بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إنّ المعايشة التربوية هي لُب التربية وأساسها, وإنّ الموازنة بين الجفاء في تلك المعايشة وبين التعلق المذموم لهو من الأسس المهمة التي تضبط تلك المعايشة وتجعلها ذات نتاج إيجابي لا سلبي, وإن الخطأ في تلك المعايشة لهو من الأخطاء ذات الأثر المتسلسل الطويل إذا لم يتم تداركه؛ فهذه الورقة المختصرة تعالج جزءاً من ذلك المقصد بعرض أبرز أخطاء المعايشة التربوية من المربين, مع ذكر بعض المحتَرَزات المهمة في المعايشة التربوية, فاللهَ أسألُ أن ينفع بها القارئ والكاتب.
إنّ للمعايشة التربوية محتَرزات مهمة يجب على المربي تجنبها والحذر منها, حتى لا تُصاب تربيته بنقيض قصده, وقد جَعلتُ تلك المحتَرَزات مُعَنونة بـ اللاءات الثمانية للمعايشة التربوية:
لاتبدأ بالمعايشة إلا بعد أن تعرف هدفك منها:
لا بد من تحديد الهدف التربوي قبل البدء بالمعايشة التربوية, فإن الدعوة لها هدف عام وهي الدعوة إلى الله, وتتفرع الأهداف الفرعية من ذلك الهدف الأكبر, فيكون الهدف من المعايشة مع ذلك الطالب مثلاً: هو تخليصه من تلك المعصيته, وذلك الطالب: لغرس قيمة فيه, وطالب آخر: بغرض جعله طالباً للعلم... وهكذا, فلا بد من تحديد الأهداف الفرعية لمعايشة كل طالب في المحضن, ليكون الطريق واضحاً أمام المربي, وحتى لا تكون المعايشة عبثية عشوائية.
المعايشة لاتعني التعلّق المذموم:
لا ينبغي للمربي أن يكون التعلق المذموم الذي يثير الشبهة والشكوك حوله هو نتاج المعايشة, فضلا عمّا تولده تلك المعايشة الخاطئة من تعلق يجعل المربي والمتربي في مسطرة واحدة في عين ذلك المتربي, فلا بد من حد لتلك المعايشة وحاجز تربوي بينك وبين المتربي ليبقى لك أثر في توجيهه, وليكون ذلك الحاجز أدعى لقبول المتربي لك أيها المربي؛ وإن هذا المحور مما يحتاج لاستزادة وتعمق فسأفرده في مقال مهم قادم إن شاء الله تحت عنوان "المعايشة أمانة وورع".
لاتتعمق في المعايشة, إن توقف أو تراجع تأثيرك على المتربي:
إنّ من أَولى أولويات المربي أن يكون صاحب تأثير إيجابي على المتربي, فهو ليس رجل إداري يوجه الطلاب فحسب, بل هو رجل قائد مؤثر, فالقيادة هي التأثير بالدرجة الأولى, وإن من محاذير المعايشة أن يقلّ تأثير المربي على المتربي نتيجةً لانغماسه في المعايشة, وإذا ظهر ذلك الأمر- أقصد تناقص التأثير أو توقفه على المتربين مقارنة بالماضي- ؛ فينبغي على المربي أن لايتعمق في تلك المعايشة, وأن يتراجع قليلاً إلى منصبه التربوي, حتى يُرجع الأمور إلى مجاريها, ويعود ذلك الحاجز التربوي.
وإن مما يظهر من بعض المربين رغبته في رفع مستوى تلك المعايشة, نتيجة لأثرها الحَسن على نفسه كقُرب الطلاب منه وحب الطلاب له أكثر من غيره, فهذه النتائج الحَسنة ليست دليلاً على صحة تلك المعايشة, بل إنها دليلٌ على كون المربي قد لبّى رغبات المربين سواءً تأثّر المتربون به تأثُّراً تربويّاً أو لا, فهذه المعايشة لاتخدم الهدف التربوي بل الهدف الشخصي.
لا تُكمل في المعايشة إن كان هناك تأثُّر سلبي منك من المتربين: (التأثّر العكسي)
إن تزكية المربي لنفسه وإصلاح قلبه من الأمور التي لا ينبغي التغافل عنها أو تجاهلها, فهي المحرك أو الوقود الذي يدفع المربي في مهنته المقدسة, وإن لم يكن ذلك الوقود "الأُخرَويّ" في نفْس المربي فأحسب أن الدوافع الدنيوية هي التي ستكون محركه في تلك المهنة, فلا تسل حينها عن الآثار والتبعات السلبية لذلك المربي؛
وإن غاية المعايشة: تأثير المربي على المتريي, فإن ظهر العكس, وهو تأثّر المربي تأثراً سلبياً من المتربين "المستهدفين" فإن هذه التربية التي يقودها ذلك المربي في خطر, وينبغي مراجعة ذلك المربي, وإيقافه, فإن ذلك التأثر السلبي العكسي يعني أن المربي صاحب شخصية ضعيفة, لا ينكر المنكر بل يتأثر به, بل يشرعن ذلك الخطأ للمتربين بفعله له وتأثره به.
المعايشة لاتعني كسر الحاجز تماما:
إنّ الحاجز التربوي بين المربي والمتربي من الأمور المهمة التي لا ينبغي أن يَغفل المربي عنها, وهذا الحاجز مع وجوده تكون المعايشة التربوية, لا أن يزيل المربي ذلك الحاجز بدعوى المعايشة, فالجمع بينهما مطلوب, وإنَّ كَسْرَ ذلك الحاجز سيجعل من المتربي قريناً ونداً للمربي, وهذا سيزيد من الصعوبة في توجيهه وتربيته؛ وإنّ شخصية المربي لابد أن تبقى ثابتة دون أن تذوب مع المتربين نتيجة للانغماس في المعايشة, فلا يُفرِّق الناظر في هذه الحالة بين المربي والمتربي !
وإن مما ينبغي التنبيه له: أن الحاجز التربوي ليس حاجزاً افتراضياً جامداً مع جميع الطلاب, بل إنّ ذلك الحاجز يمتاز بالمرونة فيزيد مع طالب وينقص مع آخر, بحسب عمر طالب وأدبه وتقبّله, لا أن يُعامَل الطلاب كلهم بحاجز واحد, فيُظلَم الطالب الخلوق, أو يُكرَّم الطالب اللعوب, وإنّ المربي الماهر هو من يجيد ضبط ذلك الحاجز مع كل طالب في محضنه التربوي.
لاتُميز طالباً في معايشتك التربوية, إلا تمييزاً تربوياً:
إن من أقوى الأدوات التي يملكها المربي في تربيته هي تكريم المحسن, فبهذا التكريم يُزجر المُخطئُ بطريقة غير مباشرة, غير أن هذا التكريم ينبغي أن لا يصل إلى مرحلة التكريم المطلق "التمييز المطلق", الذي يتعدى من مرحلة تكريم الطالب لفعله الحسن, إلى مرحلة تكريم الطالب لشخصه, وهذا التكريم لا نقصد به جائزة محسوسة, بل هو المدح والثناء وتقريبه من المربي ... إلخ, فينبغي أن يُنتَبه في هذا التمييز أن يكون تمييزاً تربوياً مربوطاً بالفعل الحسن, وإذا تعدى هذا التمييز لأن يكون تمييزاً مطلقاً فإن هذا مما يخلق الحسد والبغضاء والشحناء بين الأقران, بل يصل أحياناً إلى كره المربي أيضا نتيجة لذلك التمييز, فضلاً عما يُولّده ذلك التمييز من زهو النفس عند الطالب.
ومما ينبغي التنبيه له: أن من الأسس المهمة التي تقوم عليها المعايشة التربوية, هي المعايشة الفردية والجماعية, فيعمل المربي على المعايشة مع الطالب معايشة فردية, يكتشف فيها الطالب وما يميزه وما يعيبه وما ينبغي زرعه فيه.. إلخ, ويعمل كذلك المربي على المعايشة مع الطالب معايشة جماعية فيرى فيها الطالب في مخالطته مع أقرانه واحتكاكه بهم, فيرى إنكاره للمنكر أو أمره بالمعروف, أو يرى من المتربي ما يُصدم من حالته نتيجة لتلك المخالطة والتي تستدعي التوجيه والإصلاح؛
ولا ينبغي للمربي العمل على ترك الفردية أو الجماعية فيعيش في أوهام مع المتربي, حتى إذا عايشه معايشة حقيقة وسبر شخصيته وحالته, صُدم بالواقع.
المعايشة لا تعني إقحام النفس بخصوصيات المتربي:
إقحام المربي نفسه بخصوصيات المتربي يكون غالباً مبعثه سوء الظن وكثرة الشك بالمتربي, وهذه تدعوه إلى المبالغة بمراقبة المتربي, واستنطاقه عن ذنوبه, بل والتدخل أحياناً بخصوصياته العائلية, وأحياناً تصل إلى تفتيش هاتفه!
وأنا أزعم أن حسن الظن في المتربي من الأساليب التربوية في إصلاح المتربي, فهذا مما يزيد من متانة الحاجز بين المتربي وبين وقوعه في المعاصي, فكلما همّ المتربي بالوقوع بالذنب تذكر إحسان ظن مربيه به, فكان هذا حاجزاً إضافياً مع حاجز التقوى ومخافة الله وغيرها مما يكون دافعا له لترك المعاصي أو التقليل منها على الأقل, ومما يؤكد هذا الحديث الذي رواه معاوية بن ابي سفيان عن النبي ﷺ : "إنك إذا اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم" حسّنه الألباني , فإظهار الشكوك في المتربي وكثرة إقحام النفس في معرفة ذنوب الخلوات التي يدافع المتربي فيها نفسه- مما يزيد من فساد المتربي.
لا ينبغي تضييع الوقت بالمعايشة التربوية الزائدة عن الحاجة:
للمعايشة قدرٌ واجبٌ ينبغي الحرص عليه وعدم إهماله بحال من أحوال, وللمعايشة قدر مستحب يُستحسن الحفاظ عليه, وللمعايشة قدر مباح, ينبغي إعطاؤه قدره وعدم تقديم الفاضل عليه, بل إن الإكثار منه مما يُضيع وقت المربي عن تنمية ذاته, وعن واجباته الشرعية أو الدنيوية, فلا بد للمربي من وقت يرتقي فيه بذاته, ومن أمثلة تلك المعايشة الزائدة؛ ما نراه من مجالسة المربي مع المتربي لساعات طويلة مع حديث لا قيمة له, أو التعمق في شأن من شؤون الدنيا, التي لا ينبغي التعمق فيها مع الطلاب من باب "أولويات الهموم" عند المربي, فَزَرعُ المربي لهموم الدعوة وهموم الأمة وغيرها في الطالب خلال معايشته هي الأساس, لا أن يزرع فيه هَماً من هموم الدنيا, فقد سَدَّت البيئة الخارجية هذا الثغر, فلا ينبغي للمربي الإكثار من الانشغال بها ولا بأس بذكرها عَرَضاً.
هذه أهم المزالق التربوية التي قد تقع من بعض المربين, فينبغي الحذر والتحذير منها, فاجتنابها ابتداءً خيرٌ من إصلاح ضررها بعد وقوعها, فالدفع أسهل من الرفع, والله المستعان, والحمد لله رب العالمين.
ملاحظة: الورقة مستفادة من كتابات ومحاضرات مجموعة من التربويين كسالم البطاطي وفايز الزهراني ونوح الشهري وغيرهم ممن لا أذكرهم, ومن أهم الكتب التي دفعتني لكتابة هذه الورقة هو كتاب المعايشة التربوية لسالم البطاطي وقد استفدت منه, كما أن بعض ما كُتب من اجتهاد أخيكم غفر الله له.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد