لماذا أنا دون كل الناس


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

يظلّ البشر غارقين في الحياة اليومية في غفلة وكأنّها حياة أبدية مضمونة، حتّى يتعرّضوا لصفعة الواقع، تلك الصفعة التي تذكّرهم بأنّهم كائنات هشّة ومحدودة، وتُعيد إلى وعيهم حدود فنائهم.

يُسمّى المعالج النفسي الشهير د. روس هاريس، هذه الحالة بـ *صفعة الواقع The Reality Slap *وهي الضربة التي نتلقّاها من الحياة، بين الحين والآخر، بعضنا تأتيه الصفعة كفاجعة، مثل موت أحد الوالدين، وبعضنا تأتيه على هيئة شعور كثيف بالألم، حين ندرك أنّنا وحيدون، وبعض الصفعات تأتي مثل ضربة تفقدك توازنك، مثل إفلاس فُجائي، تقاتل من بعده كي تظلّ واقفًا على قدميك.

خلافًا للموجات السابقة للعلاج النفسي، تُؤمن الموجة الثالثة من العلاجات النفسية بأنّ أفضل طريقة لعلاج الذات من أعطابها وجراحها وآلامها، لا تكمن بمقاومة الألم ولكن بتقبّله والسماح لذواتنا بتجربة الألم لأقصاه.

واجه العلاج النفسي التقليدي تحدّيًا جوهريًا أمام التجارب البشرية الصعبة (الأوضاع التي لا يمكن تغييرها).

كانت النظرة السابقة مُفرطة بالتفاؤل وأحيانًا مبتذلة بل وسطحية، كانت المقولة الأساسية للعلاج النفسي المعرفي تقول لنا: أنّ أيّ مشكلة إنسانية، عاطفية أم وجودية، هي مجرّد إشكال إدراكي، يكفي أن نُغيّر الطريقة التي نفكّر بها، وطريقة إدراكنا للأحداث كي نتعافى من معاناتنا.

كانت المدرسة التقليدية للعلاج النفسي المعرفي، تقول أنّنا نُعاني في أذهاننا أكثر ممّا نُعاني في الواقع، وأنّ أحداث الواقع ليست هي السبب الحقيقي للمعاناة، وإنّما مصدر المعاناة هو الطريقة التي نُفسّر بها الأحداث.

صعدت الموجة الثالثة من العلاج النفسي المعرفي، كي تواجه الظروف التي لا طائل من إنكار قسوتها وشريريّتها، حين تتعرّض فتاة للاغتصاب، أو حين يُفجَع أب بفقدان طفلته المُفضّلة، حينها سيواجه المعالج النفسي تحدّيًا لإقناع الشخص المتألّم بأنّ طريقة تفكيره هي السبب.

وجد العلاج النفسي المعرفي في صيغته الأولى نفسه أمام حدود عملية ونظرية، جعلته يعرف حدوده الطبيعية، وجد نفسه أمام جدار الواقع، مقهورًا بسطوة القدر وتصاريفه، وفي مواجهة الأحداث القهرية التي يعجز البشر عن إيجاد تفسير لها بمنظومة فكرية دنيوية "منظومة محايثة. Immanence"

إذ يسأل النّاس تحت وطأة المصيبة، أسئلة من مثل:

- لماذا أنا دون كلّ النّاس؟

- لماذا فُجعت بفقد أعزّ الأشخاص بالنسبة لي؟

- هل أستحقّ أن أتعرّض للاغتصاب؟

- طوال حياتي لَم أكن سوى إنسان طيّب ومُحبّ للخير، فلماذا أُصبت بالسرطان؟

جاءت الموجة الثالثة للعلاج النفسي، وجاء معها مفاهيم كبرى مثل التقبّل ومثل الصفح أو المسامحة، ومثل الالتزام من أجل استعادة الذات، ومُسلّحة بأدوات التأمّل والمرونة النفسية.

يساعدنا العلاج بالتقبّل والالتزام على إعادة رؤية الذات ضمن سياق أكبر، على التمييز بأنّك لستَ الصدمة التي تعرّضت لها، وعلى أن ترى نفسك ضمن قصّة أكبر، قصّة تتضمّن أنّ البشر يتعرّضون للهزيمة والأذى، يفوزون تارة، ويخسرون تارةً أخرى، وغالبًا هُم لا يفوزون ولا يخسرون إذ لا ينبغي أن نفهم كلّ ما في الحياة بوصفه صراعًا أو مُسابقة.

يقوم العلاج النفسي المعرفي بصيغته الجديدة على نماذج علاجية عدّة منها العلاج بالتقبّل والالتزام ACT حيث اكتشفنا أنّ أفضل طريقة لمواجهة الألم، هو أن نسمح لأنفسنا بالتألّم، أن نعترف بالوقائع لا أن ننكرها، وبدلًا من أن نشحن أنفسنا بالغضب لمقاومة ما حصل، فإنّ الأجدى أن نتحلّى بالسكينة والتسليم وأن نعترف بأنّنا عرضة لهذا كلّه. -عطفًا على المقطع السابق من فيلم .Wind River-

إنّ أفضل طريقة للتعافي والاتّساع هي أن نواجه آلامنا وجراحنا، لا أنّ نهرب منها، وأفضل طريقة للتخلّص من الهواجس والشكوك هي أن نعترف بوجودها لا أن نُقاومها، وأفضل طريقة للمُضي قدمًا هي أن نتقبّل ما تعرّضنا له دون محاولة لتحصيل اعتذار وجودي من الكون، ودون سعي طفولي نحو الآخرين كي يعترفوا بآلامنا، وبلا إلحاح صبياني كي يعاملنا الآخرين كأطفال بحاجة لتدليل ومحاباة.

إنّ جزء كبير من مشكلاتنا، يكمن في أنّنا لا نُحبّ أن نعترف بأنّ للواقع صفعات، وأنّ للدهر نوائبه، وأنّ القدر يأتي (بخيره وشرّه)، أمّا محاولاتنا الطفولية لتأسيس فردوس أرضي في هذا العالَم، حيث لا ابتلاء ولا مصيبة، لا تعدو بأن تكون محاولة كاذبة لإنكار بشريتنا.

وأحيانًا كلّ محاولاتنا لإنكار (الشرّ) في هذا العالَم، مُجرّد إبقاء قسري لذواتنا في حالة الطفولة، رغبة مُلحّة بعدم النضوج، ذوات تعيش حالة من الإنكار، إنكار ولادتها في عالَم منقوص (دُنيا) وتفضّل بدلًا من ذلك أن تتبنّى قصّة بديلة لحكاية وجودها، حيث هي المركز، وحيث الكون يُلبّي لها ما تتمنّى، ويحميها من كل ما تخشى. أمّا المؤمن فعجبًا لأمره، كلّه خير كما أخبر أبو القاسم عليه السلام: إن أصابته سرّاء شكَر فكان خَيرًا له، وإن أَصَابَتهُ ضرّاء صَبَر فكان خيرًا له!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply