أجور حسن الخلق في الشريعة الإسلامية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إن حسن الخلق من شعائر أهل الإسلام، وهو من أيسر العبادات وأعظمها أجرا في الشريعة الإسلامية،  وحسن الخلق من أجل الصفات التي وهبها الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم:4، قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: " فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا، قريبًا من الناس، مجيبًا لدعوة من دعاه، قاضيًا لحاجة من استقضاه، جابرًا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبًا، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلي عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم" انتهى من (تفسير السعدي).

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: "خُلُقَ نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان القرآنَ"(مسلم:746). قال النووي رحمه الله تعالى: "معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره ، وحسن تلاوته" (شرح مسلم:3/268). وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: "يعني أنه كان يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن كان فيه سخطه" (جامع العلوم والحكم:1/148). وقال المُناوي رحمه الله تعالى: "أي ما دل عليه القرآن من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده إلى غير ذلك (فيض القدير:5/170).

ولقد وصف النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حسن الخلق بأجمل الأوصاف وأعذبها وأكملها، فعن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه قال: سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن البِرِّ والإثمِ؟ فقال "البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ. والإثمُ ما حاك في صدرِك، وكرهتَ أن يطَّلِعَ عليه الناسُ" (مسلم:2553). فحسن الخلق إسم جامع لكل أنواع البر، وكلما اكتسب المسلم الخلق الحسن ارتقى في درجات البر، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إِنَّمَا بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلَاقِ" رواه البخاري في (الأدب المفرد:273)،  وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة:45)، ولذا فحسن الخلق من أجل المهمات النبوية  للرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبحسن الخلق تستقيم مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وبحسن الخلق يعرف المسلم حق التأدب مع الله تعالى، وواجب الأدب مع عباد الله الكريم، وحسن معاشرة خلق الله سبحانه.

ومن جميل الوصف لحسن الخلق ما قاله الفيروزآبادي رحمه الله تعالى: "واعلم أن الدين كلّه خلُق، فمن زاد عليك في الخلُق زاد عليك في الدِّين" (بصائر ذوي التمييز: 2 / 568 ). وفي هذا الصدد ينبغي لنا مدارسة منهجية اكتساب حسن الخلق في الإسلام، ومعرفة الأجور المترتبة على هذه العبادة الثمينة، وهذه المعرفة بفضل الله تعالى ستمكننا من التحلي بالأخلاق الحسنة والسير على درب الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام،  ومجاورة أهل الصلاح يوم القيامة.

 

منهجية حسن الخلق في القرآن الكريم والسنة النبوية:

معاملة الناس بالحسنى:

إن معاملة الناس بالحسنى أمر كريم من الله رب العالمين، وهي من أبرز الآليات لاكتساب حسن الخلق، وهي نهج الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهي دأب أهل العلم والصلاح  في دعوة العباد إلى الله ملك الملوك، قال الله تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الإسراء: 54، قال الإمام ابن عاشور رحمه الله تعالى في شرح الآية الكريمة: "وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضاً بحسن المعاملة وإلانةِ القول ، لأن القول ينم عن المقاصد" انتهى باختصار من (تفسير ابن عاشور).

وقال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ) البقرة:83. قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقول الله تعالى: (وقولوا للناس حسنا) أي: كلموهم طيبا، ولينوا لهم جانبا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف ، كما قال الحسن البصري رحمه الله تعالى في قوله: (وقولوا للناس حسنا) فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنا كما قال الله تعالى، وهو كل خلق حسن رضيه الله تعالى" انتهى من (تفسير ابن كثير).

وفي سبيل معاملة الناس بالحسنى ينبغي لنا أن نحافظ على مشاعر الناس، ونتجنب التطاول عليهم باللفظ أو باليد أو بالتلميح أو بأي صورة تؤذي الناس وتكدر صفو حياتهم، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "المسلمُ من سلم الناسُ من لسانه ويدهِ، والمؤمنُ من أمنه الناسُ على دمائهم وأموالهم" (الترمذي:5010). فمن تحلى بأخلاق الإسلام،  وتتبع شعائر الإيمان، وجب عليه الامتثال لما بينه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم من موعظة بليغة ومنهجية عظيمة في تجنب أذى الناس، وفي الوفاء بالأمانة التي تلقى على عاتق المرء من قبل الناس.

 

العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وتجنب الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ:

  قال الله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]،  قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في شرح الآية الكريمة: "وقال سعيد عن قتادة  في قول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان): ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله تعالى به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله تعالى عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها" انتهى من (تفسير ابن كثير).

وفي هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى بجميل الأخلاق، ومنها الحرص على العدل والسعي له،  فالعدل سبب في راحة الناس، وسكينة النفوس، والإحسان سبب لكل جميل في هذه الدنيا،  فالإحسان منهجية المسلم في كل عمل يقوم به،  ويشمل ذلك بذل للمنافع لنفسه ولغيره، وفي معاملة الناس والحيوانات طبقا لما أمر الله تعالى به، فعن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه قال: "ثنتانِ حفظتُهما عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. قال (إنَّ اللهَ كتب الإحسانَ على كلِّ شيٍء. فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ. وإذا ذبحتم فأحسِنُوا الذبحَ. وليُحِدَّ أحدُكم شفرتَه. فليُرِحْ ذبيحتَه)(مسلم:1955). ومن أجل المهمات الشرعية لكل مسلم إيتاء ذي القربى بوصل الأرحام، وبذل المعروف لهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة. ونهى الله الكريم عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهي منهيات جامعة لكل سوء حتى يحرص المسلم على اجتنابها والبعد عنها.

قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: "وقوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ} وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر كالشرك بالله والقتل بغير حق والزنا والسرقة والعجب والكبر واحتقار الخلق وغير ذلك من الفواحش. ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية متعلق بحق الله تعالى. وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض. فصارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات لم يبق شيء إلا دخل فيها، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات. وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي فهي مما نهى الله تعالى عنه. وبها يعلم حسن ما أمر الله سبحانه به وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال وترد إليها سائر الأحوال، فتبارك من جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الأشياء" انتهى من (تفسير السعدي).

 

ادفع بالتي هي أحسن:

"ادفع بالتي هي أحسن" منهجية عظيمة في مقابلة السوء، ومرتبة أخلاقية رفيعة في كيفية مواجهة التعدي من الغير، وهذا يكسب المرء السكينة ويجنبه اشتعال الضغينة والأحقاد، وهي وسيلة مضمونة وآمنة لكي تبني جسورا من الود والألفة في قلوب من بينك وبينهم عداوة، قال الله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فصلت:34، قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى: "يقول الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ثم أمر الله تعالى بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة. {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي: كأنه قريب شفيق." انتهى من (تفسير السعدي).

قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى: "وقيل لابن عقيل في فنونه: أسمع وصية الله عز وجل (ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وأسمع الناس يعدون من يظهر خلاف ما يبطن منافقا, فكيف لي بطاعة الله تعالى والتخلص من النفاق؟ فقال ابن عقيل: "النفاق هو: إظهار الجميل، وإبطان القبيح، وإضمار الشر مع إظهار الخير لإيقاع الشر، والذي تضمنتْه الآية: إظهار الحسن في مقابلة القبيح لاستدعاء الحسن". فخرج من هذه الجملة أن النفاق إبطان الشر وإظهار الخير لإيقاع الشر المضمر، ومن أظهر الجميل والحسن في مقابلة القبيح ليزول الشر: فليس بمنافق، لكنه يستصلح، ألا تسمع إلى قوله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، فهذا اكتساب استمالة، ودفع عداوة، وإطفاء لنيران الحقائد، واستنماء الود، وإصلاح العقائد، فهذا طب المودات، واكتساب الرجال. انتهى من (الآداب الشرعية: 1 / 50 ، 51).

 

معاملة الناس كما تحب أن يعاملوك به:

من أحب أن يعامله الناس بحسن الخلق فليحسن خلقه مع الناس، وهذا دافع عظيم لتقدير مشاعر الناس وعدم تجاهلها، وبذل الخير لهم، وتقوية التعايش المحمود معهم، فعن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "إنَّهُ لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقًّا عليهِ أن يَدُلَّ أُمَّتَه على خيرِ ما يُعلمُه لهم، ويُنذرهم شرَّ ما يُعلِّمُه لهم. وإنَّ أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها. وسيُصيبُ آخرها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها. وتجيءُ فتنةٌ فيُرقِّقُ بعضها بعضها. وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمنُ: هذه مهلكتي. ثم تنكشفُ. وتجيءُ الفتنةُ فيقول المؤمنُ: هذه هذه. فمن أحبَّ أن يزحزحَ عن النارِ ويدخلَ الجنةَ، فلتأتِه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ. وليأتِ إلى الناسِ الذي يحبُّ أن يؤتى إليهِ" (مسلم:1884).

 

قول الخير أو الصمت:

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "من كانَ يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلا يؤذِ جارَه، ومن كانَ يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فليُكرِمْ ضيفَه، ومن كانَ يؤمنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ فليقُلْ خيرًا أو ليصمُتْ" (البخاري:6018). وقال عروة ابن الزبير رحمه الله تعالى: "مكتوب في الحكمة: لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء" انتهى من (حلية الأولياء: 2/178). ومن لازم قول الخير أو الصمت فقد عصم نفسه من الشرور، وجنب نفسه الحساب عن حصائد الألسنة بقول ما لا ينبغي قوله.

 

إفشاء السلام:

إفشاء السلام والحرص عليه من أجل السبل لغرس المحبة في القلوب، وهو من أعز السفراء للتواصل مع قلوب المسلمين، وهو وسيلة ميسرة يكتسب المسلم بها الأجور ويتقرب بها إلى الله تعالى للوصول إلى الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "لا تَدخُلونَ الجنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا. ولا تؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا. أوَلا أدلُّكُم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحابَبتُم؟ أفشُوا السَّلامَ بينَكُم" (مسلم:54).

 

فعل الخير وبذل المعروف للناس:

إن فعل الخير بكل صنوفه وأنواعه منبع وافر بالأجور، ومشكاة تضيء للسائرين في درب حسن الخلق، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ وأمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ وبصرُكَ للرَّجلِ الرَّديءِ البصرِ لَكَ صدقةٌ وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ" (الترمذي:1956). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "كلُّ سُلامَى من الناسِ عليه صدقةٌ ، كلُّ يومٍ تطلُعُ فيه الشمسُ ، يعدلُ بينَ الاثنينِ صدقةٌ ، ويعينُ الرجلَ على دابتِه فيحملُ عليها ، أو يرفعُ عليها متاعَه صدقةٌ ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ ، وكلُّ خطوةٍ يخطوها إلى الصلاةِ صدقةٌ ، ويميطُ الأذَى عن الطريقِ صدقةٌ" (البخاري:2989).

 

 

معاملة الناس كما تحب أن يعاملك الله تعالى:

إن أجمل منهجية يتحلى بها المسلم في سعيه لطلب حسن الخلق من الله تعالى أن يضع نصب عينيه هذه الآية الكريمة، قال الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)النور:22، قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهذه الآية نزلت في الصديق، حين حلف ألا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث. فلما أنزل الله تعالى براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله الكريم على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه – شرع الله تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق رضي الله تعالى عنهم، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله تعالى عنهم، وكان من المهاجرين في سبيل الله تعالى، وقد ولق ولقة تاب الله تعالى عليه منها، وضرب الحد عليها. وكان الصديق، رضي الله تعالى عنه، معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قول الله تعالى: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق رضي الله تعالى عنه: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا- أن تغفر لنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله تعالى عنه وعن بنته" انتهى من (تفسير ابن كثير).

فمن أحب أن يحظى بعفو الله الكريم فليستكثر من العفو عن الناس، ومن أحب أن ييسر الله العظيم أمره فعليه بتيسير الأمور للناس وقضاء حوائجهم والسعى في مطالبهم، ومن أراد خيري الدنيا والآخرة من الله ملك الملوك فعليه بالسعي الحثيث لفعل الخير للناس، والمثابرة على التعاون معهم على ما فيه الصلاح في الدنيا والآخرة، ومن أراد ستر الله الستير فعليه بستر عيوب الناس وذلاتهم.

 

الدعاء بطلب حسن الخلق:

قال الله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[البقرة:186] ولذا فإن أهم سبب للتحلي بحسن الخلق هو الإلحاح في الدعاء والرجاء من الله تعالى لكي يرزقنا حسن الخلق، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الَّلهُمَّ حَسَّنتَ خَلْقِي فَحَسِّن خُلُقِي" رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني في (صحيح الجامع:1307).

 

كنوز وأجور حسن الخلق:

أولا: أحبُّ عبادِ اللَّه إلى اللَّهِ أحسنُهُم خلقًا:

عن أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ عبادِ اللَّه إلى اللَّهِ أحسنُهُم خلقًا" أخرجه الطبراني في "الكبير" (1/182) وصححه الألباني في (صحيح الجامع:179).

ثانيا: أثقل عبادة في الميزان:

فعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما مِن شيءٍ يوضَعُ في الميزانِ أثقلُ من حُسنِ الخلقِ ، وإنَّ صاحبَ حُسنِ الخلقِ ليبلُغُ بِهِ درجةَ صاحبِ الصَّومِ والصَّلاةِ" (الترمذي:2003).

ثالثا: حسن الخلق من كمال الإيمان

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا. وخيارُكم خيارُكم لنسائهم" (الترمذي:1162) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا ، الموَطَّؤون أكنافًا ، الذين يألَفون و يُؤلَفون ، و لا خيرَ فيمن لا يألَفُ و لا يُؤلَفُ" حسنه الألباني في (صحيح الجامع:1231).

رابعا: حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وحسنُ الخُلُقِ وحسنُ الجوارِ يعمرانِ الدِّيارَ ويزيدانِ في الأعمارِ" رواه (أحمد:25298) وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة:519).

خامسا: تجنب منزلة السوء يوم القيامة:

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شرَّ الناسِ عند اللهِ منزلةً يومَ القيامةِ من تركَه الناسُ اتقاءَ شرِّه" (البخاري:6032).

سادسا: تقوى الله وحسن الخلق أكثر ما يدخل الناس الجنة:

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "سُئِلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم عن أكثرِ ما يُدْخِلُ الناسَ الجنةَ؟ فقال: تَقْوَى اللهِ وحُسْنُ الخُلُقِ، وسُئِلَ عن أكثرِ ما يُدْخِلُ الناسَ النارَ، قال: الفَمُ والفَرْجُ" (الترمذي:2004).

سابعا: بلوغ درجات الصائم القائم:

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : "إنَّ المُؤمِنَ ليُدرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ الصَّائمِ القائمِ" (أبو داود:4798).

ثامنا: حسن الخلق يجنب المسلم الإفلاس يوم القيامة:

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه. ثمَّ طُرِح في النَّارِ" (مسلم:2581).

تاسعا: حسن الخلق سبب في القرب من الرسول صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:

عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : "إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا، وإنَّ مِن أبغضَكِم إليَّ وأبعدَكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفيهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفيهِقونَ؟ قالَ: المتَكَبِّرونَ" (الترمذي:2018). وورد في الموسوعة الحديثية لموقع الدرر السنية: "الثَّرثارون"، الَّذين يُكثِرون الكَلامَ ويتَكلَّفون فيه بغيرِ حقٍّ بالسَّجعِ والحَشْوِ وغيرِه، ويُردِّدونه كثيرًا، "والمتشدِّقون" الَّذين يتَوسَّعون في الكلامِ، ويَلْوون ألسِنتَهم به، ويَفتخِرون به بغيرِ حقٍّ، وقيل: معناه: الَّذين يَستهزِئون بالناسِ بلَيِّ أشْداقِهم، والشِّدقُ هو جانِبُ الفمِ، "والمتفيهِقون"، مِن الفَهْقِ وهو الامتِلاءُ والاتِّساعُ، أي: الَّذين يتَوسَّعون في الكلامِ ويَفتَحون به أفواهَهم وهذا لكِبْرِهم ورُعونتِهم".

عاشرا: بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه:

عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم "أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حُسُنَ خلقُه" (أبو داود:4800).

حادي عشر: شهادة الناس بالخير سبب في دخول الجنة:

عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: مُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها خيرًا، فقال نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((وجَبَت، وجبَت، وجبَت))، ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شرًّا، فقال نبيُّ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((وجبَت، وجبَت، وجبت))، قال عمرُ: فِدًى لك أبي وأمي، مُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها خيرًا فقلتَ: ((وجبت، وجبت، وجبت))، ومُرَّ بجنازةٍ فأُثني عليها شرًّا فقلتَ: ((وجبَت، وجبَت، وجبت))؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((مَن أثنيتُم عليه خيرًا وجبَت له الجنةُ، ومن أثنيتُم عليه شرًّا وجبت له النارُ؛ أنتم شهداءُ الله في الأرض، أنتم شهداءُ الله في الأرض، أنتم شهداءُ الله في الأرض))؛ (مسلم:949). ويجب التوعية أن المسلم

بحسن خلقه مع الناس يسعى في ذلك رضا لله تعالى متجنبا للرياء وطلب الشهرة من الناس، ومن عرف الله تعالى وجليل قدر الله سبحانه لن يكون في قلبه ذرة من رياء،  وإنما محبة خالصة لوجه الله الكريم مالك الملك ذي الجلال والإكرام. قال الله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران:26]. 

نسأل الله الكريم أن يرزقنا وأهلنا والمسلمين حسن الخلق وجمال الأدب..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply