رحلة ابن فضلان واكتشاف الروس والفايكينج


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

في هذا الشهر منذ 11 قرنًا، في العام 309 هـ الموافق ل921 م، سافر الرحال البغدادي أحمد بن فضلان في مهمة رسمية كسفير لبلاده من عاصمة المسلمين ومركز الدولة العباسية وحاضرته الكبرى إلى شمال أوروبا.

تمت مراسم جنازة الفايكينج بالقرب من حوض نهر الفولغا، حيث احترقت سفينة العزاء المضاءة تحت غروب الشمس، ومعها جثمان زعيم الفايكينج وأغلى ممتلكاته. كان ابن فضلان مسافرًا من بغداد، قطع مسافةً تزيد عن 2500 ميل -6475 كم مربع- ليصل إلى هناك، حيث كان مستشارًا دينيًا للمسلمين الجدد في بلغاريا. ومع ذلك، لفت انتباهه وإعجابه واستغرابه أيضًا الفايكينج الروس!

في عام 921 ميلادية، قام خان فولجا البلغاري ألمش بن يلطوار بإرسال مبعوثًا إلى بغداد لطلب الدعم العسكري والاقتصادي مقابل اعتناق الإسلام. وصل رُسُل الخليفة العباسي ومعهم فقيهٌ ماهر في الشرائع الإسلامية، واسمه أحمد بن فضلان. كما تقتضي العادة في كتابة رحلات المسلمين، فقد سجل ابن فضلان رحلته على مدار عام كامل، ووصف الثقافات والشعوب التي التقاها في طريقه. كان ابن بطوطة، المسافر الشهير والمغامر المتعصب للزيارات الجانبية، قد ألهمه بشكل ما. ومع ذلك، لم يقتصر دور ابن فضلان على العمل في مجلس الخان، بل قدم مساهمات في تعزيز المعرفة الدينية والسياسية في بغداد.

يعد ابن فضلان مثالًا رائعًا لروح المغامرة وحب السفر التي كانت تميز العرب في تلك الفترة التاريخية، هو أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد، عالم مسلم ولد في بغداد في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، (877-960 م)، من رجال قائد جيش الخلافة العباسية، ثم من كبار شخصيات بلاط الخليفة المقتدر بالله العباسي رحمهم الله جميعًا.

يقول الباحث حسين محمد عجيل إن ابن فضلان يمتلك لغة رشيقة لمّاحة، فيها كثير من الحيوية والذكاء والطرافة، وتجاوز عند تدوينه رحلته الحدود الرسمية التي كان يمكن أن تقيّده، بوصفه عضوًا بارزًا في بعثة دبلوماسية دولية، يحمل رسالة ملك أكبر إمبراطورية في ذلك الزمان، إلى كتابة رحلة ممتعة سبك فيها بمهارة فيضًا من المعلومات والمشاهدات العيانية، فبدت كأنّها قطعة أدبية يغلب عليها الحوار والوصف والترقّب والتشويق والسرد القَصصي الحي والانتقالات المثيرة!

بعد وصوله إلى المنطقة، التقى ابن فضلان بمجموعة من التجار الروس الذين أقاموا مخيمًا بجوار النهر لأغراض التجارة. كان هؤلاء التجار الروس فرعًا من المجموعة التي غادرت إسكندنافيا قبل عقود بحثًا عن طرق تجارية وممالك للنهب. قام التجار الروس بتجارة السلع الشمالية مثل الفرو والشمع والعبيد الذين أُسروا في المعارك، مقابل الحصول على الحرير والفضة وغيرها من السلع الثمينة من الشرق والجنوب.

لم يكن وجودهم غريبًا على عمال الفولغا، حيث كان النهر يعبر وسط البلاد ويوفر طرقًا للتجارة مع مختلف المناطق والثقافات، بما في ذلك بغداد والقسطنطينية في الجنوب، وأوروبا في الغرب، والصين في الشرق.

يذكر الباحث المحقق الدكتور سامي الدهان رحمه الله في مقدمة تحقيقه لـ"رسالة ابن فضلان"، الصادرة عن المجمع العلمي العربي بدمشق سنة 1959: (عند ياقوت الحموي اسمه ابن فضلان وأنه كان على ثقافة دينية وأدب رفيع وأسلوب جميل وورع في الخلق وحب لنشر الإسلام)، ويذكر أيضًا (أن يبلغ رجل في عصره ما بلغ إليه في رحلة بعيدة يصل فيها إلى أرض البلغار والروس، وأن يرى العجائب في ذلك الزمان ومصاعب المواصلات)، فهذا يعني أن الرحلة مهمة وأن نجاحها ارتبط بهذا الرحالة!

ومع ذلك، كان هؤلاء الروس مختلفين عن أي شيء رآه ابن فضلان من قبل، في نهر الفولغا موطن البلغار الصقالبة، يذكر ابن فضلان أنهم إذ نزلوا يومًا على رجل منهم ومعه امرأته: (فبينما هي تحدثنا كشفت فرجها وحكّته، ونحن ننظر إليها، فَسترنا وجوهنا، وقلنا: أستغفر الله، فضحك زوجها وقال للترجمان: قل لهم: تكشفه بحضرتكم فترونه، وتصونه، فلا يوصَل إليه، هو خيرٌ من أن تغطيه وتمكّن منه. إلا أنهم لا يعرفون الزنا، ومن زنا منهم شقوه نصفين؛ أما رسوم تزوجهم، تقوم على أن يخطب الواحد منهم إلى الآخر بعض حرمه ابنته أو أخته بثوب خوارزمي، أو مقابل جمالًا أو دوابًا، فإذا وافقه حملها إليه وإذا مات الرجل وله زوجة وأولاد، تزوج الأكبر من أولاده بامرأته إذا لم تكن أمه) ويذكر ابن فضلان أنَّ: (أمر اللواط عندهم عظيم جدًا، يقتلون من يمارسه).

ووصفهم بأنهم (كأنهم النخل، شقرٌ حُمر)، وكل رجل منهم يحمل أسلحة مثل الفأس والسيف والسكين، وكل واحد منهم مغطى بالرماد والشحم والشعر من أظفار القدمين حتى العنق. بالإضافة إلى ذلك، كان الفايكينج معروفين بأنهم جواهرجية ماهرون، حيث يهدي كل رجل قلادة مصنوعة من الذهب أو الفضة لزوجته، وقد تكون قيمتها ما يعادل عشرة آلاف قطعة فضية. كانت النساء الفايكينج يمتلكن الكثير من القلادات والمجوهرات.

ومع ذلك... عندما يتعلق الأمر بالنظافة، اكتشف ابن فضلان أن الروس يفتقرون إليها!

وقد ذكر المستشرق الالمانى فراهن في تقديمه لابن فضلان في اللغة الألمانية: (إذا كان الغرب قد أغفل روسيا فإن العرب تحدثوا عنها، فألقى العرب أنوارًا كثيرة على تاريخ الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات ناقصة، وخاصة عن البلغار وروسيا في العهد البعيد).

للأسف فإن ابن فضلان لم يحظ بالاهتمام والتقدير الكافي في العالم العربي، بالمقارنة مع الدراسات والأبحاث التي أجريت عنه من قبل المستشرقين في العقود الماضية، لذا كان من المهم أن نعيد اكتشاف ودراسة رحلة ابن فضلان للمحافظة على هذا التراث وإحياءه في وجدان السلمين، ونشر نتائج هذه الدراسات باللغة العربية، لنقدم صورة أكثر دقة وتوثيقًا لهذا الرحالة المبدع.

للاستفاضة:

  • رحلة ابن فضلان: كتاب يحتوي على سرد رحلة ابن فضلان بالتفصيل، ويعتبر أحد أهم المصادر الأولية حول هذه الرحلة.

  • ابن فضلان في رحلته إلى المشرق: كتاب من تأليف توفيق الحكيم يقدم نقدًا وتحليلًا لرحلة ابن فضلان.

  • الرحالة ابن فضلان: كتاب من تأليف علي محمد الصلابي يقدم ملخصًا للرحلة وتحليلًا للمواقف والتجارب التي عاشها ابن فضلان.

  • ابن فضلان: رحالة عربي في بلاد الأتراك: كتاب من تأليف ستيفن فرتش، يستعرض رحلة ابن فضلان ويوضح أهمية وتأثير هذه الرحلة في فهم التاريخ الإسلامي والعالم العربي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply