بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لا بد من وجود المصائب، والشدائد، والمحن، والعسر، والمرّ، في الحياة الدنيا، قال فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالغني خياط (ت 1415هـ) [ إمام وخطيب المسجد الحرام] :كم تمرّ بالمرء في أدوار حياته، أحداث وعبر للزمان وظروف الليالي، ومحن ونعم، وفي كل ذلك الحلو والمر، الحلو الذي تسعد به النفس وتبقى في ظلاله ناعمة ما قدر لها ذلك، والمُرُّ الذي يقض المضاجع ويحدث للنفس البلبال وتعكير صفو العيش، فليست كلها زهورًا ورياحين، أو شهدًا سائغًا للشاربين، وإنما هي إلى جانب ذلك الجنادل والصخور يرتطم بها المرء فتزعجه إلى حد ما.
والابتلاء بالشدائد طريق إلى الجنة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: لما كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها، أمره أن ينقل من دار ارتحاله إلى دار إقامته، ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ارتحاله.
وربما أخذ منه كُرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب، من: أهل، ومال، وولد، يسبقونه إليها ليقدم على ما يحب...وإن كان المؤمن لا يشعر بذلك.
فما فرَّق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب إلا ليهب، ولا استرد العوارى إلا ليردها تمليكًا ثابتًا لا استرجاع فيه بعد ذلك.
سبحان من أنعم على عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كُرهًا، وعوَّضهم الصلاة والرحمة والهُدى، وذلك أفضل مما أخذ.
وقال العلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي رحمه الله: إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعة على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة، إلى دار الشقاء والتعب، وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف فعلى العاقل منا معاشر بني آدم _ أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء، حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم، كما قال العلامة ابن القيم تغمده الله برحمته:
ولكننا سبى العدو فهل ترى،،،،،نرد إلى أوطاننا، ونـــســـــلــــــم
ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائمًا.
والدرجات الرفيعة والمنازل العالية والنهايات الفاضلة لا تنال إلا بمشقة قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لله سبحانه من الحِكم في ابتلائه أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصر عقولُ العالمين عن معرفته، وهل وصل من وصل إلى الغايات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال العلماء: كان في قصة أحد، وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد...أشياء عظيمة، منها: أن الله هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. وقال العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله: سُنة الله عز وجل في المطالب العالية والدرجات الرفيعة: أن يكون في نيلها مشقّةً ليتم الابتلاء ويستحق البالغ إلى تلك الدرجة شرفها وثوابها قال الله تعالى ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ [محمد:31]،
وقال العلامة السعدي رحمه الله: الله تعالى يجعل المحن والعقبات الشاقة بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة.
والإنسان مع علو قدره يصاب بالمصائب. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية، من الجراحات والآلام والأسقام، ليعظم لهم بذلك الأجر، وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره، والعاقبة للمتقين.
وقال الشيخ سعدالشثري: الإنسان مع علو قدره، ورفعة منزلته، قد يصاب بشيء من أقدار الله المؤلمة، كما أصيب كعب بن عجرة بالقمل يتناثر على وجهه.
ومن رحمة الله عز وجل بعبده وإحسانه إليه ولطفه به أن يبتليه ببعض والمصائب. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من تدبر حكمته سبحانه، ولطفه وبرَّه بعباده وأحبابه، في كسره لهم ثم جبره بعد الانكسار، كما يكسر العبد بالذنب ويُذلُّه به ثم يجبرُه بتوبته عليه ومغفرته له، وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن ثم يجبره بالعافية والنعمة انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته، وعَلِمَ أنه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأن ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه، وهو أعلم بمصلحة عبده منه، ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك، ولا يُنالُ رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو منه والزلفى لديه إلا على جسر من الذل والمسكنة، وعلى هذا قام أمرُ المحبة، فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك.
من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظُلمه يتهم ربه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
ولولا مِحَنُ الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكِبرِ والعجب...وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلًا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء وحفظًا لصحة عُبوديته
ولولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا، وبغوا، وعتوا.
والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان على قدر حاله يستفرغُ به من الأدواء المهلكة حتى إذا هذبه ونقاه وصفاه أهَّله لأشراف مراتب الدنيا وهي عبوديته، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقربه.
والنفوس تكتسبُ من العافية الدائمة والغنى طغيانًا وركونًا إلى العاجلة وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة فإذا أراد بها ربها...كرامته، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ابتلاء الله عبده في الدنيا ليس من سخطه عليه، بل إما لدفع مكروه أو لكفارة ذنوب أو لرفع منزلة وابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم. وقال ابن رجب رحمه الله كلُّ ما يؤلمُ النفسَ ويشقُّ عليها فإنه كفارة للذنوب، وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب كالمرض.. .كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك
وقال الشيخ عبدالله بن محمد ابن حميد رحمه الله: ما يصيب العبد في الدنيا من المصائب هي رحمة له، وتخفيف عنه، ومن علامات توفيق الله وإحسانه ورحمته بعبده: أن يعجل عقوبته في الدنيا، بابتلائه بشيءٍ من المصائب، لأن ذلك تخفيف من سيئاته، وتكفير لذنوبه وخطاياه.
قال العلامة الجبرين رحمه الله المصيبة إما عقوبة على ذنب اقترفه وإما ابتلاء وامتحان للعبد ليظهر صبره أو جزعه وإما لرفع مزلته...فإنه تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم
والإيمان بالقدر يخفف المصيبة على الإنسان. قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: جميع ما أصاب العباد فبقضاء الله وقدره وقد سبق بذلك علم الله وجرى به قلمه ونفذت به مشيئته واقتضته حكمته ولكن الشأن كل الشأن هل يقوم العبد بالوظيفة التي عليه في هذا المقام أم لا يقوم بها؟ فإن قام بها فله الثواب الجزيل والأجر الجميل في الدنيا والآخرة فإذا آمن أنها من عند الله فرضى بذلك وسلم أمره، هدى الله قلبه فاطمأن ولم ينزعج عند المصائب كما يجرى ممن لم يهد الله قلبه بل يرزقه الثبات عند ورودها والقيام بموجب الصبر فيحصل له بذلك ثواب عاجل مع ما يدخر له يوم الجزاء من الأجر العظيم.
وقال الشيخ عبدالله بن محمد ابن حميد رحمه الله: إذا آمنت بالقدر استراح قلبك، وانشرح صدرك، واطمأنَّ ضميرك، لأنك تعلم أن المصيبة التي وقعت عليك لم تكن جديدة، بل قدَّرها الله قبل أن يخلفك. والعلم بأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك من حلاوة الإيمان، فالإيمان له في قلبك حلاوة وبشاشة، ومن حلاوة الإيمان أن المصيبة التي وقعت يخفُّ ضررها عليك متى اعتقدت أن الله قدَّرها عليك قبل أن تخلق، فإنك تجد شيئًا من الراحة.
وقال العلامة عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين رحمه الله: إذا علم العبد أن كل مصيبة تحدث في الأرض، من قحط أو وباء ونحوهما، أو تحدث في الأنفس أو في الأموال والأولاد، فهي مدونة عند الله في أم الكتاب قبل أن يبرأ الخلق ويوجدهم، وعلم أن الخلق والأمر لله، يتصرف في ملكه بما شاء، وعلم أن ربه حكيم عليم، لا يظلم أحدًا.... فهذا ونحوه مما يحمل على القناعة والرضى بما حصل، وعدم الأسى والأسف على الفائت.
وعلى قدر إيمان الناس يكون تفاوتهم عند المصائب قال العلامة السعدي رحمه الله: الناس إذا مات لهم حبيب، أو أصابتهم مصيبة متفاوتون، فأعلاهم منزلة من يقول: إن لله عليّ حقًا في هذه المصيبة، ولحبيبي علي حق، فأشتغل بتحقيق أداء الحقين عن الاشتغال بفوات حظي من حبيب، فلله علي حق الصبر الذي لا بد منه، ولا يتم الإيمان إلا به، فإن أمكن مع ذلك الارتقاء إلى مقام الرضى والشكر اللذين هما أعلى المقامات، كان هو المغنم الأعلى والحظ العظيم، فيشتغل بهذا الحق، ويعلم أنه إذا قام به أثابه الله من الخير العاجل والآجل أعظم مما فاته بأضعاف مضاعفة، وأما حق حبيبي عليَّ من والد وقريب وصديق ونحوه، فالاشتغال به أن أعمل ما أقدر عليه من الأسباب التي يغتبط بها بعد موته من الاستغفار له، والدعاء، والصدقة، وتنفيذ وصيته، وقضاء دينه، ونشر ما تسبب في حياته من مشروع ديني وغيره، فمن كان كذلك فهو الرجل الحازم، وهو الرجل الذي وفق للقيام بالحقوق وبالوفاء بحق الحبيب، وأما من كان إذا أصيب بمثل هذه المصيبة لحظ فوات حظه فقط، فإنه تحضره الهموم والغموم والسخط، وفوات الثواب، وحصول العقاب.
ومن أُصيب بمصائب وشدائد فصبر واحتسب وجد لذلك حلاوة عجيبة قال العلامة العثيمين رحمه الله: ما أحلى أن يصاب الإنسانُ بمصيبة ثم يتصبر ويصبر، ويجد حلاوة عجيبة، حلاوة وطُمأنينة في القلب، وراحة في النفس، لا يجدها في أعظم واعظ، فلو وعظك إنسان من الصباح إلى الصباح فلا يؤثر فيك تأثير بعض المصائب.
والمصائب مواعظ للمعتبرين: قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: من نعمة الله على العبد: أن يجعل له في المصائب عبرًا؛ لأن كثيرًا من الناس تمرُّ به المصائب؛ لكن لا يعتبر بها، والموفق هو الذي إذا مرَّت به المصائب اعتبر بها للماضي وللمستقبل.
فيعتبر بها للماضي فيقول: ما أُصبت بهذه المصيبة إلا بسبب ذنوب ارتكبتها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [الشورى: 30]، وحينئذٍ يُفكر في نفسه: ما هو الذنب الذي حصل؟ ما هي الأمور التي لا أزال مُطالبًا بها ولم أفعلها؟ وما هي الذنوب التي ارتكبتها من المحارم؟ فيُوجب ذلك له توبةً.
ويعتبر بها في المستقبل، فتكون تربيةً له، فإذا أُصيب بشيء من الأشياء، ففي المستقبل يتجنَّب هذا الشيء؛ لأنه يعرف أنه سيُصاب بمصيبة من أجله، فالمصائب التي تُصيب الإنسان هي مواعظ للمعتبرين، أمَّا من ماتت قلوبهم فلا يهتمون بها.
وقال محب الدين الخطيب رحمه الله: المصائب نتائج متحتمة، لذنوب متقدمة، وما كان الله ليصيب قومًا بمصيبة إلا بما قدمت أيديهم من أسبابها، فإذا انتبهوا بعدها إلى سوء سلوكهم، فأصلحوا من شأنهم وصاروا أمة صدق وحزم وشجاعة وتعاون وإنصاف، تكن المصيبة حينئذ سبب شفائهم من أمراضهم الأخلاقية، وعلاجًا لأدوائهم الاجتماعية.
في الختام فمن نزلت به مصيبة فعليه بالصبر، فهذا ما يفعله العقلاء، قال بعض الحكماء: العاقلُ: يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم.
كما أن عليه انتظار الفرج من الله الكريم الرحيم، وإن تأخر الفرج فذلك للأولياء تهذيبًا وزيادةً في الثواب. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: الله يجعل لأوليائه عند ابتلائهم مخارج، وإنما يتأخر ذلك عن بعضهم في بعض الأوقات تهذيبًا، وزيادة لهم في الثواب.
اللهم يا كريم يا رحمن بصّرنا بما في المصائب والشدائد من منح ومواعظ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد