أفي الله شك 2


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أن الإيمانَ إذا وقرَ في القلبِ فاضَ على الجوارحِ، فأصبحت الحركات والسكنات كلها للهِ، جاء في الحديث القدسي: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَهُ الذي يسمَع به، وبصرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَهُ التي يبطِشُ بها، ورجلَهُ التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنّهُ".. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}..

معاشر المؤمنين الكرام: تحدثنا في الخطبة الماضية عن ظاهرة الإلحاد، وذكرنا سبعةً من أبرز أساب انتشارها، ثم ذكرنا خمسةً من أسوأ نتائج الإلحاد وثمراته السيئة في الدنيا، وعرَّفنا الصدفة تعريفًا علميًا، وشرحنا معناها، واثبتنا أن الكون ليس بأزلي ولا قديم، وأن له بداية وله نهاية.. وفيما يتعلق بالأدلة التي تثبت وجود الله تبارك وتعالى، فهي كثيرة جدًا، بل ومتنوعة.. فهناك أدلةٌ عقليةٌ منطقية، وهناك أدلةٌ علمية، وهناك أدلةٌ رياضيةٌ حسابية، وغيرها الكثير..

وسنقف اليوم بإذن الله، مع النوع الأول فقط، بل مع بعض أدلة النوع الأول فقط.. نسأل الله العون والتسديد، والإخلاص والقبول..

الدليل العقلي الأول: دليل التصميم الحكيم (العلة الغائية):

يزعم الملحد أن الطبيعة والصدفة هي التي أوجدت كل المخلوقات، وأنه لا هدف لها ولا حكمة من وراء ذلك كله، وهذا يتعارض عقلًا مع ملايين التصاميم الحكيمة، التي تُظهر بوضوح أن هناك هدفًا محددًا من إيجادها بتلك الهيئة المحكمة، يقول الله جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، يعني بلا هدفٍ ولا حِكمة.. ولكي يتضح الأمر أكثر، تخيل وعاءً يحوي مجموعةً من الآلات الدقيقة المختلفة، ولما تأملتها عن قرب تبين لك أن لكلِ واحدةٍ منها مكانًا تركيبيًا دقيقًا من الأخرى.. فأخذت تركب هذه الآلاتِ مع بعضها، وعندما انتهيت من تركيب آخر قطعةِ منها، وأصبحت كلُّها جهازًا واحدًا متكاملًا، إذا بصوتٍ رتيب يَخرجُ مِنها، دققت في الأمر فإذا هو صوتُ ساعةٍ زمنية.. فما الذي ستفهمه من هذا كله؟.. ستدرك أن لكل آلةٍ من تلك الآلات التي دخلت في تركيب الساعة، لها هدفٌ جُزئيٌ مُعين، وأن لمجموع تلك الآلات المختلفة، هدفٌ نهائيٌ مختلف، وهو ضبط الزمن.. هذا الهدف النهائي يسمى (العلةُ الغائية)، والغائيةُ من الغاية، يعني الهدف الذي من أجله صُنعت تلك الآلاتُ الفرعية المختلفة كُلها.. فهذا الهدف النهائي أو العلةُ الغائيةُ يتَطلَبُ الوصولُ إليهَا عَقلٌ مُدبرٌ، وتَخطيطٌ مُحكمٌ، وتنفيذٌ مُتقنٌ، وكُلُّ هذا يَتنَافى كُليًا مع الطبيعةِ والعشوائيةِ والصدفة..

فالمصنوعاتٌ المعقدةِ، ذاتُ التصميمِ المرتبِ، والتكوينِ المركبِ، المبنيُ على هَدفٍ مُحدَّدٍ، لا بُدّ أنَّ هُناكَ عَقلًا أبدعَ تخطِيطِها، وأتقنَ تصميمها، وأحْكمَ تنظيمها.. {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}.. وكلَّما ارتقى تكوين المخلوق وتعقَّد، كان ذلك أشدَّ دِلالةً على وجود خالقٍ حكيم، ومدبِّر عليم.. {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}..

إنَّ جسم الإنسان شديد التعقيد، يتكون من اثني عشر جهازاَ حيويًّا، كل جهازٍ منها يؤدي وظيفةً أساسيةً مختلفة، وكلُّ جهازٍ منها يتكون من مجموعةٍ من الأعضاء، كلُ عضوٍ منها يؤدي وظيفةً معينةً في غاية الأهمية لعمل الجهاز.. ثم هناك الدماغ الذي يُدير ويُنسق عمل كل تلك الأجهزة المتكاملة.. فهذه العلل الغائية المركبة تتنافى كُليًا مع الصدفة والطبيعة العشوائية..

مثال آخر: زهرة الأوركيدا.. نباتٌ في غاية التعقيد، فهذه الزهرة العجيبة، ولكي تجذب النحلَ ليحُطَّ عليها، تتخذُ شكلًا وحجمًا ولونًا مطابقًا تمامًا لأُنثى النحل، ليس ذلك فحسب بل إنها تُفرز نفس رائحة النحلة.. فيأتي ذكر النحلِ ويقتربُ منها وهو لا يعرف أنها زهرة، فتلتصق حبيبات الطلع بجسده، فينقلها إلى زهرةٍ أخرى دون أن يدري أنه يقوم بعملية تلقيحٍ مثالي للزهرة.. كلُّ هذا وهي كائنٌ نباتيٌ لا يعقل ولا يعلم، ولا يعي من أمره شيئًا.. ليس هذا فحسب بل إن هذه العمليات المعقدة والمتقنة من تطابق الحجم والشكل واللون والرائحة تتم في ظل ظرفٍ زمنيٍ محدد، وفي أيامٌ معينةٌ من كلِّ عام، إنها عملياتٌ معقدةٌ جدًا، ومحسوبةٌ بكل دقةٍ، ولها هدفٌ نهائيٌ خفي..

فهل الطبيعة والصدفة هي من صمَّم ونفَّذ كلَّ هذا.. أفلا تعقلون..

البعوضةُ مثالٌ ثالث: فهذه الحشرةُ الصغيرةُ جدًا، لها مائةُ عيٍن في رأسها، ولها ثلاثة قلوب في جوفها، ولها ستة سكاكین في فمها، وهي مزودة بجهازٍ يميز الحرارة، يدلها على مكان الجلد البشري ولو في الظلام، كما أنها مزودةٌ بجهازِ تخديرٍ یُساعدها على غرز إبرتها دون أن یشعر الإنسان، وما یحس به المقروص إنما هو ألم المص، والبعوضةُ مزودةٌ أيضًا بجهاز ِتحليلٍ للدم؛ فهي لا تستسیغُ كل الدماء، كما أنها مزودةٌ بجهازٍ لتمییعِ الدم واسالتهِ حتى یسري في خرطومها الدقیق.. فهل الذي وضع كلَّ تلك الأجهزةِ المعقدةِ داخل تلك البعوضة الصغيرة، عاقلٌ حكيمٌ, له هدفٌ نهائي من كلِّ ذلك، أم أنها الصدفة والعشوائية..

أفلا قليلٌ من الإنصاف والعقلانية يا معشر الملحدين..  فلو كان من عندِ غير اللهِ لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا..

وهناك المئات والألوف من الأمثلةِ غيرَ ذلك، كُلها تدلُ على التصميم الحكيم، والعلة الغائية.. رحلةُ السلمون الشهيرة، ورحلةُ السلطعونِ العجيبة، ورحلةُ البطرِيقِ الأشدُّ عجبًا، والطيورُ المهاجرة، والحشراتُ الزاحفة، وبيوتُ النملِ المنظمة، وممالكُ النحلِ المذهلة.. كُل واحدةِ منها, مثالٌ صارخٌ وقويٌ على التصميم الحكيم والعلة الغائية..

ثم يأتي الملحد ليقول: كلُّ هذا صدفة.. مالكم كيف تحكمون..

والأشدُّ عجبًا أن من يؤمنُ بالصدفة كخالقٍ للكونِ لا يقبلُ أن تكونَ الآلاتُ المعقدةُ كالطائرات والسياراتِ والحواسيبِ، لا يقبلُ أن تكون الصدفةُ هي من أوجدها ! لاعتقاده أنها لا بدَّ أن تكون من صُنع عاقلٍ مُبدعٍ حكيم.. أوليس خَلقُ الانسانِ والحيوانِ والأفلاكِ أكبرُ وأعقدُ من خَلقِ تلك الآلاتِ بملايين المرات.. صدقت يارب: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}..

لقد انزاحت الرمال منذُ سنواتٍ قريبةٍ في صحراء الربع الخالي, فظهرت بقايا مدينةٍ بائدة، مغمورةٍ تحت الرمال، فلم يتبادر إلى ذهنِ احدٍ من عُلماء الآثار أو من غيرهم أنَّ هذه المدينةِ وُجِدت صُدفةً أو بفعل العواملِ الطبيعية، أو بأيِّ سببٍ آخرَ غيرَ الانسان، لأن إيجادها يحتاجُ إلى عاقلٍ حكيمٍ، له هدفٌ وقصدٌ من إيجادها بتلك الهيئة المحكمة..

دليلٌ عقلي آخر: دليل السببُ والنتيجة: فمن المعلوم عقلًا أن لكل سببٍ نتيجة، ولكل نتيجةٍ سبب.. وقد أثبتنا سابقًا بعدة طُرقٍ مختلفة، أن الكون ليس أزليًا، وأن له بدايةً.. وكلُّ ما كان له بدايةٌ فيجبٌ أن يكونَ له مُبدِيء ومُوجِد.. ولا بدَّ أن يكون المبدئُ أكبرَ وأعظمَ من كلِّ ما أوجدهُ من مخلوقاتٍ.. قال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}..

دليلٌ عقليٌ ثالث: الإثبات مُقدمٌ على النفي: هناكَ قاعدةٌ منطقيةٌ تقول: إذا لم يكن عندنا في المسألة إلا خبران، أحدهما يثبتُ وقوعَ أمرٍ ما، والآخرُ ينفيهِ، فيُقَدمُ الـمُثْبِتُ على النافي، لأن معهُ زيادةُ عِلم، ولأن من علِمَ حُجةً على من لم يعلم.. على سبيل المثال: جاءك خبرانِ أحدهما يقول: جاء محمد، والآخر يقول: محمدٌ لم يأتِ.. فالقاعدةُ تقول: يقدَّمُ الـمُثْبِتُ على النافي لأن معهُ زيادةُ علم، ولأن من عَلِم حُجةٌ على من لم يَعلم.. وفي مسألة وجودِ الخالقِ جلَّ وعلا: فإنهُ على طولِ الزمانِ وعرضهِ لم يأتِ أحدٌ يدَّعي أنه الخالقُ لهذا الكون، ولن يجرؤ أحدٌ على ذلك، لأنهُ سيُفتضحُ بعجزه.. بل العكس هو الصحيح, فجميع العُقلاء يُقرونَ بأن اللهَ عزَّ وجلَّ وحدهُ هو الخالقُ لهذا الكون بكل ما فيه.. حتى أشدُّ الناس كفرًا قال عنهم القرآن: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}.. هذا على فرضِ أنه لا يوجدُ أدلةُ أخرى، تثبتُ وجودَ الخالقِ جلَّ وعلا، فإذا جاء الملحدُ لينفي وجودَ الخالقِ تبارك وتعالى، فخبرهُ مرفوضٌ عقلًا لوجودِ خبرٍ مُثبتٍ يُعارضُهُ.. كيفَ وقد قال الله تعالى عن نفسه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.. ثم إن نفيَ الملحدِ لوجود الخالقِ جلَّ وعلا، ادعاءٌ لا سندَ لهُ من الجهةِ المنطقيةِ.. لأنَّ أثباتَ وجودِ ما هو موجودٌ سهلٌ جدًا، أمّا نفيُ وجودِ الموجودِ فمن أكبرِ المستحيلات، فكيف إذا كانَ المنفيُ هو أكبرُ الأشياءِ وخالقها، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..}.. فعلى سبيل المثال: يمكنُ أن يدَّعِيَ شخصٌ ما وجودَ الدينصورات، ويمكنُ أن يدَّعِيَ شخصٌ آخرَ عدمَ وجودها بتاتًا.. فالأولُ سيحتاجُ إلى دليلٍ واحدٍ فقط ليثبتَ صحةَ قوله.. أمَّا الذي يريد أن ينفي وجودها، فيجبُ عليه أن يُفتِشَ الأمكنةَ المحتملةَ كُلَّها، وأن يَتفَقدَها كُلها في وقتٍ واحدٍ ليتأكدَ قطعيًا من خُلوها جميعًا.. وهذا من أبعدِ المستحيلات على مستوى الأرض.. فكيف لأيٍّ مَنْ كانَ أنّ يُبرهِنَ على عدم وجودِ اللهِ في الكونِ كله.. هذا من أمحل المحال، لا في العقلِ ولا في الخيال، فيا معشر الملحدين أين تذهبون..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}...    بارك الله لي ولكم....

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه واتباعه واخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا..

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هدى الله، وأولئك هم أولو الألباب..

معاشر المؤمنين الكرام: دليلٌ عقليٌ رابع على وجود الخالق جل وعلا: دليل التسخير: كلنا نتفقُ مع الملحدِ أن الصدفةَ لا تملكُ عقلًا ولا عِلمًا ولا حكمة.. وكلنا يعلمُ أنَّ الانسانَ والحيوانَ والنباتَ خُولِقوا محتاجينَ لأشياءَ كثيرة، محتاجين للماء، وللهواء وللغذاء وللدواء، ولغيرها من الأشياء.. فإذا تأملتَ فإذا جميعُ هذه الاحتياجات قد تمَّ توفيرها لهم في البيئة التي يتواجدون فيها، وبالقدر الكافي لاستمرار حياتهم، بل وحياةِ نسلِهم من بعدِهم.. إذن فمن المنطقي أن الذي أوجد في الانسان والحيوان تلك الاحتياجات الضرورية, هو الذي وفرَّها وسخرها في البيئة من حولهم، وبالقدر الكافي، ولا يفعل ذلك إلا عاقلٌ عليم، مبدعٌ حكيم.. والصدفة لا تملك عقلا ولا علمًا ولا حكمة.. {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}

دليلٌ عقلي خامس: العلم لا يمكن أن يأتي ممن لا يعلم..

فمثلًا: جهاز الحاسب الآلي: يمكنُ أن يطبعَ مقالًا علميًا، ولكن جميع العقلاء يتفقون أنه ليس هو من أنتجَ تلك المقالة العلمية.. وأن هناك شخصٌ عاقلٌ عليمٌ استخدم الحاسب لكتابة وطباعة تلك المقالة العلمية.. فإذا كان العلم لا يمكن أن يأتي ممن لا يعلم.. فإن الصدفة والطبيعة التي لا تعلم شيئًا، لا يمكن أن نقول بأنها هي التي أوجدت القوانين الطبيعية، لأن تلك القوانين أشد تعقيدًا من تلك المقالة، ولا يمكن أن يوجدها إلا خالقٌ عليمٌ خبير.. وإذا كان عقلُ الإنسان يستطيعُ أن يعرفَ الجيدَ من الرديء، وأن يميز بين الجيدِ والأجود، وأن يختار الأفضل من بين عدة خيارات، فلا يمكن أن يُنسب هذا إلى الصدفة والطبيعة، لأنها تفتقر للعقل، وللعلم، وللحكمة، وللقدرة على التمييز بين البدائل، وإنما ننسبها إلى المبدع الحكيم، والمدبر العليم، سبحانه وتعالى، القائل في محكم كتابه الكريم: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}..

دليلٌ عقليٌ سادس: التصرفات العقلانية لا يمكن أن تأتي من غير العاقل: تخيل أن هناك عدة أطفال صغار، كلٌ معهُ مجموعةٌ من الأقلام الملونة، وأمامهم ورقةٌ كبيرةٌ، ثم قاموا يخططون ويرسمون بتلك الأقلام الملونة على تلك الورقة الكبيرة، بطريقة عشوائية غير مرتبة، فهل يمكن أن يخرج من تخطيطهم خريطة كاملة التفاصيل لمدينة كبيرة كالرياض أو جُدة.. فإذا كان العقل السليم يستبعد حدوث مثل هذا تمامًا، ويعتبره مستحيلًا لا يمكن أن يحدث أبدًا، فلأن يكون الكون كله وجِدَ صُدفةَ، أكثر استحالة، وأبعد عقلا، لأن تركيب الكون وتفاصيله, أعقد بملايين المرات من تركيبِ أيِّ خريطةٍ وجدت، {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}..

هذه ستةُ أدلةٍ لا شكَّ ولا مراءَ فيها، كلُّها من نوعٍ واحد، وهناك أنواعٌ أخرى من الأدلة، سنقف معها بإذن الله في خطبة قادمة، حتى لا يبقى من الحجة شيءٌ، و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

                                                         وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply