بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: إن الحياة تتقلب صفحاتها بين خير وشدة وسرور وحزن، وتموج بأهلها من حال إلى حال؛ وصدق الله إذ يقول:﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾. وفي الحياة مصائب ومحن وابتلاءات، ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾.
فيومٌ علينا ويوم لنا *** ويوم نساءُ ويومٌ نسر
أحداث الحياة وشدائدُ الأحداث قد تورث المرء لونا من اليأس والقنوط الذي هو مثبِّط للعزائم ومحطّم للآمال.
وفي أوقات الأزمات والكوارث تعظم الحاجة لاستحضار خلق التفاؤل، وهو انشراح القلب وإحسانه الظن، وتوقع الخير بما يسمعه من الكلم الصالح والقول الحسن والطيب، وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ قال:"لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، والكلمة الطّيّبة". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لا طيرة وخيرها الفأل". قيل: وما الفأل؟ قال:"الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم".
"ويعجبني الفأل"، ما أروعها من كلمة، وما أعظمها من عبارة من مشكاة النبوة تضيء الحياة وترسم للأمة المنهج في التعامل مع الواقع واستشراف المستقبل، فالسيرة النبوية زاخرة بمواقف خالدة وكلمات مضيئة تحمل في طياتها التفاؤل وبسط الأمل؛ حتى لا تُصاب النفوس باليأس والقنوط، ومن قلب الشدة ينطلق نداء التفاؤل والثقة بنصر الله وفرجه، فيقول ﷺ لأبي بكر الصديق وهما ثاني اثنين في الغار في حادثة الهجرة:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما"فسطر القرآن الكريم أعظم كلمات الفأل والأمل ﴿إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا﴾.
وحياة الأنبياء والرسل كُلها فأل وعزيمة:﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾. فهذا يعقوب عليه السلام ابتلي بفقد ولده الغالي فقال:﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. ثم فقد أخاه الثاني فقال: ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾. لم يقنط ولم ييأس فجاء الفرج فاجتمعوا بعد فراق: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾.
وفي هذا درس عظيم أن المسلم المتفائل لا يسمح لمسالك اليأس أن تتسلّل إلى نفسه أو تعشّش في زوايا قلبه، قال تعالى:﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
وقصة خروج أبينا آدم وزوجه من الجنة بداية الفأل والأمل فبعد انكسار المعصية ووسوسة الشيطان والخروج من نعيم الجنة والهبوط لدار الامتحان والابتلاء:﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
التفاؤل غمر حياة النبي ﷺ، وربّى عليه صحابته وأمته، حتى في أحلك المواقف؛ فتفاءل بالنصر في غزوة بدر، بل أخبر أصحابه بمصرع رءوس الكفر وصناديد قريش، وفي غزوة الأحزاب وعند حفر الخندق بشر أصحابه بفتح مدائن كسرى وقيصر.
وعندما يعود المريض يمسح عليه بيده اليمنى ويقول ﷺ:"لا بأس، طهور إن شاء الله". تفاؤلًا بالشفاء وزوال الوجع، وكان يغير الاسم القبيح إلى الاسم الحسن، وفي الحديبية جاء سهيل بن عمرو يفاوض عن قريش، فتفاءل رسول الله ﷺ وقال: "سهلٌ إن شاء الله".
كل ذلك وغيره كثير، يصور لنا تلك النفس العظيمة الواثقة بربها، وما أحوجنا اليوم إلى استلهام سيرته وهديه:﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾، فإن واقع أمة الإسلام اليوم، وما هي فيه من محن ورزايا، ليستدعي إحياء صفة التفاؤل، تلك الصفة التي تعيد الهمة لأصحابها، وتضيء الطريق لأهلها.
التفاؤل أساسه حسن الظن، وعماده الثقة بالله تعالى، والرضا بقضائه، وغذاؤه علمُ المؤمن أنّه لن يصيبَه إلا ما كتبه الله له، فلا يستبطئ الرزق، ولا يستعجل، بل يتفاءَل حتى لو نزلت به مصيبة أو دهمه مرض أو فقر.
والمؤمن يتفاءل مع العمل على دفع ما يقدر من بلاء أو تخفيف ما نزل به من ضرّ، ثمّ يطمع في ثواب الصبر وتحمّل المشاق، قال ﷺ:"ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة". رواه مسلم.
والمؤمن يفعل الأسباب المشروعة والمباحة فيعمل ويطلب الرزق، ويدفع المرض بالعلاج، والجهل بالعلم، والمصائب بالصبر، قال ﷺ:"ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة". رواه مسلم.
"ويعجبني الفأل" لأنّ في كل محنة منحةً، ولا تخلو مصيبة من غنيمة، وفي معترك المصائب توقد جذوة التفاؤل، مع أمل ودعاء وصبر، فقد كان النبي ﷺ إذا استسقى قلب رداءه بعد الخطبة تفاؤلا بتحوّل حال الجدب إلى الخصب.
"ويعجبني الفأل"، لأن المتفائل بالخير سيحصد الخير في نهاية الطريق؛ فالتفاؤل يدفع بالإنسان نحو العطاء والعمل، وكما قال تعالى:﴿إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا﴾.
وفي ميدان الدعوة تفاؤلٌ وتيسير وتبشير، قال ﷺ:"يسّروا ولا تعسّروا، وبشروا ولا تنفروا". والغلو يثبّط العزائم وينفّر من الدين، والمتشائم همه التلاوم، وسوء ظن بالآخرين، وهذا يفضي إلى إطلاق الأحكام على الناس واعتزالهم وتكفيرهم أو إلى الانحراف والتحلل من قيم الدين، قال ﷺ:"إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم". رواه مسلم.
وأخطر الناس من عاش بلا أمل، يسقط فلا ينهض؛ ويسوقه اليأس إلى الأفعال اليائسة، أو يدفعه إلى الانتحار أو العنف، قال تعالى:﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾.
الخطبة الثانية:
اتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أن المؤمن متوكّل على الله، يحسن الظنَّ بربه فبيده مقادير الأمور، ويكشف الضرَّ، ويجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحزن سرورًا، فارجوا رحمة الله، وتعلّقوا بحبله المتين، وثقوا بوعده، مع بذل الأسباب والعمل والبناء، قال تعالى:﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾.
ألا وصلّوا عبادَ الله على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد