بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا أجيز لنفسي شرح متن ارتجالًا مهما صغر حجمه، فشرح المتون فنّ يحتاج إلى دقة، وأهم ما أراه في هذا الباب:
القاعدة الأولى:
تناسب الشرح مع المتن: فلا يشرح المتن المختصر بعبارات مطولة، وأهم ما يصنعه الشارح في المتون الابتدائية؛ فك العبارة، تصوير المسألة، الاستدلال.
أما فك العبارة: فهو نفسه ما يعبر عنه بـ"حل الألفاظ" ومعناه: تبيان المبهم وإظهار الضمير بأوضح مفردة.
وحل العبارة مشتهر عند الفقهاء والأصوليين كما ترى:
"الدر النقي في حل ألفاظ الخرقي" لابن المبرد الحنبلي، و"بغية المتتبع لحل ألفاظ الروض المربع" لإبراهيم بن أبي بكر العوفي، و"الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات" للمارديني؛ وغيرهم.
أما تصوير المسألة فمعناه: تقريب المعنى لذهن المتلقي حتى يدركه، قال الإمام الغزالي:
"لأن وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه، بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كلف وضع الصور، وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه" [1]
أما الاستدلال فمعناه: الاجتهاد في ذكر الدليل الذي اتكأ عليه صاحب المتن في عبارته، وقد أشار الحافظ ابن رجب إلى لفتة منهجية مهمة في التفريق بين دليل صاحب المذهب، واستدلال من بعده؛ فقد يصيبون مقصده وقد يخطؤون.
القاعدة الثانية:
أن يتسق في منهجية شرحه؛ فلا يفصل في البداية، ثم يفتر وتكون خواتيم شرحه تعليقات خفيفة، إما أن يقتضب من أول باب أو يتوسع.
وهذه ظاهرة بشرية متفشية؛ وقد أحصيت 34 شرحًا فقهيًا كان نفس الشارح في أول الشرح يافعًا مندفعًا للتفصيل، ثم خبت تلك الجذوة بعد منتصف المتن أو أواخره.
القاعدة الثالثة:
يرقّي عبارته، ويرفع مهاراته في المتون المتوسطة؛ ففي المتون الفقهية مثلًا يزيد على تصوير المسألة= تحرير معتمد المذهب، وإلى الاستدلال= تحقيق الدلالة.
فشرح مسألة "أقسام المياه" من متن مبتدئ، لا تكون كشرح نفس المسألة من متن متوسط أو ما فوق، مع أن المسألة واحدة.
القاعدة الرابعة:
الحفاظ على لغة العلم، والتعبير بمصطلحات أهل الفن؛ فلكل حقل علمي لغته ومصطلحاته، وطالب العلم تفتح له أبواب كتب المتقدمين ومحققي الفن إذا هدي لشيخ يحاكي لغتهم.
ومن هذا؛ ألا تحمله رغبات التقريب أن يهون مسألة، أو يبسطها و يقصقصها فلا يبقى لها ملامح.
القاعدة الخامسة:
الحذر من عيوب الشروح الصوتية من ارتجال، واستطراد مزاجي، وإيراد لما عنّ في الذهن.
وقد نص ابن الحاج [ت:737هـ] على هذا فقال في مدخله:
"وينبغي له إذا أخذ يتكلم في الدرس فأوردت عليه المسائل والاعتراضات والتنظيرات أن لا يجيب أحدًا عن مسألته، وليمضِ فيما هو بسببه، ويسكت من أورد عليه برفق، أو يأمر من يسكته، لأن الإيراد إذ ذاك يخلط المجلس، ولا يحصل بسببه كبير فائدة"[2]
ولابن بدران الحنبلي [ت:1346هـ] نقل مطول في نقد الشروح الفقهية غير المنهجية؛ انظره كرمًا[3].
القاعدة السادسة:
ضبط سمت الدرس الفقهي، فيكون تعليميًا دون الانتقال لمقامات التعبد والقضاء، وهذه قاعدة تحتاج مزيد بسط وتفصيل.
وخلاصة ما أردت قوله:
الشارح الجيد يكبح جماح نفسه، فلا يذكر كل ما يعرفه، ويكتفي بما يحتاجه الطالب في تلك المرحلة، فرق كبير بين: عرض المعرفة واستعراضها.
وما تشتت الطلبة إلا بسبب الشروحات الماراثونية غير المنهجية، أعرف من شرح أول عبارة "اعلم رحمك الله" في ستة دروس، وطلابه يعدون ذلك سعة علم، وأراه عيًا وضعف إدراك لمقاصد المتون.
وأحب في هذا المقام كلمة أبي سليمان المنطقي إذ قال:
"والكثرة فاتحة الاختلاف، والاختلاف جالب للحيرة، والحيرة خانقة للإنسان، والإنسان ضعيف الأسر، محدود الجملة، محصور التفصيل، مقصور السّعي" [4]
وللحديث صلة إن شاء الله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] حقيقة القولين المطبوع ضمن مجلة الجمعية الفقهية السعودية ع:3 ص291، وهذا النقل كان العلماء ينقلونه بواسطة "الرد على من أخلد إلى الأرض" للسيوطي ثم إلى المستصفى لأن "حقيقة القولين" ألحق به في نسخة تشتربيتي، حتى ظهر "حقيقة القولين" مستقلًا في طبعتين حتى الآن.
[2] المدخل(1/ 117)
[3]المدخل إلى مذهب أحمد (1/ 485)
[4] انظرها في الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي (1/ 350)، وسياقها مختلف عن سياقنا؛ لكنها كلمة فتاحة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد