نسائم العشر وقسم الفجر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد،ولم يكن له كفوا احد، الحمد لله اصطفى لحج بيته عباد، وجعل لهم مواسم وأعياد، ووطئ لهم على فراش كرامته وداد، وهيأ لهم عند بيته المحرم ذكريات وأمجاد!!

الحمد لله القاهر فوق عباده فلا يمانع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، والآمر بما يشاء فلا يُراجَع، الحمد لله كتب على نفسه البقاء، وكتب على خلقه الفناء، وقدَّر ما كان قبل أن يكون في اللوح والقلم، وخلق آدم وجعل من نسله العرب والعَجَم، جعل الدنيا دار فناء، والآخرة دار بقاء{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نِدَّ له، ولا مِثْلَ له، مَن تكلَّم سَمِع نطقَه، ومَنْ سكَتَ عَلِم سِرَّه، ومَنْ عاش فعليه رِزْقُه، ومَنْ مات فإليه منقلبه {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}الشعراء.

ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، اعتزَّ بالله فاعَزَّه، وانتصر بالله فنَصَرَه، وتوكَّل على الله فكفاه، وتواضَعَ لله فشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ويسَّر له أمْرَه، ورفع له ذكره، وذلَّل له رِقابَ عَدَوِّه، اللهُمَّ صَلِّي وسلِّم وبارك عليك يا رسول الله، وعلى أهلك وصحبك، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين!

أفضل أيام الدنيا:

أيها المسلمون: الزمن يدور، والحياة تسير، والسفر طويل، والزاد قليل، الليالي تتسارع، الأيام تتوالى، الأعوام تتسابق، الساعات تمر، والدقائق تكر، واللحظات تفر، تشدنا إلى الله شدا،تأخذنا إلى أفضل أيام الدنيا، عشر ذي الحجة، تلك التي أقسم الله بها {والفجر، وليال عشر} الفجر، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، وكما أن الذي صلي الفجر يعود إلي بيته وهو في ذمة الله، فإن الحاج يرجع من حجه كيوم ولدته أمه، وكما أن ركعتي الفجر خير من الدنيا ومافيها، فإن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وكما أن قرآن الفجر مشهود، فإن الله يباهي الملائكة الشهود بأهل عرفات، " أشهدكم أني قد غفرت لهم".

عباد الله: لقد اقتربت {وليالٍ عشر} وصفها: عشرة أيام فقط، ليست شهرًا كرمضان وقتها قصير لا يحتمل التقصير، الشياطين بها ليست مصفدة، فالاجتهاد فيها أعظم، التشجيع عليها أقل، ليس كل الناس يتنافسون فيها.

إنها الأيام التى اقسم الله بها فى كتابه و رفع ذكرها، وشرف قدرها، و ضاعف ثوابها.

 إنه موسم الحج، أفضل أيام العام، مع أفضل الأماكن، مع أفضل الجموع مع أفضل الأعمال، مع أفضل الجزاء والثواب، كيف؟! الأفضلية في كل شئ، فهل من متلقي؟! هل من ملبي؟! هل من مشتاق؟!!

قال صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه: الأيام العشر هي عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر، 

عندما فرغ إِبراهيم عليه السلام من بناء البيت، أمره اللهُ بأنْ يؤذن في الناس بالحجّ {وإذن فِي النَّاس بِالحَجِّ} فقَالَ إبراهيمُ: يا ربّ وما يبلُغُ صَوتِ؟ قال: عليك الآذانُ وَعَلَيناَ البَلَاغ! 

فنادى إِبراهيم: أَيّهَا النَّاس كُتِبَ عَلَيكُم الحَجّ إلى البَيتِ العَتِيقِ فَحُجُّوا فأجابَ كلُّ مَن كان في أصلابِ الرجالِ وأرحامِ الأمهاتِ لبيكَ اللهُمّ لبيك، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لكَ لبيك.

الجموع الهادرة: عباد الله: في هذه الأيام العشر، في قِمَّة الصالحات، تجد الألسنةٌ ذاكرةٌ، والقلوبٌ خاشعةٌ، والنفوسٌ خاضعةٌ والجباهٌ ساجدةٌ، في فرح الأفراح، ومهوي الأرواح، بتلك النفوسِ المؤمنة، الزمان يزدهر، والأيام تحتفل، والمكان يتألق، والروح تحلق، والأرجاءُ تتقدُ.

حيث يُؤَدِّي المسلمون مناسكَ الحج، فيتقدَّمون من كل حَدَب وصَوْب، من أرجاء، المعمورة، بالبَرِّ والبحر والجوِّ، قاصدين الدّيار المقدَّسة، لِيَطَّوَّفوا بالبيت العتيق، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، مشهدٌ ضخم، وميدان رحب، يعجُّ بالمُلبِّين، لَيِّنةً في طاعة الله أعضاؤُهم، خاشعةً لأوامر  الله قلوبهُم، وتلهج بالذكر والدعاء ألسنتهم، تُعطِّر الجوَّ والتاريخ أنفاسُهم، نشيدٌ ثائر، وهُتاف صادق، وشعارٌ رائع، لبَّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنِّعمة لك والمُلْك، لا شريك لك لبيك، مُظاهرة متلاطمة الأمواج للعباد الذين ذهبوا طاعة لله عزَّ وجلَّ، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، يحبُّون لقاءه، ويوقنون في عطائه.

كيف لا!

إخوة الإسلام: كيف لا: والحج في أفضل أيام الدنيا عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل أيام الدنيا العشر - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال:"ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفر وجهه بالتراب".

كيف لا: والعمل الصالح فيها محبوب عند الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:"ما العمل في أيام أفضل منها في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء".

كيف لا:والحجُّ ركنٌ مِن أركانِ الإسلامِ وعمودٌ مِن أعمدةِ الدينِ، لقولِ النبيِّ الأمينِ صلي الله عليه وسلم: بُنيَ الإِسلامُ على خمسٍ:"شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ،وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البَيتِ، وَصَومِ رَمَضَانِ"متفق عليه. 

كيف لا: والحج ولادة من جديد: فكما أنَّ المولود يولد على الفطرةِ لم يرتكبْ ذنبًا أو خطيئةً، فكذلك الحاج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ صلي الله عليه وسلم:"مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" .متفق عليه.

 كيف لا: والحج يجمع بين ثوابي الدنيا والآخرة، كيف؟!:"الْعُمْرَةُ إلى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ " متفق عليه. 

فقد جمع بين ثواب الدنيا من الغنَى ونفي الفقر والذنوب، وبين ثواب الآخرة وهو الجنة، وهل هناك أعظم من ذلك في الدنيا والآخرة؟

كيف لا: والحجُّ بذلك يهدمُ ما كان قبلَهُ مِن المعاصي والذنوبِ، فَعَن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا جعل اللهُ الإسلامَ في قلبي أتيْتُ النَّبيَّ صلي الله عليه وسلم: فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ابسُطْ يمينَكَ لأبايعَكَ، فبسطَ يدَهُ فقبضْتُ يدي. فقال: مالكَ يا عَمرُو؟!  قال: أردتُ أنْ أشترطَ. قال: تشترطُ ماذا؟ قال: أن يُغفَرَ لي. قال:"أمَا علمتَ يا عَمرو! أنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما كان قبلَهُ، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبلَهَا، وأنَّ الحجّ يهدِمُ ما كانَ قبلَهُ؟" مسلم.

أيها المسلمون: كيف لا: والحجَّ مِن أفضل العبادات على الإطلاقِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ سُئِلَ، أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قال:"إيمانٌ باللهِ ورسولِه، قِيلَ: ثم ماذا؟ قال جهادٌ في سبيلِ اللهِ. قِيلَ: ثم ماذا؟ قال: حجٌّ مَبرورٌ". متفق عليه

كيف لا والحج من الفضل الجهاد، فعَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:"يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلَا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَا لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ"البخاري.

لذلك كانت عائشةُ رضي اللهُ عنها لا تتركهُ منذُ أنْ علمت أنّه جهادٌ، فقد قَالَتْ رضي الله عنها:"قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم". البخاري.

كيف لا: والحج قيامُ أمرِ الناسِ في معاشِهِم ومعادِهِم، قال تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}المائدة.

كيف لا: ومكة من الأماكن التي يحبُّهَا اللهُ عزّ وجلُ مكة شرفَهَا اللهُ، أحبُّ البقاعِ إلى اللهِ، وأفضلُ بقاعِ الأرضِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "واللهِ إنك لخيرُ أرضِ اللهِ وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجتُ" . 

كيف لا: ورؤيةُ الحجرِ واستلامُهُ شهادةٌ بالإيمانِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ليبعثَنَّ اللهُ الحجرَ يومَ القيامةِ ولهُ عينانِ يُبصرُ بهما ولسانٌ ينطقُ بهِ يشهدُ بهِ على من استلمَهُ بحقٍّ". رواه ابن ماجة والترمذي.

وكيف لا: والركنُ والمقامُ يا قوتتانِ مِن يواقيتِ الجنةِ، فعن عبدِ اللهِ بنِ عمرو رضى اللهُ عنهما قال: قال :"إنَّ الرُّكنَ والمقامَ ياقوتتانِ مِن ياقوتِ الجنَّةِ طمسَ اللَّهُ نورَهما، ولو لَم يَطمِسْ نورَهما لأضاءتا ما بينَ المشرقِ والمغرِبِ"، رواه الترمذي.

كيف لا: والحجِّ إلي بيتُ اللهِ؟ وهو البيتُ الذي طهرَهُ وطيبَهُ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الحج.

كيف لا: والحج مِن شعائرِ اللهِ، قال تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}البقرة.

كيف لا: والحج مُثابُ الناسِ وأمنُهُ، قال تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}البقرة .

كيف لا: والحج يكفيه شرفًا وفضلًا أنّ اللهَ جلّ وعلا يُباهِي بأهلِ عرفةَ ملائكتَهُ، فعن أبي هريرةَ رضى الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ :"إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عرفاتٍ ملائكةَ السماءِ، فيقولُ: انظُروا إلى عبادي هؤلاءِ، جاءوني شُعْثًا غُبْرًا، أنفقوا الأموال وأتعبوا الأبدان أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له".صحيح ابن خزيمة.

فسبحان من قدس البيت وعظمه، سبحان من بارك البلد وحرمه، سبحان من فرض الحج وفضله، سبحان من دعا عبده وكرمه، سبحانَ من فجر البئر وعمره، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.

إنها ملحمة الحج، إنها أنوار المحرمين، وأضواء المضحين، وأنغام الملبين، وامواج الطائفين. 

جو الحجيج: 

أخي المسلم: هل شممتَ عبيرًا أزكَى مِن غبار المحرمين؟ هل رأيتَ لباسًا أجْملُ مِن لباسِ الحُجَاجِ والمعتمرين؟ هل رأيتَ رؤوسًا أعزُّ وأكرمُ مِن رؤوسِ المحلقين والمقصرين؟ هل مرّ بك رَكْبٌ أشرفُ مِن رَكْبِ الطائفين؟ هل هزَّكَ نَغَمٌ أروعُ مِن تلبيةِ الملبيين وأنينِ التائبين، وتأوهِ الخاشعين ومناجاةِ المنكسرين؟ 

جموعٌ مُلبيةٌ، وأعينٌ باكيةٌ وعبراتٌ متوالية وأيدٌ مرفوعة داعيةٌ .

إنّه حنين الأفئدة ونماء الأرصدة، إنه شوق القلوبِ و شغفُ النفوسِ، ترنُوا إليه الأبصار وتمتد إليه الأعناق، تعلق به الخواطر، تمحو به الديون، وتكتحل به العيون، وتلهج به الأفكار، وتتوجه إليه الأنظار !! 

نفحات ورحمات: 

عباد الله: الحج نفحات ورحمات، حسنات ودرجات، عمدة في الأخلاق، وسعة في الأرزاق، إنها أسواق الحج في الأرض المقدسة، وميادين الطاعة في الأماكن المطهرة، ومواسم العبادة في الوفود الطاهرة، ولحظات الخشوع في الجموع الهادرة!!

هذه مواسم طاعة {ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} المائدة، ثم يرفع آذان الحج {وإذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}الحج. 

كانت الاجابة "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة لاشريك لك لبيك".

البلد الأمين:

أيها المسلمون: إنها مكة، البلد الحرام، كعبة الله، إنها بكة، من كثرة الخشوع والبكاء، إنها أم القري، تتجه إليها جموع القري في أرجاء الدنيا، وكل البلدان في نواحي الأرض، إنها البلد الأمين، بلدٌ اختارَهُ اللهُ واصطفاهُ وأقسمَ بهِ فقالَ:

{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}التين.

 مهبطُ الوحي، ومهوي الأفئدة، ومركز الدنيا، وسرة الأرض، كيف لا تحنُّ إليه الأفئدةُ؟ وهو بلدُ اللهِ وبلدُ رسولِ اللهِ وصحبهِ الكرام، بلدُ التوحيدِ، بلدٌ تضاعفُ فيه الحسناتُ وتعظمُ فيه السيئاتُ، بلدٌ يحرمُ فيه القتالُ، بلدٌ مباركٌ لا يدخلهُ الدجال، بلدٌ يحرمُ صيدهُ وقطعُ أشجارِه، بلدٌ لا يدخلهُ مشركٌ، كيف لا تحنُّ إليه الأفئدةُ؟ وهو تاريخُ الإسلامِ والمسلمين وفخرهُم وعزهُم ومحضنهُم، قلعةٌ مِن قلاعِ الدينِ، وحصنٌ مِن حصونِ الإسلامِ، مكة ذلك الاسمُ الخالدُ في قلبِ كلِّ مسلمٍ ومؤمنٍ.. كيف لا والقلوبُ تتوجَّهُ إليها كلَّ يومٍ مراتٍ ومرات؟! بل حتى بعدَ الموت.

أسواق الحج:

عباد الله: إنه أسواق لكسب الأخلاق كيف؟!

{الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}البقرة. 

أيها المسلمون: إن الحج سوق للأخلاق الحسنة والقيم العالية والآداب الرفيعة، حيث يتأدب الحاج مع الشجر، فلا يقطع ومع الطير فلا يقتل ومع الإنسان فلا يشتم ومع البيت فلا يلحد{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}الحج.

 إنها تجمع كلك بين الأخلاق ففيها هجرة إلى الله، وفيها إخلاص لله، وفيها تضحية وفداء، وفيها عفو وصفاء، وفيها تسامح وتصالح، وفيها ود وتصافح..!!

وهو أسواق لزيادة الأرزاق: وفيه زيادة في الأرزاق كيف؟! "الحج والعمرة ينفيان الفقر كما ينفي الكير خبث الحديد الذهب والفضة"صحيح.

وهو أسواق لجمع الحسنات: حيث يهاجر المسلم إلى ربه تاركا دياره وأولاده وعشيرته لسان حاله يقول كما قال بكل الحج الخليل إبراهيم عليه السلام:*إني ذاهب إلى ربي سيهدين.*

 وهناك يطوف كما طاف اسماعيل ويسعي كما سعت هاجر ويقبل كما قبل عمر ويقف بعرفة كما وقف محمد بن عبد الله ويضحي كما ضحى ابراهيم عليهم وعلي نبينا افضل الصلاة والسلام.

وهو أسواق الطاعات: في الأيام العشر، حيث تزدان الأرض بوفود الحجيج، وتتجمل السماء بنور الملأ الأعلى، وتتألق الكعبة في سرة الأرض وفي وسط الدنيا يطوف بها الحاج فيزداد إيمانا ويتألق إحسانا و يخفف من ذنوبه وآثامه!!

ملتقى العبادات: 

 أيها المسلمون: إن الحج سوق يجمع بين الفروض كلها، ففيها إنفاق وزكاة، يجب أن تكون من حلال حتى يقبلها الله تعالى:"جاء في الحديث: إذا خرج الحاج بنفقة طيبة، ووضَع رجلَه في الغرز - أي: ركَب على دابته - وقال: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور، غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضَع رجلَه في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك، ولا سعديك؛ زادُك حرامٌ، ونفقتُك حرام، وحجك مأزور، غير مبرو" الترغيب والترهيب. 

نعم أسواق الزيادة والنماء: كيف؟! 

عن بريدة، قال صلى الله عليه وسلم:"النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبع مائة ضعْف"، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها:"إن لك من الأجر قَدْر نَصَبِك ونفقتك"أخرجه الدارقطني، وعنها أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا خرج الحاج من بيته، كان في حِرز الله، فإن مات قبل أن يقضي نُسكَه، وقع أجرُه على الله، وإن بقي حتى يقضي نُسكَه، غفر الله ما تقدَّم وما تآخر من ذنبه، وإنفاق الدرهم الواحد في ذلك يَعدِل أربعين ألف درهم فيما سواه". 

والصلاة في بيت الله الحرام مضاعفة، عن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة". أخرجه البيهقي.

وفيها صوم حتى عن الكلام، صيام العشر مستحب عدا يوم العيد وأيام التشريق، ويوم عرفة لغير الحاج، ولمن عجز عن تقديم الهدي يصوم ثلاثة في الحج وسبعة عند الرجوع إلى بلده، وفيه الشهادتان فضلا عن التهليل والذكر والتكبير!! 

قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في فتحِ الباري: والذي يظهرُ أنَّ السببَ في امتيازِ عشرِ ذي الحجةِ؛ لمكانِ اجتماعِ أمهاتِ العبادةِ فيها وهي الصلاةُ والصيامُ والصدقةُ والحجُّ ولا يتأتَّى ذلك في غيرِهَا.

من استطاع ولم يحج محروم:

أيُّها المسلمون:إنَّ للحجِّ فضائلَ كثيرةً، وأنَّ مَن لم يحجْ بيتَ اللهِ الحرامَ مع القدرةِ عليه فقد حُرِمَ خيرًا كثيرًا، فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أنَّ الرَّسولَ قال:"قال اللهُ: إنَّ عبدًا صحَّحْتُ له جسمَه ووسَّعْتُ عليه في المعيشةِ يمضي عليه خمسةُ أعوامٍ لا يفِدُ إليَّ لَمحرومٌ".(البيهقي وابن حبان بسند صحيح).

زاد روحي وإيماني: 

عباد الله: إنَّ أعمالَ الحجِّ كلَّهَا مِن الإحرامِ حتى الوداعِ زادٌ روحيٌّ وإيمانيٌّ عظيمٌ وكبيرٌ، يجسدهُ ويصورهُ لنَا الرسولُ في قولِهِ:"أَمَّا خُرُوجُكَ مِنْ بَيْتِكَ تَؤُمُّ الْبَيْتَ فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ وَطْأَةٍ تَطَأُهَا رَاحِلَتُكَ يَكْتُبُ اللهُ لَكَ بِهَا حَسَنَةً، وَيَمْحُو عَنْكَ بِهَا سَيِّئَةً، وَأَمَّا وُقُوفُكَ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَيَخَافُونَ عَذَابِي، وَلَمْ يَرَوْنِي، فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي فَلَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ رَمْلِ عَالِجٍ، أَوْ مِثْلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَوْ مِثْلُ قَطْرِ السَّمَاءِ ذُنُوبًا غَسَلَهَا اللهُ عَنْكَ، وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارَ فَإِنَّهُ مَذْخُورٌ لَكَ، وَأَمَّا حَلْقُكَ رَأْسَكَ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ تَسْقُطُ حَسَنَةٌ فَإِذَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ خَرَجْتَ مِنْ ذُنُوبِكَ كَيَوْمِ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ" (الطبراني).

 لأنّ هذه الذنوبَ سقطتْ وتناثرتْ وتبخرتْ هناك، وهذا هو السببُ في سوادِ الحجرِ الأسودِ الذي كان أبيضًا فسودتهُ خطايَا الناسِ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ".الطبراني.

هناك تهفو القلوبُ وتشتاقُ الأرواحُ إلى تلك البقعةِ الطاهرةِ الطيبةِ، حينها تنهمرُ الدموعُ وتسكبُ العبراتُ، وتتقطعُ النفوسُ شوقًا إلى مغفرةِ ربِّ البريات.

تعجلوا بالحج، و حجوا قبل ألا تحجوا: 

عباد الله: الحجُّ فرضٌ على كلِّ مسلمٍ مستطيعٍ يملكُ الزادَ والراحلةَ التي تبلغُهُ لحجِّ بيتِ اللهِ الحرام، لذا قالَ النبيُّ :"مَن أَرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَد يَمرَضُ المَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعرِضُ الحَاجَة".وصدق المعصوم فلقد حالتْ الأمراضُ والأوبئةُ وكورونَا عن حجِّ بيتِ اللهِ الحرام، ووقعَ الناسُ في المحظورِ، وبفضلِ اللهِ وحدَهُ عادتْ الأوضاعُ إلى طبيعتِهَا، فتعجلْ وخدْ الدرسَ مِمّا فاتَ، فالمؤمنُ كيسٌ فطنٌ، فيامَن منّ اللهُ عليه بالمال والصحةِ والعافية ولم تحج بغير عذر اعلم بأنّك محروم ورب الكعبة، فعن أبي سعيدٍ الخدرِيِّ رضى اللهُ عنه قال:قال رسولُ اللهِ: إنَّ اللهَ تعالى يقولُ:"إنَّ عبدًا أصحَحتُ لهُ جسمَهُ، ووسَّعتُ عليهِ في مَعيشتِهِ، تمضِي عليهِ خمسةُ أعوامٍ لا يَفِدُ إليَّ لمَحرومٌ"،رواه البيهقي وأبو يعلي بسند صحيح.

وفي صحيحِ البخارِي مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ فقالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللهَ قَد فَرَضَ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَسَكَتَ حتى قالها ثَلاثًا، فقال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم: لَو قُلتُ: نَعَم، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا استَطَعتُم، ثم قال: ذَرُوني مَا تَرَكتُكُم إنَّما هلَكَ من كانَ قبلَكُم بِكَثرةِ سؤالِهِم واختلافِهِم علَى أنبيائِهِم، فإذا أمرتُكُم بالشَّيءِ فخُذوا بهِ ما استَطعتُمْ، وإذا نَهَيتُكُم عن شيءٍ فاجتَنبوهُ".

يالهَا مِن رحلةٍ إيمانيةٍ روحيةٍ رائعة، فهنيئًا لحجاجِ بيتِ اللهِ الحرام؛ وحجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورًا وذنبًا مغفورًا.

 قبل شهرين ودعنا أيامًا معدودات، ونحن الآن إن شاء الله نستقبل أيامًا معلومات، فإذا قصرت فيما فات فأحسن في العشر القادمات!!

اللهم اعنا علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم ارزقنا حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply