مكانة النكاح في الإسلام


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

غالبًا ما يثير النكاح في الإسلام الجدل في مختلف الكتب أو في خطب الدعاة والعلماء حول مكانته؛ هل هو واجب أو مستحب، أم أنه فقط جائز؟

فمن يعتقد بوجوبه يستند إلى فهم بعض الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى: "فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة" (سورة النساء: الآية 3)، والفعل (فَانْكِحُوا) هو في بصيغة الأمر، وبالتالي هو أمر من الله تعالى.

ومن يرى أنه مستحب يستند في ذلك أيضًا إلى حجج من القرآن والسنة، مثل قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (رواه البخاري: رقم 5063؛ مسلم: رقم 1401)، وذلك عندما علّق على فعل مسلمٍ أخذ نذرًا بعدم الزواج.

ومع ذلك، يعتقد بعض العلماء أن هذه الآيات والأحاديث لا تحمل أمرًا مباشرًا، بل تؤكد جواز الزواج والاقتراب من الله، بينما يعتبر ترك الزواج بشكل مُتعمد من أجل التنسك والاقتراب من الله أمرًا مذمومًا في الإسلام. وقد أدان الله بشدة من دخل النسك (التسلسل الرهباني) في الدين، والذي يتضمن أيضًا نذر العزوبة. يقول القرآن: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا" (سورة الحديد: الآية 27).

لكن بعد دراسةٍ متأنية لجميع الآيات والأحاديث المتعلقة بالنكاح، نجد أنه هناك منعٌ قاطعٌ لأي علاقات غير شرعية بين الرجال والنساء خارج نطاق الزواج، وهذا ما يسمى في الإسلام باسم الزنا. حيث يعتبر الزنا من أخطر الخطايا، يقول الله في كتابه: "وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا" (سورة الإسراء: الآية 32).

هناك ادعاءات بأن العلاقة يمكن أن تكون فقط داخل إطار الزواج الإسلامي -النكاح-، مع احترام شروطه وقواعده، والتي سندرسها بالتفصيل لاحقًا.

إذاً، لا يوجد نصٌ صريحٌ يفرض الزواج على كل رجل أو امرأة، أو يدينهُ كفعلٍ غير مرغوبٍ فيه. ولا يعني هذا أن الإسلام لا يدعو إلى النكاح أو يتركه للفرد. فالحقيقة هي أن النكاح هو اتحاد بين الرجل والمرأة، وبالتالي يتعلق بمسائل الفطرة الإنسانية -الرغبة في التواصل مع الجنس الآخر-. وهذا مماثل للرغبة في الطعام والشراب والنوم والراحة وغيرها من الاحتياجات الإنسانية الطبيعية.

من الأمثلة على كيفية تنظيم الشريعة للاحتياجات الطبيعية للإنسان؛ يمكن أن نأخذ تناول الطعام والشراب. لا نرى أمرًا بـ *تناول الطعام* أو *الشراب*، لأن الإنسان يميل إلى تناول الطعام والشراب بغض النظر عن ذلك، لكن الشريعة تنظم هذه المسألة؛ على سبيل المثال يُمنع الإسراف في تناول الطعام والشراب، "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" (سورة الأعراف: الآية 31)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بئس الوعاء بطن الإنسان، فليكن ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه" (الترمذي).
بالإضافة إلى ذلك فالشريعة تحظر تناول بعض الأطعمة مثل الخنزير والمشروبات الكحولية.

مثالٌ آخر وهو العلاقة بين الأطفال والآباء. يمكننا أن نرى أن القرآن والأحاديث الشريفة نادرًا ما تذكر واجب الآباء تجاه أطفالهم، لأن هذا يعود أيضًا إلى السلوك الفطري *حب الطفل لوالديه*. ولكن هناك تنظيم عندما يمكن أن تتحول هذه العناية إلى شيءٍ سيء.على سبيل المثال؛ ارتكاب قتل الأطفال الرضع (الإجهاض) خوفًا من عدم تأمين معيشتهم بشكل مناسب بسبب الفقر. يقول تعالى في كتابه: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا" (سورة الإسراء: الآية 31).

أو مثلًا ارتكاب الذنوب مثل السرقة والرشوة لكسب المال. يقول تعالى: "وَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا" (سورة النساء: الآية 9).

ومع ذلك، يوجد الكثير من الآيات والأحاديث التي تدعو الأبناء للتعاطف مع آبائهم لأن هذا ليس سلوكًا فطريًا وإنما هو طلب.

لذلك، لا نجد في القرآن أو السنة نداءً لشيء موجود بالفعل في الإنسان، بل هناك قانون ينظم هذه الغريزة. ولذلك نعتقد أن الضغط المستمر على الشباب للإسراع في الزواج أو أن يكونوا متزوجين لأنه واجب أو على الأقل سنة، يمكن أن يؤدي إلى السوء فهم والوقوع في قرارات متسرعة يمكن أن تكون لها عواقب وخيمة. بالطبع يحث الإسلام على عدم تأجيل قضية الزواج إذا كان لدى الشخص القدرة على ذلك، حيث أن الاحتياجات الفسيولوجية والنفسية التي لا يمكن تلبيتها إلا في الزواج يمكن أن تؤدي إلى بعض المعاناة والأمراض وغيرها من النتائج السلبية.

قال النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبًا للشباب: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ" (البخاري).

من هذا الحديث ينبغي أن نفهم أن الزواج خطوة مسؤولة وعلى الشخص أن يكون جاهزًا لذلك. فإذا كان هناك استعدادٌ فلا ينبغي التأخير، ويجب أن يستفيد من الفوائد التي سيحصل عليها في إنشاء أسرةٍ جديدةٍ. ولكن إذا لم يكن الشخص جاهزًا وليس هناك فرصة، فإن العجلة يمكن أن تكون خطيرة، وقد نصح النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم. فالصوم -الامتناع عن الطعام من الفجر إلى المغرب- يمكن أن يخفف من المعاناة النفسية والجسدية الناتجة عن الشعور بالوحدة.

على الرغم من أنني أعتقد أن كلمة *صيام* في هذه الحالة تعني *الامتناع* لأنها في العربية تعني ليس فقط الامتناع عن الأكل والشرب، ولكن أيضًا عن الكلام، كما يقول القرآن عن صوم مريم وزكريا عليهما السلام: "وَقَالَتْ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا" (سورة مريم: الآية 26) والآية: "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا" (سورة آل عمران: الآية 41).

بالتالي، يمكن فهم هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم حثنا على الإسراع في الزواج إذا كان هناك فرصة لذلك، وإذا لم يكن هناك فرصة فليُظهر الشاب الإصرار وقوة الإرادة والامتناع عن الزواج المتسرع في غياب الفرصة.

إذاً، يُعلمنا الإسلام أن النكاح هو فعل نبيل يُلبي الحاجة الطبيعية للإنسان في إقامة أسرة واستمرارٍ للنسل. ويدعو إلى المسؤولية واتخاذ قرار متوازن غير مسترع، وكذلك الامتناع عن العلاقات الغير شرعية، والتي تعتبر من الكبائر. في الوقت نفسه لا يَفرض الإسلام الزواج على الجميع، بل يتركها لاختيار الفردِ بناءً على قدرته ورغبته. فالنكاح هو جزءٌ من النظام الطبيعي، والإسلام يوفر القواعد والتوجيهات لتحقيقه بالعدل والمسؤولية أمام الله.

معرفة مكانة النكاح في الإسلام يساعد المسلمين على فهم قيمة ومعنى الزواج، واتخاذ قرارات مدروسة في هذا المجال من حياتهم. ويساهم ذلك في الحفاظ على نزاهة المجتمع وتعزيز العلاقات الأسرية الصحية القائمة على التفاهم المتبادل واحترام بعضهما البعض.

لذلك، فيما يتعلق بالنكاح، من المرجح أنه ليس له مكانة محددة مثل فرض (واجب) أو مستحب (سنة) أو جائز، ولكن هذه المكانة تظهر اعتمادًا على حالة الشخص نفسه. يجب على المسلمين أن يفهموا مكانة النكاح في الإسلام بشكل صحيح ويبنوا عليه القرارات المناسبة وفقًا لظروفهم وتطلعاتهم الشخصية.

على سبيل المثال، إذا كان هناك شاب صحيح وذو حالةٍ ماديةٍ تسمح له بالزواج، وهو مجذوب بشدة للجنس الآخر ويشعر أنه قد يرتكب الزنا بسبب هذا الشهوة، فإن الزواج يصبح واجبًا بالنسبة له، وإلا فقد يؤدي ذلك إلى ارتكاب الزنا.

أما إذا لم يكن الشخص لديه هذه الشهوة، ولا يوجد لديه عائق للزواج، فإن الزواج يصبح مستحبًا بالنسبة له، حتى يتمكن من تكوين أسرة وإنجاب أطفال وبذلك يساهم في تطور الأمة الإسلامية. فقد نصحنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلودَ، فإني مُكَاثِرٌ بكم الأنبياءَ يومَ القيامةِ" (أخرجه أحمد: 13594).

توصية عملية لواقعنا: عادةً ما يتم الضغط الأخلاقي على الشباب أو الفتيات عن طريق طرح الأسئلة بشكل مستمر، مثل *متى ستتزوج؟*، *متى ستتزوجين؟*، *الجميعُ في سِنك قد تزوجوا / تزوجن*، *أتريدين أن تبقي عانس؟*، *لماذا لا تريد الزواج؟ لأنها سنة!* وما إلى ذلك.

هذه التوجيهات والأسئلة يمكن أن تؤدي إلى الزواج العشوائي والمتسرع. ووفقًا لملاحظتي فقد كان السبب الرئيسي وراء الطلاق هو أنهم لم يعرفوا جيدًا من سيتزوجون / سيتزوجن، ولم يكن لديهم الموارد الكافية لدعم الأسرة وأداء التزاماتهم.

لذا فإن عبارات *أفضل الأعمال الحسنة هي التي تؤدى على عجل* أو *لا ينبغي الإسراع إلا في تحقيق عمل صالح* لا تنطبق على مسألة تأسيس أسرة. ولا يزال علينا أن نحث الآباء والأقارب على عدم الضغط على الشباب في عائلاتهم وعدم دفعهم لاتخاذ قرارات متسرعة، بل يجب أن يستعدوا للحياة الزوجية المستقبلية من خلال مشاركة الخبرة والمعرفة ودعمهم بدون انتقاد أو إدانة.

ونصيحتي للشباب:لا تستسلموا للضغط الاجتماعي، فكل من ضغط عليكم وطالبكم بالزواج سريعًا لن يكون موجودًا عندما تواجهون مشاكل حقيقية نتيجة قراراتكم المتسرعة. ولن يتحملوا تلك المسؤولية معكم وسيقولون دائمًا: *أنت وافقت بنفسك*. تذكروا أن سعادتكم ومستقبلكم بين أيديكم، وأنه من الأفضل اتخاذ القرارات المهمة بوعي ومسؤولية.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply