الخلاصة الوافية في بيان سورة الفاتحة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أحسب أن هذا المقال هو كالمدخل للخشوع في الصلاة، وذلك لأنه يقصد إلى تناول فاتحة الصلاة لعظم هذه السورة ولتعلقها بموضوع الصلاة، فإن من يصلي وهو يعقل ما تضمنته هذه السورة ويستشعر معانيها ويعلم ودلالتها العظيمة ومقاصدها وأسرارها يحصل له من الخشوع وزيادة الإيمان الشيء الكثير، خلافا لمن لا يعرف معناه أو يظن أنه يعرفه، وخلافاً لمن يقرؤها وهو غافل أو مشغول عنها، أو لأنه أَلِفَ تكرار ألفاظها فلم يعد يتدبرها، لذا بدراستها نجدد الصلة ونتخلص من الغفلة في صلالتنا.

 

إن يوم واحد جديد ندركه لا يعرف قيمته إلا من فقده، وقد لا نشعر بالأسف من تقصيرنا في استغلاله إلا حين نخلف العمر وراءنا، فإذا أدرك الإنسان أن هذا اليوم نعمة وهبة تأتي ثم لا تعود، سعى لإن يستثمره لآخرته واستقبله بقوله (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيى وبك نموت) [1]. ذكراً منه لله وحمداً له، وتذكيراً للنفس أنه هبة من واهب الحياة، ومقدر الآجال ومقسم الأرزاق وأن حصوله و سعينا فيه هو بحول الله وقوته. وأعظم ما يمكن إيقاعه في هذه اليوم الجديد بعد التوحيد والبراءة من الشرك هي الفرائض، وبالأخص الصلوات الخمس، ففي الحديث (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه) [2] وهي ميزان اليوم كما قال ابن القيم: (فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة فإنها الميزان العادل الذي وزنه غير عائل)[3].

 

والصلاة هي ثمرة اليوم قال تعالى {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فالأعمال الصالحة ومنها الصلاة ثمرة هذا اليوم ولب هذه الثمرة هو الخشوع، فكما يعد خاسرا من مضى يومه بدون صلاة، فكذلك من يمضي يومه بصلاه دون خشوع فقد ناله من الخسران بقدر ما فاته من الخشوع.

 

وللخشوع أسباب ليتم تحصيله: منها دراسة وتفهم معاني الصلاة ثم تدبر تلك المعاني في الصلاة إلى أن تعتاد النفس التدبر في كل ذكر وركن وقراءة وركوع وسجود.

 ومسألة الخشوع أهتم به العلماء، ولابن القيم كلام مؤثر ونفيس جداً في مسألة الخشوع ذكره في كتابه مسألة السماع وكتابة الآخر (الصلاة وحكم تاركها)، وقد جمع عادل عبد الشكور الزرقي الموضعين في كتاب أسماه (ذوق الصلاة).

 

والصلاة كما يقول ابن القيم بنيت على خمسة: القيام والقراءة والركوع والسجود.

 

وفي هذا المقال سنقتصر على موضعٍ واحد وهو سورة الفاتحة تفسيراً وبياناً نعبر من خلاله إلى التدبر ثم الخشوع في هذا الركن العظيم من أركان الصلاة، وكنت مؤمل أن يكون المقال أكثر ترابط وانسيابية ولكن صعب ذلك بسبب تشعب الفوائد وتنوع التفاسير التي تلحظ جانب دون آخر، وتركز على موضع دون غيره فكانت تلك تتنازع هذا المقال ولذا جعلت في خاتمته إشارات سريعة لعل باحث أو قارئ يراجعه في مضانه فتزداد الفائدة لديه.

 

من أسماء هذه السورة:

 من أسمائها: الفاتحة، وفاتحة الكتاب وفي الحديث (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) [البخاري756 ومسلم 394] ومن أسمائها: أم الكتاب، وأم القرآن لأن القران يفتتح بها، وفي الحديث ( {الحمد لله رب العالمين} أم أقران، وأم الكتاب، والسبع المثاني) [سن أبي داوود 1452] قال الإمام البخاري (سميت أم الكتاب أَنَّهُ يبتدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة) [4] ولأن آيات القرآن مفسرة وراجعة إلى ما تضمنته سورة الفاتحة فهي كالأصل له، وهي القران العظيم، والسبع المثاني قال صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) [البخاري 4474] ومن أسمائها: الصلاة بدلالة الحديث التالي:

 

حديث يستحضره الخاشع في صلاته، ويصحبنا في هذا المقال:

قال أبو هريره سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: (قالَ اللَّهُ تَعالَى: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ العَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَقالَ اللَّهُ تَعالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِقالَ اللَّهُ تَعالَى: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإذا قالَ: {مالِكِ يَومِ الدِّينِقالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وقالَ مَرَّةً فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي، فإذا قالَ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قالَ: هذا بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ، فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ) [رواه مسلم برقم 395]

 

يقول ابن القيم (فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقف هنية يسيرة، ينتظر جواب ربه له بقوله: (حمدني عبدي) فإذا قال: {الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ} انتظر الجواب بقوله: (أثنى علي عبدي) فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} انتظر جوابه: (يمجدني عبدي) فيا لذة قلبه، وقرة عينه، وسرور نفسه بقول ربه: (عبدي) ثلاث مرات. فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات، وغيم النفوس لا استطيرت فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: (حمدني عبدني) (وأثنى علي عبدي) (ومجدني عبدي).. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين؛ فيشهد مَلِكا قاهرا، قد دانت له الخليقة، وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز .. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففيها سر الخلق والامر، والدنيا والآخرة، وهي متضمنة لأجل الغايات، وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل، إعانته فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل .. ثم يشهد الداعي بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة، التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها البتة؛ فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين). ]5]

 

الاستعاذة

وتكون قبل البسملة وقبل قراءة الفاتحة قال تعالى: {إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل آية 98]

ومعنى أعوذ: أعتصم وألتجئ وأتحرز(بالله): معبودي الحق لأعبد سواه (من) شر (الشيطان الرجيم) الذي رجم ورمي وطرد وأبعد من رحمة الله جل وعلا، من شياطين الجن ومن شياطين الإنس أن يصيبوني بأذى في نفسي أو نقص في ديني أو يصرفوني عن التزام أمر ربي أو يحملوني على الإقبال على نواهيه ومالا يحب.

فالمعنى التجاء واعتصام وتحرز بالله وحده جلا وعلى.

ومناسبتها للتلاوة أن الشيطان يحضر من يتلو ليصرفه عن التدبر والخشوع وكي يحمله على الوسوسة، وليجعله غير ملتزم بما تلا من القرآن ...وغيره من شرور الشيطان فيستعيذ بالله ليصرف عنه تلك الشرور.

 

البسملة

وتكون بعد الاستعاذة، والبسملة هي آية من القرآن ولكنها ليست آية من كل سورة، وتتلى هذه الآية للفصل بين السور. [6]

ومعناها: أتلوا وأقرأ القرآن مستعينا بكل اسم من أسماء معبودي الحق.

قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} أي أقرأ وأتلو بسم الله.

اسم الله: أي من أسماء الله تعالى؟

الجواب: جميع أسماء الله تعالى الحسنى ما علمنا ومالم نعلم.

أي كأنك تقول:

 بسم الله الأحد. بسم الله السميع. بسم الله البصير. بسم الله العليم. بسم الله الحي. بسم الله القيوم. بسم الله الخالق. بسم الله الرازق. بسم الله الوهاب. بسم الله اللطيف. بسم الله الأعلى. بسم الله الأكرم. بسم الله الحسيب. بسم الله المولى. بسم الله النصير. ...إلى بقية الأسماء الحسنى

فمن يقول بسم الله وهو في حالة الخوف فإنه يستحضر بدون قصد أسماء الله الدالة على تفريج الكروب

والراجي رحمة الله عندما يقول بسم الله يستحضر بدون قصد أسماء الله الدالة على الرحمة والرجاء، مثل الرحمن الرحيم الكريم الغفور الودود.. والمذنب يستحضر الأسماء الدالة على جلال الله تعالى بدون قصد منه.

فبسم الله لها أثر على النفس وتنفتح على القلب أنواع من العبوديات ربما أختلف الناس فيها فالناس لهم أحوال ومقاصد عند البدء بالبسملة للقراءة أو غيرها.

 

معنى لفظ الجلالة (الله):

هو أعظم أسماء الله تعالى وهو علم على المعبود بحق، ومعناه الإله أي المألوه بحق أي المعبود بحق فله التأله الحق أي العبادة وحده دون ما سواه.

فأَلهَ يألهُ إلاهة أي عبد يعبد عبادة ومعنى تألَّه فلان لله أي تعَّبد لله.

إذن معنى لفظ الجلالة (الله) أي المعبود الذي يستحق وحده العبادة الحقة دون من سواه.

 (الرحمن الرحيم) نعتان للفظ الجلالة (الله)، الرحمن صيغة مبالغة من الرحمة فهي أعم واوسع شمولا وأبعد متعلقا من (الرحيم)، فالرحيم ذو الرحمة الخاصة فهي للمؤمنين وأما رحمته العامة التي دل عليها اسم الرحمن فتشمل كل شيء قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ) [الأعراف آية156] (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر آية7]

والله رحمن الدنيا والأخرة: فرحمته وسعت كل شيء في الدنيا، وأما الاخرة فرحمته للمؤمنين بإدخالهم الجنة ومغفرته لهم، وأما الكفار فبعدله فيهم ولا يظلم ربك أحدا ولا يعذب إلا من بلغته الرسالة فأبى، وهم دركات حسب أعمالهم.

وهو سبحانه رحيم الدنيا والآخرة: في الدينا بنصره للمؤمنين، وتأييده لهم وحفظه لهم وتوفيه لهم على الإيمان، وفي الآخرة بإدخالهم الجنة.

إذن (الرحمن الرحيم) تفتح باب الرجاء في قلب العبد، فقول العبد (بسم الله الرحمن الرحيم) يجعل القائل يستحضر رحمة الله الواسعة التي تشمله، ويستحضر حاجته للرحمة الخاصة فينفتح على قلبه الرجاء والتوكل على الله وتفويض الأمر إليه.

}الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{

الحمد: هو الثناء على الله محبة له.

العالمين: جمع عالم فمن العوالم عالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن وعالم الحيوان وغيرها من عوالم أخرى لا نعلمها.

بل عالم الإنس يتضمن عوالم من قرون غابرة وقرون لاحقة وأجناس من البشر الله بها عليم. يقول الإمام الطبري في تفسيره: (وأهل كل قرن من كل صنف منها –أي أجناس المخلوقات -عالم ذلك القرن وذلك الزمان) وكل ما سوى الله داخل فيها وقد فسرتها هذه الآية وهو جواب موسى عليه السلام لفرعون {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الشعراء آية 24،23]

ورب العالمين صفة أو نعت لله، فهو وحده الموصوف بأنه رب العالمين، وهو ربهم أي خالقهم ومالكم ورازقهم والمنعم المتفضل عليهم، العالم بهم وبحاجاتهم والمدبر أمورهم وشؤنهم، فله الحمد وحده دون من سواه.

ورب العالمين اسم يورث المحبة في القلب، والرحمن الرحيم يورث الرجاء، ومالك يوم الدين يورث الخوف، وهذه الأسماء الثلاثة في أول الفاتحة جمعت أركان العبادة وهي المحبة والرجاء والخوف التي هي أساس سير القلب لربه فلا يعبد بالحب وحده فيتصوف ويضل ولا بالرجاء وحده فيغفل ويسرف على نفسه ويضل، ولا بالخوف وحده فيقنط وييأس ويضل. فلا يسير العبد سيرا لله متوازناً إلا بتحقيق هذه الأركان الثلاثة.

فإن أحب الله ورجا مغفرته وثوابه مع الخوف من عقابه فقد نجا من الضلال وسار القلب سيراً صحيحاً وأبتعد عن الغرور والعجب وعن اليأس والقنوط

 يقول ابن رجب رحمه الله (وعبادة الله سبحانه تبنى على ثلاثة أركان: خوفه ورجاءه ومحبته...وقد كان السلف يذمون من يعبد الله بواحد منها ويعرض عن الآخَرين) ثم قال وهو موطن الشاهد (والخللُ الداخلُ على بعض العبادِ إنَّما هو من الاقتصار على بعض هذه الثلاثة، والإعراض عن غيره، أو التقصير فيه، بحيث لا يحصلُ اجتماعها على وجه الاعتدال). [7]

}الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{

 قد يظن كثير من الناس أن الحمد هنا على نعمة الرزق والعافية والمطعم والمشرب والحقيقة أن على العبد استحضار محامد أخرى عند القراءة والذكر.

وأنواع المحامد خمسة:

1-نحمد الله سبحانه على أنه واحد في ربوبيته، وأنه الرب المالك والسيد المتصرف في الملكوت، الخالق المدبر {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام آية 1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر آية 1] وتأمل الآيات الكثيرة في كتاب الله والتي في أولها حمد الله وتأمل ما بعدها وما فيها من معاني الربوبية.

وعلى القلب أن يستحضر معاني الربوبية وأثارها في الخلق، فيتأمل أنواع التصرف والتدبير وإفاضة الخير وحبس الشر، ولطفه تعالى وحلمه ورحمته ورزقه ويتدبر ذلك في والقرآن أيضاً ومثالا: تقيس عليه، الطير في جو السماء تقلب جناحيها ساعيها في رزقها مسبحه بحمد ربها وذلك برحمة الله {مَا یُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَـٰنُۚ} بل تأمل في قوله تعالى {ٱلرَّحۡمَـٰنُ * عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ} إلى قوله {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بل تأمل ذلك إلى نهاية السورة التي لم يرد فيها من أسماء الله تعالى إلا اسمه الرحمن وتأمل خاتمتها.

 

2-ومنها أنه محمود على أنه مستحق للإلاهية وحده دون ما سواه، فهو وحده الإله الحق المبين وما سواه من المعبودات فعبدت بالباطل.

فهو وحده من يستحق توجه القلوب له، فيعبد ويحب ويرجا ويخاف ويتوكل عليه ويحسن الظن به، ويعبد بجميع أنواع العبادات التي شرعها سبحانه.

فهنا نستحضر الثناء على الله بأنه وحده مستحق العبادة، وجميع المخلوقات ونحن منهم يسبحون الله ويثنون عليه ويعبدونه وحده.

 

3-أنه سبحانه محمود أنه له الأسماء الحسنى والصفات العلى فله الكمال المطلق.

وأسماء الله وصفاته لها آثار في الخلق تأملها يزيد المؤمن علم بالله وثناء عليه ومحبة له وخوف ورجاء، وتأملُها من أعظم الأبواب التي تزيد الإيمان وأسرعها أثراً.

 

4-الحمد لله على إنزال القرآن، وعلى حفظه، وعلى بيانه وتيسير فهمه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ} [الكهف آية1] وقال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر آية 17].

فالقرآن الكريم مشتمل على الهداية وفيه الأوامر والنواهي والمواعظ والحكم، وهو شفاء لما في الصدور فينيرها بالعلم والإيمان ويدفع عنها الأمراض، وفيه صلاح الناس والمجتمعات، وهو محفوظ لهم قد كفى الله المسلمين عناء حفظة، وتتبين نعمة حفظه بالنظر لحال حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى مع كتابهم فهم لا يطمئنون له ويعانون من النقص والتحريف وتعدد النسخ والاختلافات الكثيرة. ونحن بفضل الله نجني من القرآن الثمار ونحن مطمئنون أنها من لدن عليم حكيم فحفظه نعمة أخرى غير إنزال الكتاب.

5-الحمد لله على قضاءه وقدره وأوامره الكونية ومنها ((نعمة الرزق والعافية والمطعم والمشرب)) وهذه يستحضرها العامة من الناس أو كثير من الناس وهذا إنما هي فرد من افراد كثيرة ونوع من انواع عديدة.

وقد لا يستطيع المؤمن أن يستحضر تلك المحامد جميعاً؛ لذا يُعَوِّد قلبه بأن يستحضر نوع منها مرة في هذه الصلاة ونوع آخر في الصلاة الأخرى أو عند الأذكار حتى يعتاد قلبه على استحضار أنواع المحامد. [8]

إذن معنى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الحمد بأنواعه والثناء كله لله المستحق وحده للعبادة المتصرف في العوالم كلها.

 

تنبيهات:

الفرق بين الحمد والشكر والمدح من حيث اللغة.

الحمد: ذكر محاسن المحسن سواء كان هناك إحسان على الحامد أولا، ويكون بمحبة وهو أعم من غيره.

الشكر: يكون مقابل الإحسان والإنعام.

المدح: هو ذكر محاسن الممدوح ولا يشترط أن يكون معه محبة فقد يمدح المادح الممدوح وهو لا يحبه.

والله تبارك وتعالى له الحمد والشكر والثناء والمدح والمحبة سبحانه وتعالى.

 

}الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ{

 سبق ذكر الفرق بينهما في تفسير البسملة وسبق بيان أنها تفتح على قلب العبد باب الرجاء، حيث قلنا إن قوله تعالى (رب العالمين). يفتح على القلب باب المحبة لله جلا وعلى و(الرحمن الرحيم) تفتح باب الرجاء و(مالك يوم الدين). تفتح باب الخوف فيتزن قلب العبد ويسير إلى الله محباً راجياً خائفاً وهذه اركان العبادة أو هي معنى العبادة.

الرحمن: اسم من أسماء لله تعالى المتصف بالرحمة وهي رحمة تشمل جميع خلق الله تعالى وعلى العبد تأمل أثرها في الخلق وفي أصناف المخلوقات في البر وفي البحر وما سخره الله وهيئة لها، بل في كل كائن تجد أثرا الرحمة فيما أعطاه الله ويسر له.

وقد ذُكرتْ مع صفة العلو والاستواء {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ} [طه آية5] (ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا )[الفرقان آية59] كذلك ذكرت هذه الصفة مباشرة بعد قوله (رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (1) ٱلرَّحۡمَـٰنِ) في سورة الفاتحة.

لشمول هذه الصفة جميع الخلائق قال تعالى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف 156] وقال تعالى {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر آية 7]

الرحيم: وهي خاصة بالمؤمنين فالله بهم رحيم يهديهم ويحفظهم ويزيدهم هدى ويدافع عنهم ويصلح أمرهم ويخفف عنهم أهوال الموقف والعرض ويهديهم عبور الصراط ويدخلهم جنات النعيم.

والله سبحانه لو أرد أن يشق على عبادة في دينهم وفي دنياهم لشق عليهم قال تعالى {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ}[البقرة 220] وهو تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء 23] ولكنه كما أخبر عن نفسه (لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ) [البقرة 286] لاتصافه سبحانه بالرحمة، وقد كتب على نفسه الرحمة، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لَمَّا قضى الله الخلق كتب في كتابِه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي)) [أالبخاري 3194]

فنحن نحمد الله في صلاتنا مستحضرين أنواع المحامد قائلين: الحمد لله، الحمد لرب العالمين، الحمد للرحمن، الحمد للرحيم، الحمد لمالك يوم الدين، لأنه لما قيل الحمد لله وصف الله نفسه بصفات أنه رب العالمين وانه الرحمن الرحيم وأنه مالك يوم الدين.

وقبل الانتقال للآية التالية أنقل لك فائدة وقفت عليها للحافظ ابن رجب يقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى { ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (2) ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (٣) مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ} (افتتح سبحانه  وتعالى سورة الفاتحة بهذه الأسماء الخمسة وهي كالأصول للأسمى الحسنى وإليها مرجع بقية الأسماء. فإن الأسماء المتضمنة للكبرياء والعظمة والعز ونحو ذلك ترجع إلى اسمه: (رب العالمين) والأسماء المتضمنة للإنعام والإفضال والإحسان والكرم والعفو والمغفرة ترجع إلى اسمه: (الرحمن الرحيم) والأسماء المتضمنة للقهر والبطش والانتقام ترجع إلى اسمه: (مالك يوم الدين) وهذه الأسماء الخمسة يتعلق بها أول الخلق وآخرهم وبدأُ الخلق ومعادهم، وبدايتهم ونهايتهم، إذ هي متضمنة لاسم: (الإله)، و(الرب)، و (الرحمن)، و (الرحيم)، و(مالك يوم الدين) فـ (الإله) هو معبود الخلق و(الرب) هو موجدهم ومربيهم، و(الرحمن الرحيم) هو الشامل لهم بالإحسان العاجل والآجل و(مالك يوم الدين) هو المجازي لهم بأعمالهم في الآخرة. [9]

}مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ{

أي يوم الدين لله سبحانه ملك له تعالى، وخص يوم الدين مع أنه سبحانه مالك كل شيء لأن الناس في الدنيا تملك ما ملكها الله إياه وتتصرف فيما تملكه أما في ذلك اليوم لا يملكون شيئا {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافرآية16] وقد فسرتها هذه الآيات من سورة الانفطار {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} [الانفطار آية 17-19] وكذلك من أوجه تخصيصه كي يستحضر العبد عظم شأن ذلك اليوم وما يحصل فيه من أمور.

 

يقول ابن القيم: (ولما وصفه سبحانه بتفرده بملك يوم الدين وهو الملك الحق المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله، سمى هذا الثناء مجداً، فقال: مجدني عبدي، فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة والجلال)[10]

الدين: هو الجزاء والحساب {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات53] أي لمجزيون ومحاسبون {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور آية 25] أي جزاء أعمالهم بالعدل.

وهذه الآية هي نعت لله تعالى فبعد أن وصف نفسه بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم وصف نفسه بأنه مالك يوم الدين وهي صفة تورث في القلب الإجلال والخوف وتقطع تعلق القلب بغير لله تعالى.

ويوم الدين هو آخر أيام الدنيا يبعث الله فيه جميع مخلوقاته، أنس وجن وحيوان، فيبعث الله تعالى آدم عليه السلام وجميع ذريته للعرض والجزاء، وهو يوم مدته خمسون ألف سنه ولكن يخففه الله على المؤمن فلا يجد مدته إلا كما بين الظهر للعصر كما ورد بذلك الحديث عند الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر) [صححه الألباني، صحيح الجامع 8193]

ويوم الدين يتضمن أمور عظام، كالعرض وتطاير الصحف ووزن الأعمال والحوض والظلمة وعبور الصراط، كما يتضمن أحداث غيرها كثيرة جداً وردت تفاصيلها في القران والسنة.

والعلم بما تضمنه يوم الدين يبعث في النفس حين قراءة هذه الآية التمجيد لله والخشوع في الصلاة وزيادة الإيمان؛ لذا من المناسب هنا ذكر بعض الأحداث التي تقع في يوم الجزاء والحساب أي بعد النفخة الثانية وقيام الناس من قبورهم ونذكرها مرتبة نقلاً من شرح صالح آل الشيخ في شرحه على العقيدة الطحاوية يقول:

وهذه المسألة في ترتيب هذه الأشياء يوم القيامة، وهي مسألة مهمة.

فإنَّ ما يحصل يوم القيامة وما يكون فيه الذي جاء في الكتاب والسنة أشياء كثيرة، مثل ما ذَكَرْ قيام الناس، الحوض، الميزان، الصحف، الحساب، العرض، القراءة، تطاير الصحف، الكتاب، الصراط، الظلمة، وهذه أشياء متنوعة، فكيف ترتيبها؟

الظاهر والذي قرَّرَهُ المحققون من أهل العلم أنَّ ترتيبها كالتالي:

1-إذا بُعث الناس وقاموا من قبورهم ذهبوا إلى أرض المحشر، ثم يقومون في أرض المحشر قياماً طويلا، تشتد معه حالهم وظمؤُهُم، ويخافون في ذلك خوفاً شديداً؛ لأجل طول المقام ويقينهم بالحساب وما سيُجري الله -عز وجل -عليهم.

2-فإذا طال المُقام رَفَعَ الله -عز وجل -لنبيه صلى الله عليه وسلم أولاً حوضه المورود، فيكون حوض النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة إذا اشتد قيامهم لرب العالمين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

فمن مات على سنّته غير مًغَيِّرٍ ولا مُحْدِثٍ ولا مُبَدِّلْ وَرَدَ عليه الحوض وسُقِيَ منه فيكونُ أول الأمان له أن يكون مَسْقِيَاً من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها يُرْفَعُ لكل نبي حوضه، فيُسْقَى منه صالح أمته.

3-ثم يقوم الناس مُقاماً طويلاً ثم تكون الشفاعة العظمى -شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم- بأن يُعَجِّلَ الله - عز وجل - حساب الخلائق في الحديث الطويل المعروف أنهم يسألونها آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم إلى آخره، فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: يا محمد، ويصِفُونَ له الحال وأن يقي الناس الشدة بسرعة الحساب، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد طلبهم اشفع لنا عند ربك، يقول: (أنا لها، أنا لها) فيأتي عند العرش فيخر فيحمد الله - عز وجل - بمحامد يفتحها الله - عز وجل - عليه، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تُعْطَ واشْفَعْ تُشَفَّعْ. فتكون شفاعته العظمى في تعجيل الحساب.

4-بعد ذلك يكون العرض -عرض الأعمال-.

5-ثم بعد العرض يكون حساب.

6-وبعد الحساب الأول تتطاير الصحف، والحساب الأول من ضمن العرض؛ لأنه فيه جدال ومعاذير، ثُمَّ بعد ذلك تتطاير الصحف ويُؤْتَى أهل اليمين كتابهم باليمين وأهل الشمال كتابهم بشمالهم فيكون قراءة الكتاب.

7-ثم بعد قراءة الكتاب يكون هناك حساب أيضاً لقطع المعذرة وقيام الحجة بقراءة ما في الكتب.

8-ثم بعدها يكون الوزن، الميزان، فتوزن الأشياء التي ذكرنا.

9-ثم بعد الميزان ينقسم الناس إلى طوائف وأزواج؛ أزواج بمعنى كل شكل إلى شكله، وتُقَامْ الألوية -ألوية الأنبياء-لواء محمد صلى الله عليه وسلم، ولواء إبراهيم، ولواء موسى إلى آخره، ويتنوع الناس تحت اللواء بحسب أصنافهم، كل شَكْلٍ إلى شكله.

والظالمون والكفرة أيضاً يُحْشَرُونَ أزواجاً يعني متشابهين كما قال {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ}[ الصافات:22-23]؛ يعني بأزواجهم يعني أشكالهم ونُظَرَاءَهُمْ، فيُحْشَرْ علماء المشركين مع علماء المشركين، ويُحْشَرْ الظلمة مع الظلمة، ويُحْشَرْ منكري البعث مع منكري البعث، ويُحْشَرْ منكري الرسالة وهكذا في أصناف.

10-ثُمَّ بعد هذا يَضْرِبُ الله - عز وجل - الظُّلمة قبل جهنم والعياذ بالله، فيسير الناس بما يُعْطَونَ من الأنوار، فتسير هذه الأمة وفيهم المنافقون، ثُمَّ إذا ساروا على أنوارهم ضُرِبَ السُّور المعروف {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى}[الحديد14،13] الآيات، فيُعْطِيْ الله - عز وجل - المؤمنين النور فيُبْصِرُون طريق الصراط، وأما المنافقون فلا يُعْطَون النور فيكونون مع الكافرين يتهافتون في النار، يمشون وأمامهم جهنم والعياذ بالله.

11-ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم أولاً ويكون على الصراط، ويسأل الله -عز وجل -له ولأمته فيقول: «اللهم سلّم سلم، اللهم سلّم سلم». فَيَمُرْ صلى الله عليه وسلم وتَمُرُّ أمته على الصراط، كُلٌ يمر بقدر عمله ومعه نور أيضاً بقدر عمله، فيمضي مَنْ غَفَرَ الله -عز وجل -له، ويبقى في النار يسقط في النار في طبقة الموحّدين من شاء الله -عز وجل -أن يُعَذبه.

ثم إذا انتهوا من النار اجتمعوا في عَرَصَات الجنة يعني في السّاحات التي أعدها الله -عز وجل -؛ لأن يُقْتَصَّ أهل الإيمان بعضهم من بعض ويُنْفَى الغل حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل.

12-فيدخل الجنة أول الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين، فقراء الأنصار إلى آخره ثم فقراء الأمة، ويُؤَخَرْ الأغنياء لأجل الحساب الذي بينهم وبين الخلق ولأجل محاسبتهم على ذلك.

إلى آخر ما يحصل في ذلك مما جاء في القرآن العظيم). [11]

 

{إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ}

بعد أن حمد العبد ربه، وأثنى على الله بجميل صفاته، وعرف يوم الجزاء والمعاد، واكتملت أركان العبادة: الحب والرجاء والخوف، جاءت (إياك نعبد) فيكون قلب العبد مستحضر تلك المعاني وهو مقبل بعبادته على ربه.

ومعناها لا نعبد إلا الله فهي بمعنى لا إله إلا الله، والآيات التي تبين معناها كثيره ومنها {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء آية 32]

والاستعانة عبادة من العبادات، وإنما أفردت بالذكر لأن العبد يحتاج في عبادته إلى إعانة الله له. . (وتنبيها لأهميتها فقد يستحضر العبد الامتثال للأمر ويغفل عن افتقاره لمعونة الله له بل قد نفتها القدرية وقالوا العبد لا يحتاج إلى معونة خاصة. ثم لو علم العبد أهمية الاستعانة فإن شعوره بالحاجة للإعانة قد لا يحصل إلا في حال المرض والضعف لذا أفردت لأهمية العلم بها والعمل بها. وأخرت عن العبادة لان العبادة غاية والاستعانة وسيلة، ولتكون أقرب لسؤال الهداية فإنها طلب هداية وما بعدها سؤال هداية للصراط) [12]

وأول الآية تبرؤ من الشرك، والثاني (إياك نستعين) تبرؤ من الحول والقوة، فنعبد الله مستعينين به قال تعالى {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ} [هود آية123]  {قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ } [الملك آية 29] {رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إله إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل آية 9]

يقول ابن عثيمين: والتوكل نصف الدين، لذا نقول في صلاتنا (إِيَّاكَ نَعبدُ وإِيَّاكَ نَستَعينُ) فنطلب من الله العون اعتماداً عليه سبحانه بأنه سيعيننا على عبادته. [13]

 يقول ابن القيم: وهي متضمنة لأجل الغايات، وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته، فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات، وإعانته أجل الوسائل . [14]

ويقول أيضا: إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد، تراميا به إلى التلف ولابد، وهما الرياء، والكبر. فدواء الرياء بـ (إِيَّاكَ نَعبدُ) ودواء الكبر بـ (وإِيَّاكَ نَستَعينُ) وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء (وإياك نستعين) تدفع الكبرياء. [15]

 

ويقول أيضا: فإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) انتظر جواب ربه له: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وتأمل عبودية هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميز الكلمة التي لله والكلمة التي للعبد، وفقه سر كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة " إياك نعبد" والتوحيد الذي تقتضيه كلمة " إياك نستعين "، وفقه سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما والدعاء بعدهما[16]

وإياك نعبد في الأصل نعبد إياك، ولكن قدم الضمير المنفصل (إياك) من أجل الحصر، أي حصر العبادة لله وحده دون من سواه، فتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر.

ففي اللغة العربية عندما تقول لزيد: "أعطي إياك" فلا يمتنع دخول غير زيد فتقول لزيد: "أعطي إياك وخالداً" فهذا يصح لغة، ولكن إن قلت: "إياك أعطي" فقد حصرت الإعطاء لزيد وحده.

يقول ابن القيم رحمه الله: (في ضمير (إيَّاك) من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل، ففي (إياك قصدت وأحببت) من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي، ما ليس في قولك (قصدتك وأحببتك). وإياك أعني، فيه معنى: نفسك وذاتك وحقيقتك أعني) وقال أيضاً رحمه الله في نفس السياق (وفي إعادة (إيَّاك) مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين، ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه، فإذا قلت لملك مثلاً: إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ما ليس في قولك: إياك أحب وأخاف). [17]

ومن اللطائف في هذه الآية أن الخطاب انتقل من الغَيْبة إلى المخاطب، وهو نوع من البلاغة يسمى الالتفات، ويرد في بعض المواضع في القرآن الكريم لفائدة تناسب السياق والمقام التي وردت فيه، وهنا تحول الكلام من ضمير الغيبة إلى ضمير المخاطب (إياك نعبد) فكأن العبد بعد الثناء على الله أقترب وحضر بين يدي الله تعالى. وننقل كلام الحافظ ابن رجب ليوضح لنا بعض هذه الأسرار يقول رحمه الله: (وفي مناسبة الانتقال ههنا من الغيبة إلى الخطاب معنيان: أحدهما أن التالي للفاتحة لمَّا أثنى على الله سبحانه وتقبَّل ثناؤه حصل له بذلك تقريب لم يكن حاصلاً قبلُ، فخاطب حينئذ مخاطبة الحاضر، فقال: {إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ} والمعنى الثاني وهو الذي ذكره الزمخشري [18] ومن بعده المفسرين: (أن التالي للفاتحة لمَّا حمد الرب وأثنى عليه بأوصافه وأسمائه تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالتعظيم والعبادة والاستعانة فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات، فقيل: إيَّاك يامن هذه صفاته نعبد وإيَّاك نستعين. وحقيقة هذا المعنى أن العبد إذا استغرق بذكر الأسماء والصفات وغلب عليه سلطان المعرفة والمحبة استولى عليه شاهدُ المثل الأعلى، واستغرق فيه حتى يصير كالمشاهدِ، فيخاطب على الحضور لا على الغيبة وهذا مقام عظيم، وهو مقام الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه)) [19]

 

قلت ولعل من اللطائف  في كون الاستعانة أفردت وأخرت؛ لأن من حقق العبودية لله فقد استحق معونة خاصة من الله له فهو كالثواب بعد العمل، فمن ثمرات التعبد إعانة الله لعبده ويدل على هذا حديث أَبِي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ) [رواه البخاري6502]. فمعونة الله لعبدة ثمرة من ثمرات التعبد، وفي الحديث (من كانتِ الآخرةُ هَمَّهُ جعلَ اللَّهُ غناهُ في قلبِهِ وجمعَ لَه شملَهُ وأتتهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ) الحديث والله تعالى أعلم (الترمذي 2465 وصححه الألباني 6510)

 

والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. ومنها الدعاء والحج والذبح والنذر والاستغاثة والخوف والرجاء، وقد بينتُ ضرورة الإخلاص في الدعاء والآيات الدالة على وجوب إفراد الله بالدعاء وأنه من أجل العبادات وبينت الشبهات التي يوردها القبوريون في باب الدعاء والجواب عليها ضمن مقال بعنوان (رسالة إلى من يستغيث بالقبور) منشور في موقع طريق الإسلام وجامع الكتب المصورة في التلقرام.

 

}وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{

كرر (إياك) ولم يقل إياك نعبد ونستعين لتأكيد الاختصاص فلا يستحق العبادة ولا يستحق الاستعانة أحد إلا الله.

يقول ابن تيمية رحمه الله: (قوله "إياك نعبد" إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلاهيته من المحبة والخوف والرجاء والأمر والنهي "وإياك نستعين" إشارة إلى ما اقتضته الربوبية من التوكل والتفويض والتسليم) [مجموع الفتاوى 1/89] ­

وفي أنوار هذه الآيات وهذا المقام من مقامات العبودية يأسف المرء على حال من يتوجه لغير الله والعياذ بالله كالقبورية فعندما يقول القبوري في صلاته (إياك نعبد) فهو قول بلا عمل، إما جهلاً بمقتضى الآية أو إصرارً عناداً، وهو كاذب في دعواه، فلم يخص الله وحده بالعبادة، كما أنه لم يفقه التوحيد في قوله (رب العالمين) فزعم أن مع الله مدبر خالق غيره، تعالى الله عن ذلك، ولم يفقه (الرحمن الرحيم) فتوجه قلبه إلى دعاء العاجز المفتقر للرحمة المحتاج لها، ولم يتدبر (مالك يوم الدين) فتوجه بالدعاء إلى من لا يملك لنفسه شيئا، ولم يتفكر في (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) فغاب عنه أن الطلب يكون من الله وحده وغاب عنه أن الأنبياء والأولياء إنما تفضل الله عليهم بالهداية فلم يهدوا أنفسهم، بل الله هو المنعم وحده المتفضل عليهم بالنبوة والهداية والثبات، فلا يملك أحد أن يهدي أحداً {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص آية 56] ولم يقتدي بالأنبياء والصالحين في كونهم يدعون الله وحده ويسألونه أن يهديهم و ينجيهم من سبُل المغضوب عليهم ومن سبل الضالين، ولم يقتدي بهم في (إياك نعبد) وبالجملة الفاتحة هي توحيد وإفراد لله بالعبادة والدعاء، وهذا ليس عند القبوري وإن نطق حروفها في صلاته، فإنه لم يعمل بمقتضاها بل خالفه وناقضه بفعله واعتقاده.

ولكن هذا كما يقول بعض العلماء: بسبب إلف القرآن أي يألف تكرار قراءته ويغفل عن معناه ودلالته وإرشاده.



}ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ{

هذا أشمل دعاء وأنفعه ولا يوجد في القرآن ولا في السنة دعاءً أشمل منه ولا أنفع.

والهداية كما يقول بعض أهل العلم نوعان عامة وخاصة، العامة هي التي تعم الحيوان والإنسان وهي الهداية في أمور المعاش والحياة، وأما الهداية الخاصة تكون في الإرشاد والتوفيق لسلوك الصراط المستقيم الموصل لله والدار الأخرة.

ومعنى الآية دلنا وأرشدنا وعلمنا ووفقنا للعمل وسلوك الطريق المستقيم ، الموصل إلى رضى الرحمن وإلى دار السلام في الآخرة.

وهو دعاء مسألة والذي سبق في أول الفاتحة دعاء عبادة وهو الثناء على الله.

والصراط هو الطريق المستقيم الواضح الذي لاعوج في ولا خفاء، من سار عليه وصل.

وهنا يذكر بعض المفسرين إشكال ويذكر الإجابة عليه وهو:

كيف نسأل الله الهداية للصراط المستقيم ونحن مسلمون نتبع القرآن والسنة؟ ثم يجيب بأن المراد أي ثبتنا على الصرط المستقيم.

هكذا يورد بعض المفسرين.

ولكن الصواب أو الأصوب:

أن المراد دلنا وأرشدنا يا ربنا دائما وأبدا، ووفقنا للعمل دائماً وابداً، وثبتنا على الصراط في الدنيا ووفقنا لسلوكه وعلمنا إياه، فدين الإسلام يتضمن أركان الإيمان وأركان الإسلام ويتضمن الفراض والواجبات والمستحبات وفيه فروع ومسائل العبد بحاجة لمعرفتها ومعرفة الصواب فيها والتوفيق للعمل بها  وتأتي نوازل وتعرض شبهات والعبد قد يذنب ويزل فيحتاج هداية إلى التوبة والرجوع للاستقامة على الصراط، فالعبد بحاجة مستمرة لهداية الله له وإرشاده وتوفيقه وتثبيته وازدياده واستمراره فالكل بحاجة لهذا الدعاء حتى الأنبياء والرسل يحتاجون دائما إلى أن يهديهم ربهم الصراط المستقيم، وليس الشأن في بداية سلوكه بل الشأن في الاستمرار عليه إلى الممات لا سيما وقد قعد على جنباته شياطين الإنس والجن لإغواء السالكين كما أخبر الله تعالى عن إبليس {لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَٰطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ} [الأعراف ١٦].

 

وهو دعاء يراد به صراط الآخرة كذلك، أي أرشدنا لسلوك الصراط المستقيم المنصوب على ظهر جنهم يوم تضرب الظلمة -أي الظلام -حول جهنم، وفقنا لسلوكه يوم يضل عنه الكافرين ويتبعون ماكنوا يعبدون فتوردهم النار {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات آية 32،22]

فتطلب الله أن يهديك صراط الجنة يوم يضل من يضل في الآخرة {وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء آية 72]

ويوم ينطفئ نور المنافين ويستنجدون بالمؤمنين {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} [الحديد آية 13]            

فأنت تسأل الله أن يهديك طريق الجنة قال تعالى {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد آية 5،4] فهم قد قتلوا وانتقلوا من هذه الحياة الدنيا، فيكون المراد بالهداية في الآية الهداية في الآخرة، قال بعض أهل التفسير: (يهديهم إلى طريق الجنة كما قال تعالى {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}) [يونس 9] [20] وقال الطبري في تفسيره ( وقد سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الصراط المستقيم ؟ قال هو طريق تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة).

فأنت في صلاتك تسأل الله الهداية إلى صراط المستقيم في الدنيا والآخرة، تستشعر ذلك وأنت تصلي.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضربَ اللهُ تعالى مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنْبَتَيِ الصراطِ سورانِ، فيهما أبوابٌ مُفَتَّحَةُ، وعلَى الأبوابِ ستورٌ مُرْخَاةٌ، وعلى بابِ الصراطِ داعِ يقولُ: يا أيُّها الناسُ! ادخلوا الصراطَ جميعًا ولَا تَتَعَوَّجوا، وداعٍ يدعُو مِنْ فَوْقِ الصراطِ، فإذا أرادَ الإِنسانُ أنْ يفتحَ شيئًا مِنْ تِلْكَ الأبْوابِ قال: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْهُ، فإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فالصراطُ الإسلامُ، والسُّورانِ حدودُ اللهِ، والأبوابُ الْمُفَتَّحَةُ محارِمُ اللهِ تعالى، وذلِكَ الدَّاعِي على رأسِ الصراطِ كتابُ اللهِ، والداعي مِنْ فوقٍ واعظُ اللهِ في قلْبِ كُلِّ مسلِمٍ) رواه النسائي 1123 وصححه الألباني)

هذا فيصراط الدنيا وهناك أحاديث أخر وأما في صراط الآخرة

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (..فَيَمُرُّ أوَّلُكُمْ كالْبَرْقِ قالَ: قُلتُ: بأَبِي أنْتَ وأُمِّي أيُّ شيءٍ كَمَرِّ البَرْقِ؟ قالَ: ألَمْ تَرَوْا إلى البَرْقِ كيفَ يَمُرُّ ويَرْجِعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وشَدِّ الرِّجالِ، تَجْرِي بهِمْ أعْمالُهُمْ ونَبِيُّكُمْ قائِمٌ علَى الصِّراطِ يقولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حتَّى تَعْجِزَ أعْمالُ العِبادِ، حتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلَّا زَحْفًا، قالَ: وفي حافَتَيِ الصِّراطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنِ اُمِرَتْ به، فَمَخْدُوشٌ ناجٍ، ومَكْدُوسٌ في النَّارِ) [رواه مسلم 195]

فالله سبحانه علمنا أن ندعوه بهذا الدعاء، وهدنا له وشرعه لنا في كل ركعة، فبعد أن نثني عليه ونمجده ونوحده بالعبادة ندعوه بأن يهدينا الصراط المستقيم في الدنيا وفي الآخرة فندخل الجنة، ومن تحقق له هذا فكفى بها من نعمة.

 

}صِرَٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ{

والذين أنعم الله عليهم هم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة النساء قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} [النساء 69] ومن أقتدى بهم فجمع بين العلم والعمل فهو معهم.

 

وفي هذه الآية إشارة إلى صحة إمامة الصديق رضي الله عنه لأنا أمرنا بسلوك صراط المنعم عليهم ومنهم الصديقين وأبو بكر رض الله عنه المقدم فيهم ، فنحن مأمورون باتباع الصديق رضي الله عنه، أشار إلى هذا صاحب أضواء البيان.

 

وفي الآية إيناس للمؤمن السائر إلى الله تعالى فلا يستوحش وليعلم أنه ليس وحده وأن هذا الصراط سلكة الأنبياء والرسل والشهداء وسلكة الصالحون من هذه الأمة ومن الأمم قبله، فأنت تسير على الطريق المستقيم في مرافقة هؤلاء {وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا} الآية، ففيه تثيب للمؤمن وزيادة طمأنينة له، وهو طريق محفوف بالمكاره والشدائد وقد ينال أهل الباطل من المؤمن ويتسلطون عليه بالأذى فيتذكر أنه يرافق هؤلاء فيصبر، يقول ابن رجب رحمه الله : (فإن الطريق قد يكون مستقيما ولكن يحصل لسالكه استيحاشٌ من قلة سالكيه، فإن النفوس مجبولة على التأسي، وعلى الوحشة من التفرد، فالبدل المذكور – يريد أن هذه الآية بدل من الآية التي قبلها - يزيل هذا الاستحياش بذكر السالكين عليه، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا يستوحش السالك –في زمانه- على هذه الطريق، فإنه وإن كان أهله في وقتٍ قليلاً، فإن رفقاءَه في الحقيقة هم خير الخلق وأفضلهم وأشرفهم ) [21]

 

وفيها تجلية لصفة هذا الصراط ببيان سالكيه فالسبل كثيرة وأما سبيل الأنبياء والرسل والشهداء والصالحون واحد وليس متعدد قال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام آية 153]

وفيها بشارة لك كما في الحديث المتقدم. فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ (نسأل الله الثبات عليه.

وفيها اسناد الفضل لله تعالى فقال (صراط الذين أنعمت عليهم) فالله وحده هو المنعم عليهم بالهداية.

وهذا فيه إبعاد للقلب عن الغرور والثقة بالنفس، أو توهمه بأنه بلغ الاستقامة أو سيثبت عليها بجهده واجتهاده وحده، فلا غنى للعبد عن الله طرفة عين فالله وحده له الفضل والمنة والإحسان فإذا أستشعر ذلك العبد حمد الله عند فعل الطاعة وعلم أنها بتوفيق الله وإنعامه عليه.

 

وفيها تجلية لصفة هذا الصراط ببيان سالكيه فالسبل كثيرة وأما سبيل الأنبياء والرسل والشهداء والصالحون واحد وليس متعدد قال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام آية 153]

وفيها بشارة لك كما في الحديث المتقدم. فإذا قالَ: {اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم غيرِ المَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ} قالَ: هذا لِعَبْدِي ولِعَبْدِي ما سَأَلَ (نسأل الله الثبات عليه.

وفيها اسناد الفضل لله تعالى فقال (صِراطَ الَّذينَ أنْعَمْتَ عليهم) فالله وحده هو المنعم عليهم بالهداية.

وهذا فيه إبعاد للقلب عن الغرور والثقة بالنفس، أو توهمه بأنه بلغ الاستقامة أو سيثبت عليها بجهده واجتهاده وحده، فلا غنى للعبد عن الله طرفة عين فالله وحده له الفضل والمنة والإحسان فإذا أستشعر ذلك العبد حمد الله عند فعل الطاعة وعلم أنها بتوفيق الله وإنعامه عليه.

كما دلتنا هذه الآية على ضرورة العلم والعمل والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به وبأصحابه وبمن سار على نهجهم من أهل العلم وأن نتفقه في دين الله لنعبد الله على بصيرة ونتجنب البدع والسبل المنحرفة ففرض الله علينا هذه السورة في كل ركعة لشدة الحاجة لهذا الدعاء.

{غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ}

المغضوب عليهم هم اليهود والضالين هم النصارى، كما فسره السلف بذلك وورد به الحديث النبوي، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا أهل نبوة وكتاب ورسالة، فكانوا أهل صراط مستقيم -بخلاف المشركين والمجوس- ثم زاغوا عنه، فأما اليهود فزاغوا عنه بعلم فهم مغضوب عليهم وأما النصارى فزاغوا عنه بجهل، لذا نسأل الله الذي من علينا بالنبوة والكتاب والرسالة أن يجنبنا طريقهم ، فأنت تسأل الله أن يجنبك سبيل المغضوب عليهم وهم كل من عرف الحق ولم يتبعه ومثالهم الواضح اليهود، وأظهر صفاتهم أنهم يعرفون الحق ويتركونه ويتبعون أهواءهم حسدا وتبكراً وبغياً. وليست الصفة المذكورة في الآية مختصة بهم بل كل من تبين له الهدى وتمسك بالباطل فهو داخل في هذه الصفة فتدعو الله أن يجنبك صراطهم المعوج الذي يحيد بهم عن جنته ورضوانه ويوصلهم لناره وسخطه، فتستعيذ بالله أن تتبع هواك وتخالف ما علمته من شريعة الله تعالى.

والضالين هم كل من تعبد لله بهواه وترك طلب معرفة الحق وتعبد عن جهل، ومثالهم النصارى فتعبدهم عن جهل وعماء، فهذه أظهر صفاتهم وليست مختصة بهم، بل يدخل فيها طوائف من الصوفية والمتفلسفة والمعتزلة ونحوهم، فتستعيذ بالله أن يكون سعيك بغير علم وبصيره بشرعه.

فصارت الأصناف ثلاثة: صنف عرف الحق واتبعه وهم المنعم عليهم، وصنف عرف الحق ولم يتبعه وهم المغضوب عليهم، وصنف لم يعرف الحق وعمل على جهل وهم الضالين.

ومعنى (آمين): اللهم استجب، ولما تضمنت الفاتحة الدعاء بنوعية: دعاء الثناء، ودعاء المسألة كان جدير أن نتخلق بأدب الدعاء الوارد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ) [الترمذي (3479) وحسنة الألباني في صحيح الجامع 245]

 

الخاتمة

سورة الفاتحة هي أم الكتاب وقد تضمنت الإشارة إلى دلالة الفطرة المودعة في نفوس البشر على خالقها وفاطرها، أي لما كان من غرض السورة التعريف بالخالق جلا شأنه  ابتدأت بالحمد لله والاعتراف بأنه رب العالمين، وبأنه مالك يوم الدين، دون استدلال أو تقرير أو تمهيد سابق، اعتمادا على فطرة الله التي فطر الناس عليها، وذلك كما في قوله تعالى {رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیࣰا یُنَادِی لِلۡإِیمَـٰنِ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ} [آل عمران ١٩٣] وكما في قوله تعالى {أَفِی ٱللَّهِ شَكࣱّ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ}[ إبراهيم ١٤] وفي هذا رد على أرباب الكلام الذين زعموا أن أول واجب على المكلف النظر أو القصد إِلى النظر، أو الشك .أيضا تضمن الفاتحة مع الفطرة محاسن الدين الإسلامي التي هي السبب الأول في اعتناق الناس له، ومحاسنه تظهر بمقارنته مع الجاهلية ومع الأديان المنحرفة الأخرى من حيث الكمال المطلق للمعبود والكمال التشريعي والقدوة المعلمة والعلاقة بين العبد وربه التي هي أجل علاقة لشرف المتعلق به، ومن حيث الاعتدال والاتزان في الاعتقاد والتعبد والسير لله، و في أن هذه العلاقة بين العبد وربه قد تولى تشريعه أحكامها ووضع منهجها الله الكامل في صفاته ذو والرحمة و العدل والعلم والحكمة وهذه المحاسن تلحظها جلية في سورة الفاتحة دون تكلف ، وكما تضمنت الإجابة عن تساؤلات الإنسان عن الخالق و الحكمة من الخلق والغاية والمآل و الحساب والجزاء وأصناف العاملين و طريق النجاة، فهي مع ذلك دعاء بل تضمنت آداب الدعاء فبدأت بالثناء على الله، ثم التوسل إلى الله بالعمل الصالح (إياك نعبد) وإظهار الضعف والافتقار إليه بالتعبد له والاستعانة به،  و بعد أن قدم العبد بين يدي حاجته هذا التقرب لله جاء طلب حاجته و سؤاله لربه أن يهديه الصراط المستقيم، وكان بصيغة الجمع فالمؤمن يدعو لنفسه ولإخوانه  وقد وردت الأحاديث بفضل الدعاء للغير كما أن من آداب الدعاء اختيار جوامع الكلم ولا أجمع من الدعاء بسلوك صراط المتقين والنجاة من سبُل الضالين، ومن آداب الدعاء عدم نسبة الشر لله تعالى  تأدباً، مع أن الخير والشر بتقدير الله وذلك في قوله (غير المغضوب عليهم) ومن أمثلته في دعاء الأنبياء قول إبراهيم عليه السلام {الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء 80-79] فلم ينسب المرض إليه. كما تضمنت السلوك والتربية ببيان السالكين والقدوة وبيان فقر العبد لربه وأن الفضل كله من الله. كما تضمنت الولاء والبراء في ذكر المنعم عليهم أهل الصراط الذي نسأل الله أن نكون تحت لوائهم، وفي ذكر أعدائهم الزائغين الذين نسأل الله أن يجنبنا سبيلهم. والقرآن الكريم كله مفسر لهذه السورة الجامعة لأن القرآن ينقسم إلى توحيد وقصص وأحكام وتقرير المعاد والجزاء فما ذكر في القرآن من تقرير التوحيد فهو مزيد بيان لما تضمنته الفاتحة وكذلك قصص الأنبياء والصالحين في القرآن بيان للمنعم عليهم وقصص الضالين هي تفصيل للناكبين عن الصراط وأما الأحكام الفقهية فهي بيان للصراط والشريعة التي يسير عليها المؤمن مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما جاء في القرآن من ذكر الجزاء وتقرير المعاد فهو بيان ليوم الدين. فالقران كله مفسر للفاتحة، وقد بدأت سورة البقرة[22] التي تلي سورة الفاتحة بالآية {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة الآية 1] وكأنها إشارة إلى الصراط المستقيم الذي سألنا الهداية إليه وبداية التعليم ولإرشاد والتفصيل لأم الكتاب.

                                                           وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply