الرحلة البرية في براري كاريليا 1


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

كم كنت أتمنى طوال عشرين سنة أن أتجول في براري كاريليا، كان جمال طبيعتها يبهرني ولكن في نفس الوقت كانت مخيفة، غابات كثيفة وأوحال ومستنقعات وحيوانات مفترسة مثل الدببة والذِئاب، كما البعوض والحشرات يزداد أعدادها بشكلٍ مرعب في فصل الصيف.

لذلك لم أجرؤ على أن أخرج للبرية بمفردي، وبعد طول انتظار سنحت الفرصة أخيرًا، فقد عرض علينا الشيخ علي فورونوفيتش مفتي جمهورية بيلاروسيا القيام بهذه المغامرة وهو المتخصص في مثل هذه الرياضة! نعم فالسياحة في البراري هي أحد أنواع الرياضة في دول الإتحاد السوفيتي السابق وتقام له البطولات.

وكان علينا الإعداد للرحلة قبل الانطلاق بشهور، ورغم أن عدد الراغبين في البداية كان كبيرًا إلا أنه مع اقتراب الموعد كانت تتناقص الأعداد حتى بقي علي وابنته خديجة البالغ عمرها ١٤ سنة، وابنه مصطفى وعمره ٩ سنوات، وأنا وزوجتي، أي فقط خمسة أشخاص وهو العدد الأدنى المسموح به.

وكانت البداية أن انطلقنا بالسيارة من موسكو إلى نقطة البدء وكانت المسافة أكثر من ١٢٠٠ كلم، وعندما وصلنا عرفنا بعض القواعد المطلوبة؛ ومنها أن على كلٍ منا أن يحمل حقيبة ظهر تزن حوالي ٢٠ كلغ للرجال، وطبعًا حقيبة النساء والأطفال تكون أخف وزنًا، وعلينا قطع مسافة ٢٠ كلم في اليوم لتكون المسافة الكلية في النتيجة ١١٠ كلم في حوالي ستة أيام!

والنظام هو السير لمدة ٤٥ دقيقة أو لمسافة ٢ كلم، ثم نأخذ راحة لخمس دقائق، واستراحة واحدة كبيرة في منتصف اليوم للغداء، طبعًا كل ذلك ونحن نحمل على ظهورنا الطعام لأسبوع كامل مُقسم بطريقة منظمة لكل وجبة ولكل شخص، وأيضًا نحمل الخيمتين واللتين ننصبهما قبل غروب الشمس، ونُعِد وجبة العشاء ثم نصلي ونخلد للنوم للاستيقاظ فجرًا وإعداد الفطور، ثم جَمعُ الخيم والانطلاق مجددًا، وهكذا كل يوم نفس النظام. إلا أنه كان يجب علينا دائمًا إيجاد مكانٍ مناسبٍ للمبيت، وأهم شيء في ذلك أن يكون بقربِ نهرٍ أو بحيرةٍ للحصول على الماء، ورغم أن كاريليا غنيةٌ بالأنهار والبحيرات، إلا أننا كنّا نفقدها في الوقت الحرج، ولكن والحمد لله كانت دائمًا تحدث فرصٌ غير متوقعة، ويتم التخييم حسب الجدول.

الطعام: يتم تحضيره على النار بالحطب، ويتم استخدام الرز والمعكرونة وغيرها، بالإضافة إلى معلبات اللحمة والسمك، والحقيقة أن له طعم شهيٌ جدًا ربما لأنه يتم طهيه على الفحم، ولربما بسبب الجوع الشديد بعد المشي لمسافة كيلوميترات وعلى ظهورنا حِملٌ ثقيل. وقد طهى لنا علي قائد الرحلة في مرتين حساءً من الفطر والذي جَمعه في الغابة هناك، كان شهيًا لدرجةٍ لا توصف، وللأسف فأنا لا أفرق بين الفطر الصالح للأكل والآخر السام الذي يمكن أن يسبب حتى الوفاة، فيجب أن يرافقكم متخصصٌ في أنواعها، وقد ذكر لي الشيخ علي أنه قرأ في أحد الكتب التي تُعلم السياحة البرية: أنه في حالة فقدان الطعام ولم تجد إلا الفطر حولك وأنت لا تعرف صلاحيته للاكل، فليتقدم متطوع ويأكل فإذا بقي حيًّا إذن مرحى، وإن مات فلتجربوا نوعًا آخر مع متطوع آخر وهكذا دواليك! نعم الحمد لله أنّ علي وزوجتي كانوا يعرفون كل أنواع الفطر التي تنبت في هذه المناطق، والحقيقة أني لم أرَ في حياتي مثل هذه الأعداد الضخمة وبهذه الكثافة من الفطر. ولكني استمتعت أكثر بِثمار العليق البرية، والتي كانت كثيرةً أيضًا، وكنا مثل الدببة نبتلع منها كميات ضخمة في فترات الاستراحة.

الحيوانات: كنّا نجد آثارًا للدببة تُبين أنهم مروا من هنا منذ سويعات ربما، والحقيقة أني كنت خائفًا ولا أعرف كيف أتصرف إن قابلتها، وكنت قد قرأت معلومات متضاربة في كيفية مواجهة الدب أو الذئب، وعندما أخبرت علي عن مخاوفي قال لي أنه تجول عبر براري تركمانستان وقرغيستان والقوقاز والقرم وغيرها من الأماكن، ولم يجد مخلوقًا أشرس ولا أخطر من الإنسان، وأن الدببة التي تقابلهم تهرب وقد ملأها الذعر منهم. وفعلًا لم نقابل أي حيوان سوى ثعالب كانت تجري بعيدًا عنا أو نسورًا تُحلق في قلب السماء، ووجدنا بيوت القندس من الخشب على شكل جسور على الأنهار. أما الأفاعي في كاريليا نوعين أحدها سام ولكنه لا يلدغ الإنسان إلا إذا اضطره، والآخر غير سام وقد التقينا مرة واحدة بأفعى سامة فضلت أن تتجاهلنا وزحفت إلى حال سبيلها.

أما الحشرات فكانت في البداية مشكلة! فالبعوض بالمئات ووقح للغاية لا يهرب ولا يخاف، لذلك كنّا مسلحين بملابس خاصة لا يستطيع أن يلدغنا من خلالها، وحملنا على رؤوسنا قبعات بشبكة تحمي وجوهنا منه وكنا ندهن الجزء الظاهر من الجلد بدهن خاص طارد للحشرات. وكان يضايقنا فعلًا وقت الطعام، ولكن ينقذنا منه في بعض المرات أسراب اليعسوب الضخم والذي يصطاد البعوض ويريحنا منه قليلًا، وتتكون فوق رؤوسنا غيمة ضخمة من اليعاسيب منظرها مخيف ولكننا سعيدون بخدمتهم لنا.

ولكننا بعد ذلك التقينا بحشرةٍ صغيرةٍ جدًا تقرص أيضًا، ولكن لا تشعر فورًا بقرصتها إلا أنها أخطر بكثير من البعوض، فهذه الحشرة لا تتغذى على الدم بل تأكلُ جزءًا من الجلد! لذا بعد مرور فترة من الوقت بعد القرصة تتورم اليدين والرجلين مع ألمٍ شديدٍ، لذلك كنّا نحمي أنفسنا بحرص أكبر عندما نقابلها.

والحقيقة أنه بعد عدة أيام تعودنا على البعوض وأصبحنا لا نتأثر به.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply