رجال تجارتهم مع الله رابحة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن أفضل وأعظم وأجل تجارة هي التجارة مع الله الكريم، ومن كانت تجارته مع الله فتجارتُه رابحة غير خاسرة في دنياه وآخرته؛ لأن تجارته مع الجواد الكريم الذي يعطي على القليل الثواب الكثير.

التجارة مع الله جل جلاله أعمالها سهلة يسيرة، وأجورها كثيرة عظيمة:

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو كل شيءٍ قدير، في يوم مائة مرةٍ، كانت له عَدل عشر رقاب، وكُتبت له مائة حسنة، ومُحيت عنهُ مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه).

 

التجارة مع الله جل جلاله أرباحها مضاعفة كثيرة:

قال جلَّ وعلا: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245].

وأخرج الإمام أحمد في المسند من حديث أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾[الحديد: 18].

 

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عما يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، ﴿ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾؛ أي: دفعوه بنيَّة خالصة ابتغاء مرضاة الله، لا يريدون جزاءً ممن أعطوه ولا شكورًا، ولهذا قال: ﴿ يُضاعف لهم ﴾؛ أي: يضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف.

التجارة مع الله عز وجل أرباحها ليس لها حصر ولا حد:

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، قال الإمام القرطبي رحمه الله في "الجامع لأحكام القرآن": اختلف العلماء في معنى قوله: ﴿والله يضاعف لمن يشاء ﴾، فقالت: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف، وهذا القول أصح.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به)؛ [أخرجه مسلم].قال الإمام القرطبي رحمه الله في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": قوله: (كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي)، اختلف في معنى هذا على أقوال...، وسابعها: أن الأعمال قد كشفت لبني آدم مقادير ثوابها، وتضعيفها إلا الصوم، فإن الله يثيبُ عليه بغير تقدير، فالله تعالى يجازي عليه جزاءً كثيرًا من غير أن يُعين مقداره ولا تضعيفه.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلا الله عز وجل.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قال سليمان بن القاسم: "كل عمل يعرفه ثوابه إلا الصبر"، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، قال: كالماء المنهمر.

 

التجارة مع الله عاقبتها: السعادة الدائمة:

التجارة مع الله عز وجل عاقبتها السعادة الدائمة، ورضا الله جل جلاله، والفوز بجناته وجزيل ثوابه، والنجاة من سخطه وعقابه وناره، نسأل الله من كرمه وفضله وجوده وإحسانه؛ قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [الصف: 10 - 12].

 

 التجارة الرابحة مع الله تكون في طاعته وتقواه:

من أطاع الله واجتنب معاصيه، فقد ربحت تجارته، وإن كان لا يملك بضاعة، قال لقمان لابنه يوصيه: يا بني، اتخذ طاعة الله تجارة تأتِك الأرباح من غير بضاعة؛ قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: 29، 30]،

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهلِك ولن تكسد.

وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ *لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور: 36، 38]،

 

قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في مسألة التجارة والذكر:

القسم الأول: من يقدِّم التجارة على الذكر، وهذا خاسر لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9]، ولو ربحوا في الأموال والأولاد فهم خاسرون.

القسم الثاني: من لا تلهيه التجارة ولا الأموال عن ذكر الله، فهذا رابح، لم يَفُتْه مالُه، ولم يفته ذكر الله، أتى لهذا بنصيبه، ولهذا بنصيبه.

القسم الثالث: من هو أعلى من هذا، يجعل تجارته من ذكر الله، بحيث يقصد بهذه التجارة الاستعانة على طاعة ربه، وعلى بذل أمواله فيما يرضي ربه.

الثالث شأنه كبير، ولكن قلَّ من يوجد بهذه الصفة، وهو نادر جدًّا، وأكثر الناس اليوم من القسم الأول الذي هو في الحقيقة أخيرًا في المرتبة".

 

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: كيف تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله؟ وتجارتهم مع الله رابحة، ومحاسنهم لذوي الألباب لائحة، ثناؤهم عطر الأنام، فهم بين الناس كالأعلام، رجال استقاموا على عبادة الحي الذي لا يموت، تأسَّوا بسيد المرسلين، وعملوا أعمال الصالحين، واتبعوا سيرة المؤمنين، رجال ليلهم قيام، ونهارهم صيام، يطلبون رضا ذي الجلال والإكرام.

رجال كحلوا أعينهم بالسحر، وغضوها عما لا يحل من النظر، لزِموا مساجد الملك الرحمن، وجالت قلوبهم في علوم القرآن.

رجال صحبوا القرآن بحسن العمل، ولم يغتروا بطول الأمل، ونصبوا لأعينهم تقريب الأجل، واشتاقت نفوسهم إلى الملك الأعلى الأجل.

رجال إذا نظروا اعتبروا، وإذا سكتوا تفكَّروا، وإذا ابتلوا استرجعوا، وإذا جُهل عليهم حلِموا، وإذا علموا تواضعوا، وإذا عملوا رفقوا، وإذا سئلوا بذلوا.

رجال رضوا من الدنيا بالقليل، فأزمعوا إلى الآخرة التحويل، ورغبوا في ثواب الملك الجليل، وحنوا إلى النعيم الدائم الجزيل.

رجال هم بالغداة والعشي في بيوت الله الطيبة، يدعون بألسنتهم رغبًا ورهبًا، ويسألونه بأيديهم خفضًا ورفعًا، ويشتاقون إليه بقلوبهم غدوًا وعشيًّا، يدبون على الأرض بغير مرح ولا ميل ولا ترح، يعبدون الرحمن، ويتلون القرآن، ويشفقون من عذاب النيران، ويخافون يومًا يكثر فيه الويل والأحزان، قد تجنبوا كل ريبة وبهتان، ولم يأمنوا مكر الملك الديَّان.

رجال المساجد مأواهم، والله جل جلاله معبودهم ومولاهم، تركوا المعاصي خوفًا من الحساب والسؤال، وبادروا إلى الطاعة وحسن الأعمال، رجال اطمأنَّت قلوبهم بذكر الرحمن، وحفِظوا ألسنتهم من العيب والبهتان.

إن التجارة الخاسرة الكاسدة البائرة هي لمن عصى وخالف الهدى الذي جاء به رسول رب العالمين، نبينا محمد علية أفضل الصلاة والسلام، فهذا ما ربحت تجارته مع الله، وإن كسب الأموال الكثيرة؛ قال الله عز جل عن المنافقين: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16]،

قال العلامة السعدي رحمه الله: وإذا كان من يبذل دينارًا في مقابل درهم خاسرًا، فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة، واختار الشقاء على السعادة، ورغب في سافل الأمور وترك عاليها؟! فما ربحت تجارته، بل خسر فيها أعظم خسارة.

 نسأل الله السلامة من الخسارة في الدنيا والآخرة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply