشارةِ وتعبيرات الوجه ومن شرح الكلمة بمفرداتِها في اللغةِ نفسِها.

ر. يُستعانُ بالقصص المسموعةِ بين اللغات الثلاث، العربية العاميّة والفصحى واللغةِ الأمّ الثانية. بشرطيْن:

الأوّل أن يُثبّتَ موعدُ اللغةِ الواحدة فيهما مع إمكانية الدمج بين العامية والفصحى في اللغة الواحدة.

الثّاني، أن تُزاحمَ القصص المسموعةُ بالقصص التي يتلوها عليهم الأبوان بحيث تظل المسموعةُ إلكترونيًّا دونَ النّصف، ويتخلّل الفترات الطويلةُ أيّامٌ متعاقبةٌ يُستغنى فيها عن المسموعةِ إلكترونيًّا تمامًا.

الثالث، أن تخلو القصص المسموعةُ من المؤثّرات الصاخبة الخارجة عن السياق الضروريّ للقصّة.

ز. تُختبرُ مع بلوغِ سنّ الرابعة قدرةُ الطّفل على التعبير الحرّ عن قصصٍ من خيالِه باللغتيْن، الفصحى والعامّيّة. وقدرتُه على القفزِ بينَهما، إذا سئل بالعاميّةِ حينًا ثم بالفصحى حينًا. وكذا قدرتُه على استظهارِ الشّعرِ ولو بيتًا واحدًا فقط. والقرآنِ ولو آيةً واحدةً فقط. ويدقّق هل يستطيعُ أن يميز رفعَ الفاعل ونصبَ المفعول ونحوَهُ. ولا بأس فيه من خطأٍ يسيرٍ طالما غلب الصوابُ على الخطأ.

س. الذي أدينُ الله به أنّ الحضانةَ في صورتِها المنتشرةِ ضررٌ محقّق، ولا أحبّ لأحدٍ أن يعرّض أبناءَه لها. مع إدراكي أن الآراءَ تختلفُ في ذلك وتتشعّب. فإن كنتَ فاعلًا على كلِّ حال، فليس قبل أن تستقرَّ القدرةُ المذكورةُ في "ر". ولا أرى وجهًا لوضع الطّفلِ دون الرابعةِ في الحضانة كائنةً ما كانت. إلّا أن يكون ظرفًا قاهرًا وليس من جهةِ العنايةِ بسلامةِ الطّفل فإنّ هذا السلوك ليس من العناية بسلامتِه في شيء

ش. بالمثل فإن الذي أدينُ به ألّا يتعرّض الأطفال إلى الشّاشات بأنواعِها وألوانِها أبدًا إلّا لممًا يسيرًا لا يتجاوزُ دقائق في الأسبوع. فإن كنتَ لابدّ فاعلًا فبعد الرابعةِ من عمرِه وعندئذٍ لمدّةٍ لا تزيد عن نصفِ ساعةٍ في اليوم.

ص. يُعلّمُ الطفل القراءةَ باللغة الأم الغالبة أولًا، حتى إذا استقرّ فيها وشرع يقرأ من قصصِ الأطفال منفردًا بصوتٍ عالٍ وبأخطاءٍ يسيرة، جُعِلَ له وردُ قراءةٍ ثابتةٍ بالعربيّة، ثم يشرع في تعلّم القراءةِ باللغة الأمّ الثانية بعد ذلك ولا ضير من أن يتعلّم الكتابة بالأولى مع القراءةِ بالثانية

ض. (في حالةِ الاستغناء عن الحضانة) يُنظرُ في الوسط المحيط إمكانيّة خلق سياق من اللعب واللهو باللغةِ الأمّ الثانية قصرًا لمدّة ساعةٍ أو ساعةٍ ونصف أسبوعيًا، ويُرفعُ ذلك تدريجيًّا.

نسأل الله أن يلهمَنا وجميعَ الحريصين أمرَ رُشد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق