كيف عالج الإسلام الحزن


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

في عالمنا المتطور، يواجه الإنسان العادي تحديات نفسية يومية تتمثل في الحزن والقلق. بينما يعاني الكثيرون في أنحاء العالم من الفقر والمجاعة والصراع، نجد أنفسنا نحن الذين نعيش في نسبية الرفاهية، محاصرين بالخوف والتوتر، نشعر بضيق الصدر، والبكاء والإحساس بالكآبة ومشاعر اليأس، ثم نلجأ بعد ذلك إلى الانطواء والاعتزال والوحدة، والانكفاء على الذات. لماذا نشعر بالوحدة واليأس، رغم وفرة الموارد التي نملكها؟

نستذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم للنهي عن تمني الموت بسبب ضرر لحق بالإنسان أو بأسرته، أو أن يخشى على نفسه الفتنة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلًا، فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي".

نحن نعيش في عصر من الارتباك والضياع النفسي. الدين كان يفترض أن يوفر لنا الراحة النفسية، لكن يبدو أن الإنسان في القرن الواحد والعشرين فقد القدرة على الاتصال بالله. السعي نحو اقتناء الممتلكات المادية التي لم تعد تشفي القلوب المكسورة أو النفوس المحطمة.

}أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{(الرعد:28).

الإسلام ليس مجرد مجموعة من الطقوس والقوانين، بل هو دين يهدف إلى توطيد العلاقة بين الإنسان وخالقه. ولهذا السبب يقدم الإسلام الحلول للحزن والقلق من خلال القرآن والسنة النبوية.

العلاج الإيماني يكون بالإيمان بالله والعمل الصالح:}وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ{(المائدة:9).

فعند قبولنا بتسليمٍ كامل أننا عبيد لله في هذه الحياة، تأخذ الحياة معنى جديدًا. الإيمان يمنحنا القدرة على التغلب على اليأس والقلق. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ".

الإسلام يدعونا للنظر إلى ما هو أبعد من الرغبات الذاتية والتركيز على الحياة الأبدية. يذكرنا بأن الحياة الدنيا مجرد محطة عابرة، تتخللها لحظات من الفرح والحزن.

}وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{(البقرة:155).

في هذا المقال سنستعرض الإشارات القرآنية والحديث النبوي لنكتشف كيف يقترح الإسلام التعامل مع الحزن والقلق. الصبر، والشكر، والتوكل على الله هم مفاتيح الحرية من قيود الحياة المعاصرة.

}فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ{(البقرة:152).

}إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{(آل عمران:160).

الحزن والقلق هما جزء لا يتجزأ من حالة الإنسان. الحياة مجموعة من اللحظات، بين الفرح الذي يغمر القلب والحزن الذي يثقله. في هذه الأوقات، يجب على المؤمن أن يبني علاقة قوية مع الله.

يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله:* منزلة الحزن، ليست من المنازل المطلوبة، ولا المأمور بنزولها، وإن كان لا بد للسالك من نزولها، ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيًا عنه، أو منفيًا*:

فالمنهي عنه كقوله تعالى: }وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا{(آل عمران:139)، وقوله: }وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ{(الحجر:88) في غير موضع، وقوله: }لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا{(التوبة:40)، والمنفي كقوله:} فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ (البقرة:38).

عندما نشعر بالفرح يجب أن نتذكر أنه نعمة من الله، وعندما نواجه الحزن والقلق يجب علينا أن ندرك أن هذا أيضًا من تدابير الله، حتى لو لم نر ذلك في البداية.

}وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{(البقرة:216).

الله لم يتركنا وحيدين في مواجهة التحديات، بل مدَّ لنا بأدوات قوية مثل الصبر، والشكر، والتوكل.قال تعالى: }إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ{(المؤمنون:111).

وقال العلامة العثيمين رحمه الله: الصبر مع انتظار الفرج يُعتبرُ من أعظم العبادات، لأنك إذا كنت تنتظر الفرج، فأنت تنتظرُ الفرج من الله عز وجل، وهذه عبادة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "واعلمْ أنَّ النصرَ مع الصبرِ، وأنَّ الفرجَ مع الكربِ، وأنَّ مع العسرِ يُسرًا". فكلما اكتربت الأمور فإن الفرج أقرب إليك، و }إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا{(الشرح:6).

الصبر في اللغة العربية يأتي من الجذر الذي يعني التوقف أو الامتناع. وقد شرح ابن القيم أن الصبر يعني القدرة على التوقف عن اليأس والامتناع عن الشكوى في أوقات الحزن والقلق.

عندما نواجه الحزن والقلق، يجب أن يكون أول رد فعل لنا هو التوجه إلى الله. فالتفكير في أسماء الله الحسنى يمكن أن يقدم الراحة والتعزية.

}وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ{(الأعراف:180).

الإنسان كائن ضعيف، يمكن أن يتأثر بالألم والحزن. حتى الأنبياء، الذين كانت علاقتهم بالله قوية، لجأوا إلى الله في أوقات الضيق. لكنهم فعلوا ذلك بصبر وقبول لما قدره الله.

}قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ{(يوسف:86).

الصبر يعني القبول والرضا بما هو خارج عن سيطرتنا. وعندما نقبل بما قدره الله، نجد الراحة والسكينة. وهذا لا يعني السلبية، بل يعني الجهد المستمر لإرضاء الله في جميع جوانب حياتنا.

قال الإمام ابن الجوزي: وإنما صعب الصبر؛ لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع، حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر.

وقال الإمام الغزالي رحمه الله: قد قيل إن الصبر الجميل: أن لا يعرف صاحب المصيبة من غيره، ولا يخرجه عن حمد الصابرين، توجع القلب، ولا فيضان العين بالدمع، فإن ذلك مقتضى البشرية، ولذلك لما مات إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم فاضت عيناه. "إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ".

ونحن بطبيعتنا كمخلوقات بشرية هشة، نجد أنفسنا في أوقات كثيرة مغمورين بالخوف والقلق. قد يصبح الحزن والقلق في بعض الأحيان مسيطرين سيطرةً كاملةً على حياتنا حتى أننا لننسى الغرض الأساسي من وجودنا، وهو عبادة الله. ولكن عندما يصبح إرضاء الله هو محور كل تفكيرنا وأفعالنا، يصبح للحزن والقلق مكانٌ ضيق في حياتنا.

قال تعالى في كتابه الكريم: }فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ{(البقرة:152).

هناك العديد من الطرق للتعبير عن الشكر، وأولها وأهمها هو عبادة الله بالطريقة التي شرعها لنا. عندما نقوم بواجباتنا الدينية تجاه الله، يصبح من الواضح مدى النعم التي نحظى بها.

عالج الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بتعليمهم أدعية عديدة تعينهم على مصابهم، كما في صحيح البخاري عن أنس بن مالك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ".

الشكر لله يمكن أيضًا أن يُعبَّر عنه من خلال الصدقات. قال النبي صلى الله عليه وسلم، إنه يجب على المسلم أن يتصدق كل يوم تعبيرًا عن الشكر لله على كل مفصل في جسده.

عندما نتأمل في كلمات الله ونفهم معاني القرآن، نبدأ في فهم حقيقة هذه الحياة والحياة الآخرة. وبالتالي، ندرك أن حتى التجارب والمحن هي في الواقع نعم من الله.

}لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ{(إبراهيم:7).

في الأوقات التي نشعر فيها بالحزن والقلق، يكون الله هو الملجأ الوحيد. وعندما يصبح الحزن والقلق لا يطاقان، نلجأ بشكل طبيعي إلى الله، لأننا نعلم أن وعده حق. نتذكر قوله تعالى: }فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا{(الشرح:5).

يجب علينا أن نقبل الصعاب والنجاحات والتحديات كجزء من حياتنا. من أفضل اللحظات إلى أسوأ الظروف، كل واحدة منها هي نعمة من الله. فعندما نشعر بالإرهاق والتعب بسبب الحزن أو القلق يجب علينا أن نلجأ إلى الله، ونسعى للصبر والشكر ونضع ثقتنا في الله. فبالثقة فيه يمكننا التغلب على أي لحظة من القلق والتغلب على أي حزن أو قلق يحاول التسلل إلى حياتنا.

في القرن الجديد، يواجه الأشخاص الذين يعيشون فوق خط الفقر تحديات فريدة. قد يكون لدينا ما يكفي من الطعام والمأوى، وحتى بعض الرفاهيات، لكننا نفتقر إلى الراحة الروحية والنفسية. يغلب على عقولنا الحزن والقلق، وتتزايد مستويات التوتر. ونحن نتساءل لماذا لا نشعر بالسعادة رغم تحقيقنا للكثير من الإنجازات المادية.

الحياة التي تفتقر إلى الله هي حياة محزنة بالفعل. لا يمكن أن تكون السعادة حاضرة في حياتنا ما لم يكن الله هو محورها. والسعادة الحقيقية تأتي فقط عندما نسعى لتحقيق الغرض من وجودنا، وهو عبادة الله.

}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ{(الذاريات:56).

ويذكرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "ما أَصاب المُسلِمُ من مرَضٍ، ولا وَصَبٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهَمُّ يُهَمُّه إلَّا يُكفِّرُ اللهُ عزَّ وجلَّ عنه من خَطاياه".

فالإسلام يوفر لنا إشارات واضحة لكيفية تحقيق السعادة، من خلال القرآن والسنة النبوية. ولكن هذا لا يعني أننا لن نواجه اختبارات وتحديات، فالله يقول بوضوح في القرآن إنه سيختبرنا. ويعدنا الله بأنه سيكافئ الصابرين، ويحثنا على الشكر له، ويقول لنا إنه يحب الذين يتوكلون عليه.

}فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ{(آل عمران:159).

الحياة مليئة بالنجاحات والتحديات، يمكن أن يكون إيماننا قويًا في يوم وضعيفًا في اليوم التالي. والطريقة لتحقيق التوازن في رحلتنا هي الثقة بأن الله يعلم ما هو أفضل لنا. حتى عندما تحدث أمور لا نراها إيجابية، يجب أن نعلم أن وراءها حكمة وغرض.

عندما ندرك أن لا حول ولا قوة لنا إلا بالله، نبدأ في الشعور بالراحة. رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن الله لديه القدرة على كل شيء وأن شيئًا لا يحدث إلا بإرادته.

}إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{(آل عمران:160).

كمؤمنين، يجب أن تكون ثقتنا بالله ثابتة في جميع الظروف، سواء كانت جيدة أو سيئة، سهلة أو صعبة. يجب علينا أن نشكر الله في جميع الأحوال ونحمده. إذا كان يجب علينا تحمل صعوبات معينة، يجب أن نتحلى بالصبر، وفوق كل شيء يجب أن نحب ونثق بالله. عندما تصبح الحياة مظلمة وصعبة، يجب أن نحب الله أكثر؛ وعندما نشعر بالحزن والقلق، يجب أن نثق بالله أكثر: }وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{(آل عمران:139).

نرى أن القرآن والسنة المطهرة تعتبر دليلًا شاملًا، وفي الأثر أن *أفضلُ العبادة انتظارُ الفرَج* من الله، فإيمانُك بربك وثقتُك بوَعْدِه ونصره، وأنه هو الرَّزَّاق والشافي، والهادي إلى صراطه المستقيم، القادر على كل شيء، سيُنجيك من الآفات والمُهلكات، فتنجو وتكون من الفائزين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply