الإنسان المترقب


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

أحد التَسميات الجديدة التي يستخدمها علم النفس في تشخيص مشكلات الإنسان، مصطلح:

(Homo Prospectus)  الإنسان المُترقِّب، والتي تعني أنّ أكثر صِفَة مُميِّزة للإنسان، هي أنّه يقضي الجزء الأكبر من يومه وهو يتطلّع إلى المُستقبل، ويترقّب وقوع القادم الذي لَمّا يأتي بَعد!

هذا الكائن المَهجوس والمَسكون بما سيجري لاحقًا!

لذلك يحمل الخطاب القرآني طمأنة وجودية للمُؤمنين حيال مُستقبلهم، وكلّ مجهول يخشونه (الشيطان يعدكُم الفقر) وتجاه ما سيأتيهم في قابل الأيام ومصيرهم بعد المَوت{‏أَلَا إِنَّ أَولِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوفٌ عَلَيهِم‏}‏ قال الإمام السعديّ: أيّ فيما يستقبلونه ممّا أمامهم من المخاوف والأهوال‏.‏

تكمن المشكلة الأساسية، في أنّ العقل البشريّ، لا يُميِّز بين الوجود الحقيقي للخطر على أرض الواقع، وبين مُجرّد تخيّله أو التفكير به.

أيّ أنّ جسم الإنسان يبدأ سلسلة من التفاعلات العصبية كاستجابة دفاعية لرفع مُستوى التأهّب لمُجرّد تخيّل تهديد أو خطر مُستَقبَلي لا وجود له على أرض الواقع في الّلحظة الحالية.

وإذا أمعنتَ النظر.. وجدتَ أنّ حياتك تكاد تكون سلسلة من الترقّب لما هو قادم:

- حين تكون في المنزل، تُفكِّر كيف ستتصرّف في العمل غدًا.

- حين تكون في العمل، تُفكِّر كيف ستتآخر بفعل أزمة السير.

- حين تكون عالقًا في أزمة السير، تفكّر بالمسؤوليات المنزلية التي تنتظرك.

الرابط المشترك دائمًا في تفكير الإنسان، هو أنّه يرحل بنفسه إلى لحظة قادمة لم يحِن وقتها بعد، فيُصاب بالقلق والفزع والإرباك.

روبرت سابولسكي عالم الأعصاب والسلوك، أشار لهذه المُفارقة على من خلال كتابه (لماذا لا يُصاب حمار الوَحش بقُرحة المَعدة؟) كاستجابة طويلة ومُزمنة على ضغوطات الحياة اليومية وتوتّراتها، وذكر بأنّ حمار الوحش لا يشغل نفسه بالأسئلة التالية كما يفعل الإنسان:

- ماذا لو لَم أستطع الحصول على ضمان اجتماعي لبقيّة عمري؟

- ماذا لو وصلت إلى حيث أريد ولَم أجد مكانًا لاصطفاف السيّارة؟

صيغَت مصطلحات عدّة لتمييز الإنسان عن غيره من باقي المخلوقات، بدأت بأنّه (حيوان ناطق) مرورًا بكونه (حيوان سياسيّ).

واستخدم جوناثان غوتشل مصطلح (الإنسان الحكّاء) أي الكائن الوحيد الذي ينسج القصص والأساطير عن نفسه وعن الوجود.

وكان الوصف التطوّري للإنسان هو الأكثر تداولًا (الإنسان العاقل) .Homo Sapiens

لكنّ الفكرة الجديدة التي أتى بها سليغمان ومدرسته في علم النفس، هي أنّه من الأدقّ أن نفهم الإنسان وسلوكه واضطراباته بالنظر إلى الكيفية التي ينظر بها إلى المُستَقبَل وليس إلى الماضي ولا إلى الحاضر كما تقول باقي مدارس علم النفس.

بحسب سليغمان، فإنّ التحليل النفسيّ يُغرِق بالنظر لخبرات الماضي وتجارب الطفولة، وأنّ المدرسة السلوكية تُغرِق برصد عوائد/عواقب التجارب المُسبَقة، والمدرسة المعرفية تُغرِق في رصد الإدراك اللحظيّ والحالي.

ويقول ماذا عن المُستقَبَل؟ ألا يُؤثِّر إدراكنا للمُستقبل على سلوكنا الحالي؟

- ماذا لو لم يكن هدف الذاكرة تخزين مُحايد لحفظ الملفات السابقة، وإنّما أداة إدراكية لتوسيع مجموعة الاحتمالات التي يُمكِن تجنّبها في المُستقبل؟

- ماذا لو كانت المشاعر ليسَت إثارة لحظية لما يجري الآن، ولكن رسالة إدراكية لتحذيرنا أو تبشيرنا ممّا سيجري لاحقًا؟

- ماذا لَو لَم تكن الأخلاق تقييمًا للسلوك الحاليّ، ولكن سؤال شديد الإلحاح لحمايتنا من الانحدار والتدهور في المُستَقبَل؟

أخيرًا، يتساءَل سليغمان على مستوى إكلينيكي، ماذا لو كان علاج جزء كبير من الاضطرابات النفسية يتمركز أكثر، على تدريبنا على مواجهة المُستَقبَل، أكثر من تركيزنا على خبرات الماضي؟

وخلاصة هذه الفلسفة عمومًا، هي أنّ كلّ ما يجري للإنسان هو الفرق بين توقّعاته وبين ما يجري له، والإنسان بحسب هذا المنظور يملك حرّية تشكيل مستقبله، فمهمّة الإنسان بحسب هذا المنظور هي أن يعمل على تقليص الاحتمالات المُستَقبَلية الخاطئة، عبر الوقوف في أماكن صحيحة في الّلحظة الحالية.

لكن ما المُستفاد من هذه الفكرة؟

ما تخلص إليه هذه المدرسة هو التركيز على (مَواقعنا الابتدائية)، على*نقاط الانطلاق*التي نقف عليها في هذه الّلحظة، والتي سُتعيد تشكيل احتمالات المُستَقبَل.

وقد قال علماء التزكية من قبل: من صحّت بدايته.. أشرقت نهايته.

وحين سُئلت السيّدة نفيسة عن الإمام الشافعي، قالت:*كان يُحسِنُ الوضوء*.

وهذا مَلمَح غاية في الذكاء لرَجُل كان الأحرى أن يُعرَف به أصوله وفقهه ومُنجزه العلميّ، لكنّها أرادت القول: أنّ هذا الإرث العلميّ الضخم، ما هو إلّا مسار طبيعي ومتوقّع لرَجُل كان يعتني بالبدآيات ويلتفت للتفاصيل ويُراعي موقعه الابتدائي ممّا هُو مُكلّفٌ به ابتداءً.

إنّ أفضل طريقة لتبديد خوفك من المجهول، هي أن تُحسِن ما تفعله في هذه الّلحظة، وأن تعتني بالبدآيات (مداخِل الصّدق)، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply