الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما تقرر كما هومعلوم أن أغلب الأحكام الفروعية هي في إطار الظن وهذا معمول به قضاء وفتيا وهنا سأتكلم عن قاعدة الظن هنا هل هي مطردة أم لها استثناءات أوقيود؟
1- في الحقيقة أن غلبة الظن قد تكون في إثبات حكم شرعي بشكل نظري كمثلا الوتر هل هي واجبة أم سنة مؤكدة، فهنا قام كل مجتهد بأخذ قول ترجح لديه بغلبة الظن، وهذا الظن هوالمعتبر في اجتهاد المجتهد في مسائل الخلاف، هذه هي النقطة الأولى.
2- النقطة الثانية وهي أثر الظن في فعل المكلف نفسه، كمثلا من غلب على ظنه دخول الوقت هل يصلي أم لا بد من التيقن؟ في المسألة خلاف.
كذلك إذا غلب على ظن المزكي أن من سيعطيه الزكاة هومستحق لها، ثم بعد ذلك ثبت غناه، وأنه لم يكن من أهل الزكاة، فهل تجزئ الزكاة التي أخرجها له أم لا؟ في ذلك خلاف.
والمسألتان السابقتان يدخلان في قاعدة هل الواجب الاجتهاد أم الإصابة؟ فعلى القول بأن الواجب الاجتهاد فالظن يكفي ومن قال لابد من الإصابة فلابد من موافقة الأمر الصواب قطعًا، وعلى القولين لومات قبل معرفته الخطأ وهوبذل وسعه ولم يفرط فهومعذور.
والراجح في مذهب مالك أنه متى ما أمكنت الإصابة تعينت وإلا الاجتهاد يكفي.
استثناءات ذلك:
لوغلب على ظن الرجل القيام بركن من أركان الصلاة، فإن الأصل عدم قيامه ويجب عليه الإتيان بها وتأخذ مسألة الشك، خلافا لمن يغلب على ظنه فعل السنة عند من يرى سجود السهو لترك السنة المؤكدة كما هومذهب مالك.
كذلك مسألة غلبة الظن بكفر رجل أوامرأة، لا يحكم به بالكفر عليه حتى يتم استيفاء الشروط وانتقاء الموانع وهنا سأنقل نصوص لبعض الأئمة تدرأ كفر المعين بحدوث الاحتمال:
في حديث حاطب ابن أبي بلتعة أنه كان يخبر مشركي قريش عن أحوال رسول الله فلما علم الرسول فعل حاطب وسأله، قال له حاطب: لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم ولم يكن لي بمكة قرابة فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدا والله ما فعلته شكا في ديني ولا رضا لا كفرا بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد صدق فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
قال الشافعي في الأم تعقيبًا على الحديث: في هذا الحديث مع ما وصفنا لك طرح الحكم باستعمال الظنون لأنه لما كان الكتاب يحتمل أن يكون ما قال حاطب كما قال من أنه لم يفعله شاكا في الإسلام وأنه فعله ليمنع أهله ويحتمل أن يكون زلة لا رغبة عن الإسلام واحتمل المعنى الأقبح كان القول قوله فيما احتمل فعله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بأن لم يقتله ولم يستعمل عليه الأغلب ولا أحد أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذه لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم فصدقه ما عاب عليه الأغلب مما يقع في النفوس فيكون لذلك مقبولا كان من بعده في أقل من حاله وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه. اهـ
وسئل أحمد بن حنبل عن رجلٍ سمع مؤذّنًا يقول: (أشهد أن محمدًا رسول الله) فقال: كذبت، هل يكفر؟ فقال: "لا، لا يكفر، لجواز أنْ يكون قصده تكذيب القائل فيما قال، لا في أصل الكلمة، فكأنه قال: أنت لا تشهد هذه الشهادة". اهـ
قال ابن تيمية:(فإنّ التكفير لا يكون بأمرٍ محتمل). اهـ
قال ابن رجب:(وكذلك ألفاظ الكُفر المحتملة تصير بالنيّة كفرًا، وهذا كلّه يدل على أنّ الأقوال تدخل في الأعمال ويعتبر لها النية)
قال ابن حزم:(وَأما من كفّر النَّاس بِمَا تؤول إِلَيْهِ أَقْوَالهم فخطأ، لِأَنَّهُ كذب على الْخصم وتقويل لَهُ مَا لم يقل بِهِ وَإِن لزمَه فَلم يحصل على غير التَّنَاقُض فَقَط والتناقض لَيْسَ كفرًا بلْ قد أحسن إِذْ فر من الْكفْر).
هذا كله في ثبوت الكفر على المعين وقد نبه ابن حجر الهيثمي على الاحتياط في تكفير المعين حيث قال في تحفة المحتاج:
(ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظيم خطره وغلبة عدم قصده سيما من العوام)اهـ
وهنا فرق بين مسألتين:
1- ثبوت أن الحكم كفر كمسألة تكفير تارك الصلاة تهاونا وتكاسلًا، فهنا كون الحكم كفر هوحكم ظني من حيث الحكم نفسه وهذا دارج في إثباته الظن.
2- تعين الكفر على شخص قال قولًا أوفعلًا محتملًا ويغلب على الظن كفره، وهذه مسألتنا هنا التي يحذر كثير من أهل العلم أن التكفير لا يثبت بها إلا بيقين يقول ابن تيمية:
(وليس لأحد أن يُكفِّر أحدا من المسلمين - وإن أخطأ وغلط - حتى تقام عليه الحجة، وتُبَيَّن له المحجة. ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة). اهـ
يقول ابن دقيق العيد:
(هذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدًا من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خَلْق كثير من المتكلمين، ومن المنسوبين إلى السنّة وأهـل الحديث لما اختلفـوا في العقائد، فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم) اهـ.
هذه نقولات مقتطفة مع بعض التوضيحات والتحرير لمناطات الظن، والخلاف فيما يلزم فيه اليقين وما يكفي فيه الظن، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد