الإسراء ومضات ومعجزات


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

في كل محنة منحة، وفي كل عسر يسرين، ومن عمق العتمة يأتي الضياء، ومن قلب الحزن يشرق الفرح، ولعل الخير يكمن في الشر، هكذا قَدَرُ اللهِ تعالى لعباده في طول الطريق وعرضه!!

وها هو عبده المبجل، ورسوله الكريم، ونبيه المصطفى، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتعرض للشدائد الكبرى، والمكائد العظمى، والأحداث الجسام، ويُقابل بالصد عن الدعوة، فيراه ربه في هذا الحال، فما تركه، وما قلاه، وإنما أكرمه الله، برحلتي الإسراء والمعراج، يشرح صدره، ويطمئن قلبه، ويرح باله، فيعود أقوى إيمانًا وأثبت يقينًا وأوسع صدرًا وأكثر صبرًا.

الفرج بعد الكرب: إن كان إبراهيم عليه السلام خليل الله، وموسى عليه السلام كليمُ الله، وعيسى عليه السلام روح الله، وإذا كانت الجبال مع داود عليه السلام يسبحن الله، والجن والطير والريح لسليمان عليه السلام سخرها الله، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أعلى له شأنه ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، فلا يذكر رب العالمين إلا ذكر معه الصادق الأمين، وما من مؤذن يؤذن إلا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فضلًا عن معجزة الإسراء والمعراج، والمعجزة الخالدة في نزول القرآن!!

}ونزلنا عليك القرآن تبيانًا لكل شيء{ )النحل(.

لقد جاءت رحلتَي الإسراء والمعراج زادًا لأصحاب الدعوات، ونبراسًا لأهل الرسالات، ودعمًا لذوي المبادئ السامية، والأهداف العالية، والمواقف العظيمة، تعلمهم أن لهم ربًا كريمًا حليمًا، لطيفًا عظيمًا، ودودًا رحيمًا، يكلؤكم حين يجتمع عليهم الظلم، ويرحمهم حين يزيد عليهم القهر، ويجبرهم حين يكثر عليهم الشر.

إن الإسراء منبع التزود بالتقوى، ومصدر التسلح بالإيمان، ومأوى تزكية النفوس، ومنجم غذاء الأرواح، لماذا؟! لكل إنسان استعدادًا لتبعات الامانة التي حملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا!! وبرهانًا على معية الله تعالى لعبده، عندما يقسو عليه أهل الأرض، فليطمئن العبد إلى معية ربه، ويتطلع إلى توفيقه، ويفوز بمعيته، فإن كان الله معه فمن عليه؟!! وإن كان عليه فمن معه؟!! إذا كان طائعًا مخلصًا عابدًا فإن الله معه في كل حين من أمره، ومعه على كل حال من أحواله، قال أصدق القائلين، رب العالمين: }إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون{ )النحل(.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعلن الدعوة لقي أشد أنواع الإيذاء والاضطهاد، وواجه أعظم أنواع التعنت والعناد، حين نادى بالدعوة على جبلِ الصفا، كان أول من وقف ضده أقرب الناسِ إليه عمهُ أبو لهب قائلًا: تبًا لك يا محمد ألهذَا جمعتنا؟! ونزل في ذلك سورة المسد، ثم توالى الإيذاء بالسب والشتم تارة، وبرمي سلا الجزور عليه وهو ساجد تارة أخرى، وبالحصارِ في الشعب حتى أكلوا أوراق الشجر ثالثة، وأشق من ذلك كلّه هو فقدانه لعمه أبي طالب النصير الخارجي، وزوجهُ خديجة بنت خويلد رضي الله عنها النصير الداخلي، وتبع ذلك عندما ذهب إلى أهل الطائف يطلب منهم الوقوف بجانبه وأنْ يدخلوا الإسلام، فآذوه إيذاءً شديدًا، وسلطُوا عليه الصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموه وأبكوه وكسروا خاطره، فاختلط الدمع بالدم بالعرق، فما لبث إلا أن تجرد من حوله وقوته إلى حول الله وقوته صلى ركعتين ثم قال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" رواه الطبراني.

لا بد من الابتلاء لعباد الله من أجل التمحيص، والاصطفاء، فبعد المحنِ تأتي المنح، وبعد الكرب يأتي الفرج، وبعد الحزن يأتي الفرح، وبعد العسر يأتي اليسر!

إن المحن التي يمر بها العابدون تعلمهم حكمة جليلة، وتسوقهم إلى باب الله تعالى، وتكسوهم رداء العبودية، وتدفعهم إلى طلب العون من الله تعالى، ويجب ألا تصدهم المحن عن متابعة السير في الحياة، وألا تمنعهم الابتلاءات عن الاستقامة على طريق دعوة الله، وتعلمهم أن اليسر مع العسر، والنصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب.

شرف العبودية: إن الإسراء والمعراج يُظهر قيمة العبودية، ومكانة العابد، وشرف الانتساب لله }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ{ )الإسراء(،  ولماذا لم يقل برسوله أو نبيه أو حبيبه أو خليله، فلله عز وجل في كونه عبيد وعباد، فكلنا عبيد الله، الطائع فينا والعاصي، المؤمن فينا والكافر، الناسي فينا والذاكر، الجاحد فينا والشاكر، ولكن عباد الله هم الذين أخلصوا نواياهم، وطهروا صحائفهم، ونظفوا قلوبهم، إذا قال لهم ربهم افعلوا شيء فعلوه، وإذا قال لهم انتهوا عن شيء تجنبوه، ولذلك عندما يتحدث القرآن عنهم بين خلق الله لا يسميهم عبيدًا ولكن يسمّيهم عبادًا، يقول تعالى: }وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا{ )الفرقان(.

فالعبودية لله أسمى المراتب وأعلى الدرجات التي يصل إليها الإنسان، فهي عزة ما بعدها عزة، وعطاء ما بعده عطاء، وصدق الله: }فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا{ )الكهف(.

عبودية العبد للعبد ذلة ما بعدها ذلة، وعبودية العبد للرب عزة فوق العزة، لأن السيد من البشر يريد أن يأخذ خير عبده، يجرده من ماله، لكن الله تعالى ملك الملوك، ورب الأرباب، يعطي بغير حساب.

وكفى بالمرءِ عزًّا أن يكون لله عبدًا وكفى به فخرا أن يكون الله له ربًّا، ولقد خُير رسول الله بين أن يكون نبيًّا ملكًا أو عبدًا رسولًا فاختار أن يكون عبدًا نبيًا، وبهذه العبودية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانٍ لم يصلْ إليه ملكٌ مقرب ولا نبيٌ مرسل، بل كان رسولُ الله يجتهد أن يصل إلى هذه العبودية الحقةِ بقيام الليلِ حتى تورمتْ قدماه، فلما أشفقت عليه زوجه عائشة رضي اللهُ عنها وقالت: يا رسول الله هوّن على نفسِك فأنت الذي غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر. فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا؟! (متفق عليه).

فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان حريصًا على مقام العبودية، فيقوم من الليل حتى تتورم قدماه، فحريٌّ بنا ونحن أكلتنا الذنوب أنْ نقومَ للهِ قانتين عابدين.

معجزة الإسراء: قال تعالى: }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ )الإسراء(.

يمجد الله نفسه ويعظم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد، وعظمته التي لا ينالها سواه، فلا إله غيره، ولا رب سواه، فهو الذي أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم في برهة من الليل بجسده وروحه، يقظةً لا منامًا، من المسجد الحرام بـ )مكة( إلى المسجد الأقصى بـ )بيت المقدس( الذي بارك الله حوله في الزروع والثمار وغير ذلك، وجعله موطنًا لكثير من الأنبياء، ليشاهد عجائب قدرة الله وآياته الدالة على وحدانيته، وهو سبحانه وتعالى السميع لجميع الأصوات، البصير بكل مُبصر.

إن آية الإسراء بدأت بقوله (سُبْحَانَ)، لأنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة، عن معجزة من المعجزات التي منحها الله تعالى لنبيه الكريم، عن أعجوبة من عجائب الزمن )ولكل أعجوبة سبحان الله(، حيث اختصر الله الزمان واخترق المكان  ومعنى سبحانه: أي تنزيهًا لله تعالى تنزيهًا مطلقًا، )ليس كمثله شيء( ليس له شبيه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات، فلا ذات كذاته، ولا في الصفات فلا صفات كصفاته، ولا في الأفعال، فلا أفعال أحد من خَلْقه ما يشبه أفعاله، فالحق سبحانه له طلاقة القدرة.

قال ابن القيم: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء، إمامًا وربط البراق بحلقة باب المسجد، وتكمن المعجزة في أساس القصة جبريل والبراق، وهما القوتان الملائكية والطبيعية، اجتمعن من أجل محمد صلى الله عليه وسلم، جبريل عليه السلام يضم بجناحيه الدنيا بأسرها، والبراق يضع حافره عند منتهى نظره، يجمع أول العالم بآخره، وذلك ليريه من آياته الكبرى }لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنا{ )الإسراء(.

كما قال لإبراهيم: }وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ{ )الأنعام(. وقال لموسى: }لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنَا الْكُبْرى{ )طه(.

رؤية الآيات للأنبياء يحصل لهم من عين اليقين ما يطمئن قلوبهم، يرون ذلك رأي العين، فيتحملون في سبيل الله ما لا يتحمل غيرهم، وتصير جميع قوات الدنيا عندهم كجناح بعوضة لا يعبأون لها، ولا يفكرون فيها، إذا تكاثرت عليهم المحن وتوالت عليهم الشدائد، وهكذا يجب أن يكون اولئك الذين يرثون التركة، ويسلكون ذات الطريق، ويبلغون نفس الرسالة، ويقومون على هذه الدعوة المباركة!!

فريضة الصلاة: وكما أن الله تعالى أهدى نبيه رحلتي الإسراء والمعراج، أهدى أمته أعظم هدية وهي الصلاة، فالإسراء والمعراج، موعد اتصال الأرض بالسماء، المخلوق بالخالق، المرزوق بالرازق، والصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته في السماء في هذه الليلة المباركة، لتكون معراجًا لأرواحهم، بعيدًا عن ثقلة الأرض ومكائد الحياة، والصلاة آخر ما وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته حيث قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، وراحة بالهم، فلنكثر من الدعاء: }رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء{ )إبراهيم(.

إنَّ الصلاةَ هي الفريضةُ الوحيدة التي فُرضتْ ليلة الإسراء والمعراج في السماءِ السابعة وبدون واسطة، فُرضتْ العبادات كلها عن طريق الوحي على وجه الأرضِ دون الصلاة، أخذ اللهُ نبيه إلى مكانٍ لم يصل إليه أحد وهناك فرض الصلاة!! إن المسلم يسمو بنفسه وروحه فوق الشهوات والشبهات، ودائمًا يتطلع إلى العلو والسمو، ويتعلق بالمثل العليا في كل شيء من قيم الحياة، لا يرضى بالدون، ولا يقبع في المؤخرة لذلك فرضت الصلاة في السماء.

فإذا أصابك هم أو حزن اهرع إلى الصلاة.

إذا تعرضت للمكائد والشدائد اهرع إلى الصلاة.

إذا أصابك فقد لأحد أحبابك قم إلى الصلاة.

إذا أصابك بلاء أو حزبك أمر قم إلى الصلاة.

قال تعالى: }يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين{ )البقرة(.

كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر صلى، وكلما أحس بضيق أو هم يقول: "أقم الصلاة يا بلال أرحنا بها" (أبو داود)، فكلما بعدتَّ عن العبادة والطاعة كنت في ضيق وغم وقلقٍ نفسي وتوتر وضنك، والشفاء والعلاج في صلتِكَ باللهِ، }وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آياتنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى{ )طه(.

قيمة المسجد ومكانته: كانت أبرز محطات الرحلة مساجد، من مسجد وإلى مسجد، لتعلم الأمة قيمة المساجد ومكانتها في الإسلامِ، فهو بيت الأمة الذي اهتمَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية بناء الدولة الإسلامية.

تعلمنا رحلة الإسراء أن المساجد موطن الأحداث الكبيرة، ومصنع الرجال العظيمة، ومصدر الفصائل الكريمة، ومشعل الأخلاق الحسنة، والمسجد بيت الله، إذا كنت فيه فأنت ضيف على الله، أنت زائر لله، وحق على المزور أن يكرم زائره، قال صلى الله عليه وسلم "من توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم أتَى المسجدَ فهو زائرُ اللهِ، وحقٌّ على المزورِ أن يكرمَ الزائرَ" رواه سلمان الفارسي.

وكذلك فإن الإسراء يظهر قيمة الارض المقدسة، أرض فلسطين الحبيبة، أرض فلسطين ومن حولها أرض مباركة، فيها بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش فيها معظم الأنبياء، ودفن فيها إبراهيم ولوط ويعقوب ويحيى وزكريا عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

ولقد مدحها اللهُ في القرآن الكريم، وهي أرض إسلامية خالصة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزالُ مِن أمتِي أمةٌ قائمةٌ بأمرِ اللهِ، لا يضرُّهُم مَن خذلَهُم ولا مَن خالفَهُم؛ حتى يأتيَهُم أمر الله وهم على ذلك" البخاري، وفي رواية: قيل: أين هُم يا رسولَ اللهِ؟ قال: في بيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدسِ.

كل هذه الومضات والمعجزات التي كانت في هذه الرحلةِ المباركة، تدل دلالة واضحة على القدرة الإلهية، والعظمة الربانية، من خلال هذه الدروس العظيمة في ضوء معجزة الإسراء والمعراج.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply