بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في كتابه الماتع «الدولة الأموية» يقدم لنا د. يوسف العش رؤية تاريخية وتحليلية لعصر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ورغم ما كتب عنه في القديم والحديث إلا أن هذه الرؤية اتسمت بالعمق الخالي من المحاباة لشخصية فذة مثل شخصية عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- والتي تؤثرك وتشدك رغما عنك، فهذا الرجل أحب الإسلام من شغاف قلبه فأحبه أهل الإسلام قاطبة في كل عصر ومصر، فرضي الله عن كل من زاد الإسلام عزا إلى عزه وعدلا إلى عدله، أولئك مصابيح الهدي ومنارات الدجى.
** اتجه التيار في الدولة الأموية في عهد الوليد وسليمان نحو التدين والأخذ بمظاهر الإسلام، لكن هذا السير لم يكن سريعا، وإن كان في تقدم مستمر.
** كان سليمان يعرف عمر معرفة جيدة، ولم يكن لابنه عند اقتراب أجله مجال في أن يتولى الخلافة بعده، فقد كان بعيدا في الحرب في القسطنطينية، فأشار عليه رجاء بن حيوة –ذلك العالم التقي النير- أن يودع دنياه بعمل صالح، وهو أن يولي المسلمين عمر بن عبد العزيز.
** استحسن سليمان هذه الفكرة وأحسن تطبيقها، فولاه العهد، وأرضى بني أمية بولاية العهد من بعده إلى يزيد بن عبد الملك، وكان بنو أمية حريصين على أن تبقى الخلافة في أولاد عبد الملك، فأبقاها وأرضاهم بذلك.
** كان عصر عمر بن عبد العزيز عصر رائع من عصور الإسلام، تتجلى فيه مظاهر العدل والحكمة والتقى والفهم والإدراك وحسن السياسة، وكان ناجحًا سياسيًا، لا يلقى معارضة بل تسير الأمور معه، كما تسير المياه في النهر الجاري، مع أن ما عمله من إصلاح يكاد يكون قلبا للدولة الأموية... نرى عصرا هادئا ساكنا خاليا من المعارضة، مع كثرة الجديد الذي فيه.
** ولنقارن بين عمر بن عبد العزيز وعبد الملك بن مروان، فقد كان عبد الملك طموحا غاية الطموح، يريد أن يتفوق كل التفوق أينما كان، وعمر بن عبد العزيز يشابهه في هذا، لكن على وجه آخر .. يذكر عن عبد الملك –إن صح ذلك- أنه لما بلغه خبر انتقال الخلافة إليه ودع المصحف الذي كان بين يديه لينطلق إلى الحكم، أما عمر فهو حين أتته الخلافة ازداد دينا وتقى، بل بلغ منه التقى ما لم يكن يظن فيه قبل الخلافة، وسيرته حين الخلافة هي سيرة الطهر الخالص الرقراق، أما قبل الخلافة فقد كان رجلا صالحا.
** كان أول أعمال عمر أنه رد إلى بيت المسلمين الأموال التي منحه إياها الخلفاء السابقون من بيت مال المسلمين، واضطر زوجته وهي بنت عبد الملك أن ترد حليها، على أنه لم يتعد في الحكمة والتروي، فهو كان يعرف طبيعة الناس، فلم يسترد منهم ما أخذوه من بيت مال المسلمين، على أنه بضرب المثل بنفسه استطاع أن يوقف البذخ في العطاء الذي اعتادوا عليه.
** حاول إصلاح أخطاء بني أمية والتي تتمثل في:
1/ ساروا على طريقة الحجاج في الانتقام من أعدائهم، وعدم التسامح معهم، فألبوا عليهم الأعداء من علويين وخوارج وموالي وعلماء.
2/ استعملوا بيت المال لإرضاء رغباتهم يعطون منه من يشاءون، ويمنعون من يشاءون، فيدخل في المنع والعطاء ميل الخليفة ورغبته ونقمته وعدم رضاه، فيزداد الأعداء الناقمون، ويزداد الطمع والشره من الأصدقاء، وكان البذخ في عهد بني أمية أمرا عاديا.
** طالب عمر بن عبد العزيز بني أمية بالمظالم، والمظالم هي الأموال أو الأملاك التي وضعوا أيديهم عليها بغير حق، وقطع عن بني أمية كل عطاء لا يستحقونه من بيت المال، وسوى بين الناس في العطاء، بل أشرك في ديوان العطاء غير العرب من الذين دخلوا الإسلام وساروا للجهاد.
واستعاد عمر الفاتحين في آسيا الصغرى إلى الثغور، فهو كان يعد الفتح في بلاد الروم بلاء على المسلمين، ويعد الغاية منه إظهار البطولة دون فائدة كبيرة، والحصول على الغنائم والأسرى مقابل هدر كبير لدماء المسلمين، وهو كان يشفق على المسلمين، ولعله كان في ذهنه أن يرتب للفتح ترتيبا آخر.
أيا كان فقد استفاد من توقف الفتوح في هذه المنطقة، فبادل الأسرى، وكان يعطي مقابل الأسير المسلم عشرة من أسرى الروم، وطبيعي أن الأسرى من الروم كان عددهم أكبر بكثير من عدد أسرى المسلمين، والذي يهم عمر أن يعود أسرى المسلمين إلى ديارهم.
** وكان شفوقا رحيما يعطف على الضعفاء والمنكوبين، ويهمه أمر المسجونين، فأصلح السجون، وفرق بين سجون الرجال والنساء، وأجرى الجراية على المسجونين في أكلهم وما يحتاجون إليه، وأمر بألا يقيد مسجون في السجن، وألا يقتل إنسان بحد أو تقطع يداه ما لم يوافق الخليفة على ذلك، وكان عمال بني أمية يطبقون الحدود من عندهم فضيق بذلك حريتهم.
** وعمل الخانات في أقاصي بلاد الإسلام، يأوي إليها المسافرون يوما أو يومين، يرتاحون من عناء السفر، ويجدون غايتهم فيها.
** وتصدى لإصلاح خطأ بني أمية في عداوتهم لمن عاداهم، وأول ما فعل أنه قطع السب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وتألف قلوب الخوارج، وأسكتهم طيلة عصره، فلم يخرجوا عليه، وأرسلوا إليه وفدا فناظرهم وأقنعهم في أكثر النقاط، فسلموا له بأنه عادل.
** ونظر في الموالي، فعاملهم كما يقتضي الإسلام، لا يهتم أبدا بالدخل الذي يأتي من التشدد عليهم وإكراههم على العمل، وحط عنهم الضرائب التي كانوا يدفعونها، من ضرائب النيروز (هدايا تعطى في أول العام) ومن ضرائب الأيين (وهي تشبه ضرائب الجمارك) وغير ذلك من الضرائب التي كان يأخذها الولاة، فيستفيدون منها في ولايتهم، ولا تصل إلى بيت المال.
** وكان ينظر في كل شكاية ترد إليه، فقد فتح بابه للمظالم، ولم يكتف بما فعله عبد الملك بن مروان الذي أقام قاضيا للمظالم، بل قعد عمر بنفسه للمظالم، وبلغه بقعوده أشياء كثيرة فأصلحها. سواء منها ما كان للأفراد أو الجماعات.
** مثال ما أصلح بشأن الجماعات أن البربر أسلموا في عصر بني أمية، وكانت بناتهم مسترقة قبل الإسلام، وبقين في الرق بعده، فتظلموا إليه، فأمر أن تعاد إلى أهلهن البنات اللواتي لم يتزوجن، أو اللواتي لا يريد أسيادهن زواجهن.
** وأعطى لكل مسلم عربيا كان أو غير عربي الحرية في التنقل، يذهب أنى شاء، وكان الحجاج قد فرض على الموالي ألا يغادروا قراهم.
** وتظلم إليه أهل سمرقند، فقالوا: إن مدينتهم لم تفتح فتحا، وإنه ليس للمسلمين حق فيها، فأرسل إلى واليه ليقيم قاضيا ينظر في دعواهم، فوجد القاضي أن الحق مع أهل سمرقند، فكتب إلى الخليفة بذلك، وأشار عليه بأن العدل هو أن يخرج المسلمين من سمرقند، فأمر بأن يخرج المسلمين منها، لكن وجد أهل سمرقند أنه من الأفضل لهم أن يبقى المسلمين فيها.
ففي خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-كان قتيبة بن مسلم الباهلي قد فتح الله على يديه مدينة سمرقند .افتتحها بدون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية, ثم يمهلهم ثلاثًا كعادة شرع المسلمين, ثم يبدأ القتال .
فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله, أرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند .. يقول هذا الرسول:
أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهرًا حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان, فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذًا، فلما رأيت أعظم بناءٍ في المدينة, دخلت إليه وإذا أناس يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون, فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟
قال: لا , بل هذا هو المسجد.
قال: صليت؟ قال: قلت: وما صليت؟ , قال: وما دينك؟
قال: على دين أهل سمرقند, فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين, ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله؟
قال: أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم .
قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين .
فقلت: أتهزأ بي؟
قال: لا ولكن اسلك هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده.
قال: فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ طينًا ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين, قال: فرجعت إلى الذي دلّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين .
قال: فطرقت الباب وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم علي ورحّب بي وغسّل يديه, وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها, (من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضيًا ينظر فيما ذكروا), ثم ختمها وناولنيها.
فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق .. ماذا تفعل هذه الورقة؟! وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها؟!.
قال: وعدت بفضل الله مسلمًا كلما دخلت بلدًا صليت بمسجده وأكرمني أهله, فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة فأظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت، وذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي «جُمَيْع بن حاضر الباجي» لينظر في شكواهم, ثم اجتمعوا في يوم، وسألناه دعوانا فقلنا: اجتاحنا قتيبة, ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا.
فقال القاضي: لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة – رحمه الله – أنت ما تقول؟
قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه .
قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشرًا وبطرًا, ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقًا للمبادئ الإسلامية .
ما ظنّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند, خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال .
فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها, قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة, فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
** وشكى إليه النصارى في دمشق من أن الوليد بن عبد الملك قد نقض كنيستهم، وأقام على أنقاضها الجامع الأموي، مع أنها سجلت من حقهم حين فتح دمشق، فأجابهم إلى مطلبهم، وقال: ننقض جامعنا ونعيد كنيستهم، غير أنه ألفى أن المسلمين تركوا للنصارى كنيسة «توما» في الجهة الشرقية من دمشق مع أنها من حق المسلمين حين الفتح، فعزم على أن تنقض وأن يبنى مكانها جامع، وانتهى الأمر بأن قبل النصارى بأن يبقى المسجد الجامع في مكانه، وأن تبقى لهم كنيستهم في مكانها.
** أما مع العلويين فقد رد عليهم مظالمهم دون أن ينتظر تشكية منهم، وكان في يديه أرض فدك التي كانت لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطلبتها منه ابنته فاطمة فلم يعطها إياها، وجاء أبو بكر فطلبتها فلم يشأ أن يغير أمرا قضاه الرسول لأن الأنبياء لا تورث، وكذلك فعل عمر، ثم انتقلت إلى مروان، فصار يتصرف فيها، وانتقل حق التصرف فيها إلى عمر بن عبد العزيز، فأعادها على النحو التي كانت فيه على عهد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمعنى أنه صار يوزع غلتها على بني هاشم.
** وتظلم إليه أهل نجران، وكانوا أصلا من اليمن، وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد وضع عليهم جزية ألفي حلة ليحتفظوا بدينهم النصراني، وتعهدوا مقابل ذلك ألا يتعاملوا بالربا، ولما تعاملوا به أخرجهم عمر بن الخطاب من اليمن، ونقلهم إلى النجرانية بأطراف الكوفة، وخف عددهم مع الزمن، وتقاسى عليهم الحجاج بصفة خاصة، فبعد أن كان الخلفاء قد أعفوهم من قسم من الجزية لنقصان عددهم، زاد عليهم الحجاج الضريبة، ولما تظلموا إلى عمر بن عبد العزيز أنقص الضريبة عنهم بمقدار نقصان عددهم.
وهكذا ساد العدل في عهد عمر بن عبد العزيز وأخذ كل ذي حق حقه، فرحمه الله عليه رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد