بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والتزموا سنَّةَ نبيكم تهتدوا، وأخلِصوا للهِ تبارك وتعالى نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تربحوا.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}..
معاشِر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ السادِسةُ من سِلسِلَةِ حلقاتِ الرَّدِّ على الملحدين، سنُخصِصُها للرَّدِّ على ما يُصرحُ بهِ كثيرٌ من الملحدينَ: أنَّ وجودَ الشرِّ هو السببُ الأكبرُ في الحادِهم, وأنهُ حُجتَهم الكبرى، بل ويسمونهُ صخرةُ الإلحادِ، وغالبًا ما يبدأُ الملحدُ نقاشهُ بقولِه: لماذا وجدَ الشرُّ ؟. لماذا وجِدَ المرضُ والألمُ والظلمُ ؟. أليس وجودُ الشرِّ يتنافى مع وجودِ إلهٍ رحيمٍ قديرٍ عليمٍ ؟ كيفَ يقبلُ إلهٌ كامِلُ القدرةِ كامِلُ الرحمةِ بوجودِ كلِّ هذهِ الشرورِ؟. وأمثال هذهِ المغالطات.. فإذا أثبتنا أنَّ وجودَ الشرِّ ليسَ فسادًا من كُلِّ وجهٍ، وأنَّ الشرَّ قد يُؤدي إلى خيرٍ أعظمَ منهُ، أو إلى ردِّ شرٍّ أَكبرَ منهُ، وأنَّ وجودَ الشرِّ لهُ حِكمٌ جليلةٌ, وفوائدُ عديدةٌ، فقد دُحِضَت حُجتُهم، وبطُلَ زعمُهُم..
وبدايةً نقول: أنَّ الاحتِجاجَ بوجودِ الشرِّ مُغالطةٌ منطقيةٌ، لا تصلحُ أنَّ تكونَ حُجةٌ لنفيِ الخالقِ.. لأنَّ الملحدَ حين يطرحُ هذه الشبهةَ، فهو يُدينُ نفسهُ، وينتقلُ بالمشكلةِ من كونِها: هل الخالقُ موجودٌ أم غيرُ موجودٍ، إلى أن تكونَ: هل هو خالقٌ شِريرٌ أم غيرُ شريرٍ.. وهذا اعترافٌ ضَمنيٌ بوجودِ خالقٍ.. وعندما نتأمُّلُ في وجودِ الخيرِ والشرِّ: نجدُ أنهما ضروريَّانِ لحُريةِ الارادةِ والاختيارِ، وضروريَّانِ للابتلاءِ والاختبارِ، فلا يكونُ الانسانُ مخيرًا إلا بوجودِ الخيرِ والشرِّ معًا، ولا يتحققُ الابتلاءُ والاختبارُ إلا بهما معًا, قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}... ثمَّ إنَّ الخيرَ والشرَّ وجهانِ لعُملةٍ واحِدة، كُلٌّ منهما مُتممٌ وضروريٌ لوجود الآخر، ولا يكونُ أحدهما إلا بوجودِ الآخرِ.. فبوجوده يُوجدُ, وبعدمِه ينعدِمُ.. وفي تضادِّ الخيرِ والشرِّ إبرازٌ لكُلٍّ منهما، فبضدِها تتميزُ الأشياءُ.. أي أنهُ لا يظهرُ جمالُ الخيرِ, ولا يظهرُ قبحُ الشرِّ, إلا بوجودهما معًا.. وعلى سبيل المثالِ: فلا توجدُ الرحمةُ إلا بوجودِ الألمِ, ولا توجدُ الشجاعةُ إلا بوجود الخطرِ, ولا يوجدُ النبلُ والكرمُ إلا بوجود الحاجةِ, ولا يوجدُ الصفحُ والتسامحُ إلا بوجود الإساءةِ, ولا يوجدُ العدلُ والانصافُ والنُّصرةُ إلا بوجودِ الجورِ والظلمِ، وقِس على ذلك، فلا معنى للصبرِ بلا مُصيبةٍ، ولا معنى للشبعِ من غير جوعٍ، ولا معنى للمواساةِ بلا مواجعٍ، ولا معنى للحبِّ من غير تضحيةٍ، وعليهِ فالشرُّ إفرازٌ طبيعيٌ ضروريٌ لوجودِ التضادِّ والاختلاف بين الأشياء... وعند التأمُّلِ أكثر: سنجدُ أنَّ غالِبَ ما حولِنا هو من قبيلِ الخير, لأنَّهُ هو الأصل، بينما الشرَّ قليلٌ محدودٌ, بل هو استثناءٌ يؤكدُ دورَ الخيرِ ويُبرِزهُ.. فالمرضُ والألمُ استثناءٌ من الصحةِ والعافية، والجوعُ استثناءٌ من الشبعِ, والقلقُ استثناءٌ من الطمأنينةِ, والخوفُ استثناءٌ من الأمن.. وهكذا فالخيرُ أصلٌ غالب, والشرُّ استثناءٌ محدودٌ.. وبالتالي فبإمكاننا أنَّ نقلبَ الطاولةَ على الملحد، فنسألهُ: من الذي جاءَ بكلِّ هذا الخير؟. والجواب: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}... ثمَّ إنَّ الشرَّ قد لا يكونُ مقصُودًا لذاتِه، فالألمُ الذي يشعرُ بهِ المريضُ نوعٌ من الشرِّ، لكنهُ ليسَ مقصودًا لذاتهِ، بل هو تنبيهٌ وجرسُ إنذارٍ, يبدأُ خفِيفًا ثم يتدرجُ شيئًا فشيئًا حتى يصلَ إلى درجةٍ يصعُبُ تحمُّلُها, كلُّ ذلك لكي لا يتراخى المريضُ في تعاطِي العلاجِ فتتفاقَمُ المشكِلةُ فيتعرضَ للهلاكِ.. فهل الشُعورُ بالألمِ نِعمةٌ وحِكمةٌ وخيرٌ.. أم هو ظلمٌ وقسوةٌ وشرٌّ.. هل الشرُّ مقصودٌ لذاتهِ أم هو تدبيرٌ لطيفٌ من الرحيمِ الحكيمِ سبحانهُ وبحمده... ثمَّ إنَّ الخيرَ والشرَّ نِسبِيانِ: أي أنَّ كلٌّ منهما خيرٌ من وجهٍ, وشرٌّ من وجهٍ آخر، ولو بنسبٍ مُتفاوِتة، لذلك قالوا في الأمثال: مصَائِبُ قومٍ عِند قومٍ فوائدُ.. المطَرُ مثلًا بِالنِّسْبَةِ لِلمَزَارِعِ خَيْرٌ، وَلكنهُ بِالنِّسْبَةِ لِصَانِعِ الفَخَّارِ شَرٌّ.. ذوبانُ الثلجِ وتحوُلِهِ إلى مَاءٍ عَذبٍ يَسقِي الزُّروعَ والحيواناتِ, هو خيرٌ من هذا الوجهِ، ولكنهُ قد يسببُ الفيضاناتِ المهلكةِ، النارُ والحرارةُ ضروريةٌ لحياة الانسانِ فهي خيرٌ من هذا الوجهِ، لكنَّها قد تُسبِبُ الحرائقَ والكثيرَ من الأضرار، الأمواجُ والرياحُ وغيرها من الأشياءِ, كُلِّها لا يخلو خيرها الكثيرُ من بعضِ الشرِّ والأذى، حتى ابليسُ على ضلاله وإضلاله, فهو ليس شرًّا محضًا, ففي وجودهِ خيرٌ وحِكمٌ جليلةٌ, منها كونهُ سببًا في استكمال المؤمنينَ لمراتبِ العبودِيةِ للهِ، وذلك بمجاهدتهِ, ومخالفتهِ, والاستعاذةِ منه, ومنها كونهُ عِبرةً وعِظةً للمؤمنين من شؤمِ الذنوب، فإبليسُ بعدَ القُربِ والرِّفعةِ والتَّكريمِ، يُلعنُ ويُطردُ ويُهانُ، فمن يأمنُ على نفسهِ إذن.. ومنها كونُهُ محكُّ اختبارٍ ليتميزَ الطيبُ من الخبيثِ، وأن ينالَ الصالحونَ جزاءَ صلاحِهم، وينالَ المجرمونَ جزاءَ إجرامِهم.. ومنها كونُه سببًا في إظهارَ كمالِ قُدرةِ اللهِ وحِكمتهِ في خلقِ الاضدادِ, فكما خلقَ اللهُ السماءَ, خلقَ الأرضَ، وكما خلقَ النَّورَ, خلقَ الظلامَ، وكما خلقَ الماءَ, خلقَ النَّارَ، وكما خلقَ جبريلَ وميكائيلَ وبقيةَ الملائكةِ, فكذلك خلقَ ابليسَ وذريتهُ من الشياطين، وغيرِها من الحِكمِ والفوائِدِ... ليس ذلك فحسب، بل إنَّ لوجودِ الشرِّ فوائدَ وحِكمًا جليلةً أُخرى، منها: أنُّهُ ضروريٌ لتطويرِ قُدراتِ الانسانِ، فمن طبيعةِ البشرِ أنَّهم يميلونَ للراحةِ والكسلِ، ويُحبونَ المتعةِ والتسليةِ .. خُصوصًا من يعيشُ في طراوةِ النعيمِ، بينما ترى الذين تربوا على الشدائِد والمعاناةِ, والألمِ والمحنِ, يصبِحونَ نماذجَ فاخرةٍ في العطاءِ والانجاز، والايجابيةِ والتميزِ.. ففي بعضِ الشرٍّ تربيةٌ نافعةٌ لبنى آدم, والشِدَّةَ والخشونة انفعُ لهم مِن الرخاءِ في كثيرٍ من الأحيان.. ثم إنَّ السعادةَ والنعيمَ واللذاتِ عُمومًا, لا يكادُ يسلمُ طالِبُها من أذيةٍ تلحقُهُ، وكلمَّا زادت اللذةُ والمتعةُ, زادَ الألمُ والأذى جراءَ تحصِيلِها.. يقول الشاعر: بصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها... تُنالُ إلا على جِسرٍ من التَّعبِ.. ويقول الآخرُ: تُريدينَ إدراكَ المعالي رخيصةً.. ولابُدَّ دونَ الشَّهدِ من إبرِ النَّحلِ... وقد أكدت دراسةٌ لمتابعةِ حياةِ أكثرَ من 300 قائدٍ وزعيمٍ مؤثرٍ في التاريخ، أنهم عانوا جميعًا من طفولةٍ قاسيةٍ، أسهمت في صقلِ شخصيتِهم، وتنميةِ مهاراتِهم، وتعويدِهم على الجدِّيةِ وتحمُّلِ المسؤولية... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرِّ: أنْ يكونَ سببًا في كسبِ الذنوبِ التي يُحبُّ اللهُ أنْ يغفِرها لعبادهِ، فربُّنا العظِيمُ الرَّحِيمُ, عفوٌ كريمٌ يُحبُّ العفو والمغفرة، ويفرحُ بتوبةِ التَّائبِ فرحًا لا يُمكنُ تَصورهُ، ويَغفِرُ لهُ ولو بلغت ذُنوبهُ عنانَ السماءِ، بل جاء في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهبَ اللهُ بكم, ولأتى بقومٍ يذنبونَ فسيستغفرونَ فيغفرُ اللهُ لهم".. فوجودُ الشرِّ يستظِهِرُ معانيَ كثيرٍ من أسماءِ اللهِ الحسنى وصِفاتهِ العُلا، كالتوابِّ والغفورِ والعفو والرحيم والحليم, وغيرها من الأسماء والصفات، وكذلك يستظهِرُ معاني الأسماءِ والصفاتِ التي تدلُ على انتقامِ اللهِ من الأشرارِ, كالمنتقمِ والخافضِ والمذلِ وغيرها... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرِّ: أنَّهُ ابتلاءٌ لرفعةِ الدرجاتِ, وتكفيرِ السيئاتِ، وعلى كِلا الحالينِ فهو عطاءٌ ورحمةٌ، قال صلى الله عليه وسلم: "ما يُصيبُ المؤمِنَ مِن نَصبٍ ولا وَصبٍ، ولا همٍّ ولا حَزنٍ، ولا أذى حتى الشوكةَ يُشاكُها إلا كفَّرَ اللهُ بها من خطاياه", وفي الحديثِ الآخر: "عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ" رواه مسلم... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرَّ: اشعارُ المؤمِنِ بحقارةِ الدُّنيا, وأنَّها أتفهُ من أنْ يصرفَ لها همّهُ كُلهُ، فإذا أُصيبَ ببعضُ المصائبِ والشرور, زالَت عنهُ سكرةُ حُبِّ متاعِها الزائِلِ، وعرفَ حقيقةَ قِيمتها، وأنَّها كما جاء في الحديث لا تُساوى عندَ اللهِ جناحَ بعوضةٍ... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرِّ: أنْ يكونَ أداةً للانتقامِ من الظالمين، ومُعاقَبَةِ المفسِدين.. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.. وقال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}... ومن الحِكمِ في وجودِ الشرِّ: أنَّهُ وسيلةٌ تُلجِئُ الانسانَ إلى خالقهِ ومولاه، وتضطرهُ للاستغاثةِ والاستعانةِ بهِ جلَّ في عُلاه.. قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}.. فإذا تعرضَ العبدُ لبعضِ الشرِّ والأذى، وقلت حِيلتُهُ، انكسرَ غُرورهُ، وذهب عِناده، وتيقنَ بأنهُ عبدٌ ضعيفٌ, ليسَ لهُ إلَّا أن يعودَ مُستكينًا إلى خالقهِ ومولاه.. فالشرُّ هنا كالعلاج بالكيِّ، يُؤذِي.. ولكنهُ بإذن اللهِ يشفِي..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}..
بارك الله لي ولكم...
معاشِر المؤمنين الكرام: من عقيدةِ المؤمِنِ أنهُ ليسَ في أفعالِ اللهِ شرٌّ، وأنَّ الشرُّ لا يُنسبُ إلى اللهِ أبدًا، وإنَّما الشرُّ من أفعالِ مخلوقاتهِ.. واللهُ جلَّ وعلا إنَّما سمحَ بوجودِ الشرِّ لحِكمٍ سبقَ أنْ ذكرنا بعضها.. وحين يزعمُ الملحدُ أنَّ بعضَ الشرِّ الموجودِ لا حِكمةَ لهُ، كموت الحيواناتِ في الحرائقِ، أو جرائمَ اغتصابِ الأطفالِ وقتلِهم.. فمن وِجهةِ نظرِ الملحدِ ينبغِي للإلهِ الحكيمِ الرحيمِ إنْ كانَ موجودًا أنْ يمنعَ مِثلَ هذهِ الشرورِ الفظِيعةِ... وكثيرًا ما يلجأُ الملحدُ إلى السؤالِ التالي: لماذا لا يُخبرِنا اللهُ عن حِكمةِ كُلِّ شرٍّ موجودٍ، وهو سؤالٌ بلا معنى، لأنَّ الشرَّ وجِدَ عمومًا للابتلاءِ والاختبارِ، ولِـمَا ذكرناهُ سابقًا من حِكمٍ كثيرة، ولأنَّ في طيِّ كُلِّ مِحنةٍ مِنحةٌ، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.. ولأنَّ العقلَ البشري قد يفوتُهُ إدراكُ الكثيرِ من الحِكمةِ لعجزهِ وقُصورهِ، فعقلُ الانسانِ عاجزٌ عن استيعابِ الكثيرِ من الحقائقِ الكونيةِ رغمَ وجودِها أمامهُ، فكيفَ يستوعِبُ عقلَهُ مفاهِيمَ وتفاصِيلَ العدلِ الإلهي والقَدَرِ خيرهِ وشرِّهِ، وهي غيبٌ اختصَ اللهُ تعالى بعلمِهِ، والقدرُ سِرُّ الله تعالى في خلقه... وقصورُ العقولُ وقِلَّةُ عِلمِها، يمكِنُ تخيُلهُ إذا تصورنا حيوانًا يقعُ في مَصيدةٍ مُعقدةٍ، وحينَ يأتي انسانٌ ليخلِصهُ منها تجِدهُ يقاومُهُ بشراسةٍ, لظنهِ أنهُ يريدُ به شرًا.. فبالرغم من ضخامةِ الفارقِ بين علمِ الانسانِ وعِلم الحيوانِ, إلا أنهُ لا شيءَ, مقارنةً بالفارق المتناهي بين علمِ اللهِ تعالى وعلمِ الانسانِ.. واللهُ يعلمُ وأنتم لا تعلمون.. ثمَّ إنَّ ظُهورَ الحِكمةِ من وجودِ بعضِ أنواعِ الشرِّ بشكلٍ مُقنعٍ, يدلُ على وجودِ غيرها من الحِكمِ المقنِعةِ لبقيةِ أنواعِ الشر، لكننا لا نعلمُها لجهلِنا أو لقصورِ إدراكنا وعجزِ عقولنا... ولله المثل الأعلى، فحين نجدُ في جهازِ الجوالِ قِطعةً لا نعرفُ وظيفتها, فلا نقولُ أنها بلا فائدة، لأنهُ قد تراكم عندنا من تجاربَ سابقة, أنَّ الشركةَ المصنِعةَ لا تضعُ في جهازها قِطعةً إلا ولها حِكمةٌ وفائدة, حتى وإن لم نعرفها... والعقلاءُ قد استقرَّ في عقولهم اضطرادُ وتواترُ حِكمةِ اللهُ في خلقه، فإذا لم تظهر لهم الحِكمةُ أحيانًا.. فإنَّهم يردون ما جَهِلوهُ منها, إلى ما استقرَّ في عقولهم, وما علِموهُ من حِكمتهِ المضطرِدةِ.. وفي قصةِ مُوسى مع الخضرِ عليهما السلام, عرفنا أنَّ خرقَ السفينةِ وهو شرٌّ ظاهرٌ كان هو السبب في سلامتها من شرٍّ أكبر, وأنَّ قتلَ طفلٍ صغيرٍ كان هو السببُ في رحمتهِ هو وأهلُهُ من شرٍّ أكبر لو أنهُ تُرِكَ حيًا... ثم هناكَ أمرٌ أخيرٌ يغيبُ عن فهمِ الملحد, وهو أنَّ خلقَ الانسانِ ومنحِهِ هذه الحياةَ المؤقتةَ, ليست الغايةُ منهُ اسعادهُ وإنَّما اختِبارهُ، وأنَّ أيَّ شرٍّ يراهُ في الدنيا فهو ليسَّ نِهايةَ المطافِ، وإنَّما هو الفصلُ الأول فقط، وحتمًا هناك فصلٌ آخرَ مُتممٌ للقِصةِ، وهو يومُ القيامةِ، حيثُ ينالُ فيهِ المحسنُ والمسيءُ حقهُ بالقسطِ والعدلِ, قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.. ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد