معيار التدين النبوي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الجمعة؛ محطة ترتيب الأوراق، وتثوير المعاني الإيمانية في النفوس، وخير ما يصحب المرء في يومه وليلته السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

منذ أيام وهذه الفكرة يدور في ذهني، وأرجو أن يعينني ربي ببيان يوصل المعنى كما هو في ذهني.

من جوانب العظمة النبوية في سيرته -صلى الله عليه وآله وسلم- أن سيرته قريبة المأخذ، تدفع المرء للاقتداء، فيها اجتهاد يُطمع المرء في التأسي؛ بخلاف سير من بعده مهما عظم مقامهم؛ تجد لهم طقوسًا صعبة، وأحوالًا مضيقة، وتدينًا كميًا يصعب دركه، ورسومًا وهيئات واشتراطات وتكلفات، أما حبيبي وسيدي رسول الله فقد تمثل أمر ربه "قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين"، وهذه عظمة لا يدركها إلا متأمل؛ سيرة من بعده من العظماء تخلف في النفس انبهارًا مؤقتًا ثم يأسًا طويلًا من اللحاق، بينما سيرته الشريفة تغري بالاقتداء، وتدفع إلى التأسي.

وهذا معنى التقطه بكر بن عبدالله المزني حين قال: ما فضل أبو بكر الناس بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام ولا بكثرة رواية ولا فتوى ولا كلام ولكن بشيء وقر في صدره" [١]، لقد فهم السلف معيار التدين النبوي، عمل واجتهاد، مع روح تسري في أعمال العظماء، أعمال قلبية محققة، تراهم يشبهونك في بعض شأنك، لا يتكلفون سمتًا للتدين، تجلس معهم تشعر أنك تستطيع اللحاق بهم، ومع ذا تبقى عظمتهم في الذروة.

حاول معي جمع قطع البازل الذهنية هذه؛ يدخل أحدهم فيقول "أيكم محمد" [٢]: يجلس معهم كواحد منهم، لا تحتاج عظمته -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى حلية تكلف، أو تخويف، أو ادعادات.

وقد أذكرني هذا المعنى قول ابن الرومي:

وما الحلي إلا حيلة لنقيصة

تتمم من حسنٍ إذا الحسن قصرا

فأما إذا ما الحسن كان مكملًا

كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا

تفتش في كتب السيرة فلا تجد غموضًا، برنامج يومي منقول، وسيرة كوضوح الشمس، "واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة": أمر بنقل ما يدور في البيت النبوي من أوجه العلم والعمل.

كل عظيم مهما بلغ يحب إسدال الستور على حياته، يلفها بوشاح أسود من الغموض، يصنع طقوسًا للمجالس، وحواجز للقاءات، يظهر حينًا ويختفي أحيانًا، يترك المجال لظنون الناس لتتعاظم صنيع خلواته؛ فالقاعدة البشرية تقول "ما خفي أعظم".

هذه العظمة المصطفوية تأخذ بلبي، سيرة من بعده من العلماء موقدات شعور فقط، فتحتاج حين تقرأ سير السلف إلى معيار يضبط أفعالهم؛ إمامنا ينام نصف سبع دقائق، ومولانا يأكل ثلاث لقمات في يومه وليلته، أما سيد الكمالات، وذروة المقامات بأبي هو وأمي فموقدات شعور وبوصلة عمل، عبوديته لربه أرقى من التدين الكمي المغرق في الحسابات الرياضية بأبي هو وأمي ونفسي وولدي وكل ما أملك، يروي البخاري ومسلم هذا الحديث المركزي:

"جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا: أين نحن من النبي وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"[٣]

تقالوها كميًا، لكن ردهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى معنى التدين الصحيح.

أن تكون في حياتك قريبًا، تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، تخالط الناس، تشبههم، تسمع منهم، ومع ذا ترفرف بين جنبيك عظمة تظهر في المواقف، وقد تأملت في أصحاب الذكر الحسن ممن رحلوا عنا فوجدتهم يشتركون في معنى مفاده: أن جذور خلواتهم أعمق من ثمار جلواتهم.

ما قرأت سيرته الزكية -فديته بكلي- إلا واتقد فيّ شعور بالفرار من تقصيري، مع أمل بإمكان العمل والتحسين، وهذه والله لمن تبصّر عظمة لا تكون -بهذا التمام- إلا لنبي مصطفى ورسول مجتبى -صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه-.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

---------

[١] عزاه الحافظ العراقي لبكر بن عبدالله المزني وقال رواه الحكيم الترمذي في نوادره، وعزاه ابن القيم إلى أبي بكر بن عياش؛ انظر  : "تخريج أحاديث إحياء علوم الدين" للزبيدي (١/ ١٠٦)

[٢] رواه البخاري (٦٣)، ومسلم (١٢) وغيرهما من حديث أنس.

[٣] رواه البخاري (٢٢٧٢)، ومسلم (٢٧٤٣)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply