تنزيلات أصولية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

‏قراءة تحليلية أصولية لحديث:"يا عبدالله لا تكن مثل فلانٍ، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل".

‏١- النداء لابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - نداء خاص؛ لأن الخاص ثلاثة انواع: أحدها أسماء الأعلام، ويثبت الحكم لمدلوله الخاص على سبيل القطع لا الظن،فدلالته قطعية بدون احتمال.

‏٢-"لا تكن" نهي, والنهي من الخاص، والنهي قد يكون مع عام نحو؛}لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى{، فالنهي عن القربان خاص، ولكنه عام لكل الناس في "واو الجماعة", وأيضا عام في كل صلاة.

 وقد يكون خاصا مع خاص،كما في هذا الحديث.

‏٣- "مثل فلان" هذا قياس، وهو قياس عكس؛ لانه إثبات نقيض حكم الأصل لحكم الفرع؛ فاعتبر بحالة فلان، فلا تكن حالتك كحالته.نحو قوله تعالى:}ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.{

‏٤-"كان يقوم" فعل" كان" يدل على الدوام والاستمرار، ودلالة الماضي: الجزم بتحقق الوقوع، كما أن من دلالة:" كان" تساوي وقوع الفعل في الزمن الماضي. والفعل المضارع:"يقوم" يدل على التجدد، وهو خبر كان.

فلم يفتر أو ينقطع عن القيام في زمنه الماضي.

‏٥- "فترك قيام الليل"الفاء من حروف المعاني، وهي تدل على العطف والترتيب والتعقيب وأحيانا تدل على السببية، كما أنها تربط بين معاني الجمل.

‏٦-"فترك قيام الليل" الفاء عاطفة، والعطف هنا عطف جملة على جملة، والعطف بالفاء يفيد الترتيب مع التعقيب، يعني أن الانقطاع عن القيام مباشرة بعد القيام.وهذا له دلالة في أن ترك الفعل جاء لسبب من القيام ذاته.

‏٧-ومن دلالات تعاطف الجمل بالفاء: السببية، وهذا ليس لازما، لكن قد يقع أحيانا حسب المعنى، نحو:}فوكزه موسى فقضى عليه{، ونحو:"سها فسحد""ونام فتوضأ" بأن تكون الجملة الأولى سببا للجملة الثانية.

‏٨-وإذا كانت الجملة الأولى سببية للثانية، يكون المعنى: أن فلانا كان يقوم الليل على صفة جعلته يترك قيام الليل من الطول، والمشقة على النفس.

ويؤيده ظاهر:"كان يقوم الليل" فيدل على قيام الليل كله.والاستدلال بالظاهر هو الأصل، حتى يأتي ما يصرفه.

‏٩-وإذا جمعنا هذا المعى مع دلالة السياق، ورأينا حال ابن عمرو -رضي الله عنهما - فدلالة السياق تقويه؛ لأن ابن عمرو حاور وحاول مع النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر, إطالة العبادة وزيادتها عن الحد الشرعي، ولم يوافقه عليه الصلاة والسلام على هذا.

‏١٠-وأيضا إذا نظرنا في سياق حال بعض الصحابة، فقد حصل من بعضهم اعتداء في العبادة، وطول؛ كالثلاثة الذين تقالوا عبادته عليه الصلاة والسلام فأرشدهم إلى السنة، وعثمان بن مظعون وغيرهم.وهذا يقوي الظاهر، والاحتجاج بالظاهر يحتاج لمقويات لبقاء الحكم عليه، وأنه لم يصرف عنه.

‏١١-"كان يقوم الليل"، "الليل"هنا عام يشمله كله، وهذا على معنى بأنه يقوم الليل كله؛ فيكون هذا على الحقيقة بقيامه كل الليل؛ فيكون سبب تركه لقيام الليل: تعديه الحد الشرعي.

‏١٢-أو يقوم بعض الليل على المعنى الآخر؛ فيكون ترك القيام بسبب العجز والكسل فيكون مجازا، فعبر بالكل في قيامه الليل عن البعض. والعلاقة هي الكلية، والقرينة الصارفة: شرعية، وهو النهي عن قيام الليل كله، وأيضا القرينة الصعوبة والطول.

‏١٣- "كان يقوم الليل.." الألف واللام إذا دخلت على اسم الجنس:يعم فالأصل أن القيام والترك لليل كله، ولكن سبق بيان ما يحمل على المجاز، وما يحمل على الحقيقة.

‏١٤-"فترك قيام الليل" في الترك: الليل هنا ليس مجازا لأن المقصود ترك القيام كله؛ لأنه عام استغرق كل الليل، في كل الليالي، فلو قام بعض الليل لم يتعرص للذم.

ولو قام ليلة، وترك ليلة لم يتعرص للذم؛ فإن هذا لا يسمى تاركا للقيام لأنه يصدق عليه الفعل بأي جزء ينطلق عليه اسم القيام الشرعي.

‏١٥-القياس الأولوي: هل من ترك القيام مطلقا أولى بالنهي ممن قام ثم ترك، أو العكس؟

هذا موضع نظر؛ فإن كان في جهة اعتياد الصالحات والنظر التربوي، وأن ترك المؤكدات قد يؤدي لترك المفروضات؛ فإن ترك سنة مؤكدة تركا مطلقا؛ مؤشر على خطورة انحدار في الإيمان، فلا يكون الترك مطلقا أولى. وإن كان مجرد موازنة بين الأفضل منهما؛ فالذي عمل ثم ترك، خير من الذي لم يعمل مطلقا.

‏١٦-"كان يقوم الليل فترك قيام الليل" علة النهي.

لكن يجب فهم هذه العلة، هل كان سبب تركه تكاسلا. أو كان سبب تركه غلوا أقعده عن الدوام، كما سبق من المعاني المحتملة.

‏١٧-"لا تكن" نهي، والأصل في النهي التحريم، ولكن هذا النهي للكراهة؛ لأن النهي متعلقه ترك أمر مسنون، وترك المسنونات لا يقتضي التحريم بالاتفاق.إلا على قول من يوجب الوتر، والوتر جزء من قيام الليل؛ فيكون النهي هنا للتحريم.

‏١٨-"كان يقوم الليل" القرينة الصارفة للنهي إلى الكراهة، كونه قيام الليل فعلى من يقول: بأن قيام الليل،ومنه الوتر، سنة فيكون صارفا للنهي عن التحريم، أما من يقول بأن قيام الليل يدخل فيه الوتر، والوتر واجب؛ فيكون هذا مقويا لوجوب الوتر.

‏١٩-"لا تكن" تفاوت رتب النهي؛ فليست المنهيات على وزان واحد، وإن اتحدت الصيغة، وإنما تعرف رتبة النهي من مقصد النهي.

٢٠-"فترك قيام الليل" التفريق بين الترك بالجزء والترك بالكل؛ فلو ترك المندوب بالجزء، كأن يتركه مرة واحدة فلا يستحق النهي، ولكن الإدامة على تركه تجعله يستحق النهي.

‏٢١-"فترك قيام الليل" تفاوت رتب المنهيات فليس ترك قيام كترك سنة الضحى؛ فلتأكده استحق النهي عن تركه.

٢٢- "فترك قيام الليل"، قيام الليل مكمل ضروري ، ومكملات الضرورات يجب العناية بها لأن مكمل الضروري وقاية للضروري.

‏٢٣-هل النهي خاص بقيام الليل أو يتعداه لكل طاعة داوم عليها العبد ثم قطعها؟

الظاهر أن قيام الليل له خصوصية في النهي لتأكده على غيره من المندوبات. وإذا كان في المنهي عنه خاصية ينفرد بها عن غيره لم يستو مع غيره في الحكم.

‏ولكن غيره من المندوبات يدخل معه في عموم المعنى المنهي عنه، لا خصوصه؛ فإذا بدأ المكلف بعمل فلا يقطعه بل السنة إدامته؛ لأن هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام؛ فإنه كان إذا عمل عملا أثبته.

‏٢٤- ما سيق الخطاب لأجله يدخل فيه دخولا قطعيا، وهو النهي عن ترك قيام الليل، وأما غيره فيدخل فيدخل فيه دخولا ظنيا، وهو النهي عن بقية الأعمال الصالحة التي يبدأ بها المكلف ثم يقطعها.

‏٢٥-فيه دليل على صحة القياس.

٢٦- هل المنهي عنه، نهي على الحقيقة، أو على المجاز؟

 النهي عن ترك قيام الليل نهي على الحقيقة عند  جمهور الأصوليين؛ لأنه يقتضي منهيا عنه حقيقة، وهو ترك قيام الليل لوجود فارق شرعي بين من يقوم الليل، ومن يترك القيام.

وهذه المسألة مبنية على النهي، هل هو حقيقة في التحريم مجاز في الكراهة؟

أو حقيقة في كليهما، وبناء عليه يكون الخلاف في المنهي عنه.

‏٢٧- هل النهي عن ترك قيام الليل بعد المضي به، أمر بضده وهو قيام الليل؟

إن كان النهي له ضد واحد؛ فإنه أمر بضده، وإن كان له عدد من الأضداد فهو أمر بأحد أضداده.وهنا له ضد واحد، وهو: قيام الليل؛ فيكون القيام مأمورًا به.

‏٢٨- الأصل في النهي أنه على الفور، وهنا من مقتضاه ترك مشابهة من يترك قيام الليل فورا استحبابا، وفعل قيام الليل.

كما أن الأصل في النهي أنه يقتضي التكرار والدوام، على خلاف الأمر، وكل شيء دوامه بحسبه شرعا؛ فيقتضي إدامة ترك مشابهة من يقوم الليل، ثم يتركه، استحبابا.

‏٢٩-"مثل فلان" الاسم مبهم باتفاق الروايات، وللإبهام مصالح تربو على التصريح: كالستر، وتعميم الحكم؛ إذ الاعتبار بالمعنى الحاصل لا بالأسماء، وهذه عادة الشرع:الستر على المقصر.

وتعظيمه وتحقيره بالوصف، دون الاسم، وكونه معروفا، أو مجهولا،عند المخاطب؛ فتنتفي فائدة ذكر الاسم.فهذه مقاصد الإبهام في الخطاب.

٣٠-وفي الإبهام دلالة، وهي: قلة من يقطع قيام الليل بعد الدخول فيه؛ فلم يكن هذا معروفا عن الصحابة -رضي الله عنهم - إذ لم يحصل إلا من فلان هذا، وهو غير معروف.

وكانوا -كلهم أو غالبهم- يقومون الليل ابتداء، ويداومون عليه، ولا يعرف عنهم قطعه وتركه، لمن بدأ فيه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply