بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هذا إسهام متواضع، ودعوة صادقة إلى ضرورة الاهتمام بدراسة تاريخ اليهود، والدّيانة اليهوديّة، ليس فقط لنتقنَ التّعامل مع الكيان الصّهيونيّ، بل أيضًا لفهم فصل مهم من تاريخ الإنسانيّة.
أتذكّر كيف كان هنري كيسنجر يكرّر الحكمة الشّهيرة في مذكراته: «العلم قوّة».
تاريخيًّا تفوّقتِ العربُ على اليهود في شتّى الميادين حتّى القرنِ الخامس عشر الميلادي. وفي تقديري أنّ عصر التّقهقرِ الحضاريّ العربيّ-الإسلاميّ لم يبدأ إلّا بعد القرن الخامس عشر الميلادي. وفي المقابل بدأ صعود اليهود وتألقهم بمجرّد إنهاء الوجود العربيّ-اليهوديّ في أسبانيا سنة ١٤٩٢م.
واللّافتُ هنا هو التّحولُ السّريعُ الّذي أحرزته أسبانيا سنة ١٤٩٢م، حيث أنَّهَا أنهت الوجود العربيّ-اليهوديّ فيهَا في يناير سنة ١٤٩٢م، وفي أغسطس من السّنة نفسها دشّنتْ مرحلة جديدة تحوّلت فيها إلى قوة استعماريّة، حيث أرسلت كولومبوس (١٤٥١م-١٥٠٦م) لاكتشاف العالم الجديد تمهيدًا لاستعماره ونهب ثرواته.
ووفقًا لما أورده المستشرق الصّهيونيّ برنارد لويس في كتابه عن «اليهود في العالم الإسلامي» Juden in der islamischen Welt، فقد كان نحو ٩٠٪ من يهود العالم يعيشون بين ظهراني المسلمين في العالم الإسلاميّ في القرون الوسطى.
وبعد فقدان الأندلس حدثت هجرة يهوديّة نحو الشّمال، وهجرة عربيّة إسلاميّة إلى الجنوب. انطلق اليهود إلى أصحاب الحضارة الجديدة في غرب أوروبا والأمريكتين. وانكفأ العرب-المسلمون على أنفسهم يبكون ضياع الأندلس.
وفي ندوة حرّرها الباحث السّويسريّ الرّاحل أرنولد هوتينجر عن أسباب دخول المسلمين عصور الانحطاط، ذهب بعض الغربيّين إلى أنّ الانحطاط ارتبط بانتشار قيم التّواكل، ومحاولات المسلمين طرح تفسيرات صوفيّة لما حدث لهم في الأندلس.
نُشرت أعمال هذه النّدوة سنة ١٩٦٠م بعنوان: Klassizismus und Kulturverfall وفيها إشارة إلى ميل بعض المستشرقين إلى تحديد بداية عصور انحطاط المسلمين بتاريخ وفاة الغزالي سنة ١١١١م. هذا في حين أنّ جورج سارطون George Sarton رصد بروز علماء مسلمين متميزين في القرون التّي تلتْ وفاة الغزّاليّ.
لكنْ إذا اتّخذنا ثلاثة أحداثٍ مقياسًا لتحديد بداية عصور التّقهقر الحضاريُ للمسلمين، فربّما نتوصّل إلى نتيجة مرضية: فقد اخترع الألمانيّ جوتنبرج (١٣٩٨م-١٤٦٨م) الطّباعة في حدود سنة ١٤٥٠م. وسقطتْ غرناطة سنة ١٤٩٢م. وقام نابليون بحملته إلى مصر سنة ١٧٩٨م، حاملا معه مطبعة بحروف عربيّة. نستطيع أن نستنتج أنّ الأوروبيّين بدؤوا نهضتهم في الوقت الّذي كان المسلمون يدخلون فيه عصور الظّلام. فاختراع الطّباعة الّذي يُعدّ من الإسهامات العظيمة للحضارة الإنسانيّة لم يأخذه المسلمون مأخذ الجدّ حتّى صدمهم نابليون سنة ١٧٩٨م بمطبعة مزوّدة بحروف عربيّة. وهذا يشير إلى أن غفلة المسلمين في هذه الحالة استمرت أكثر من ثلاثة قرون، وبعدْ.
وفي تقديري أنّ ضياع الأندلس قد خلّف في الوجدان العربيّ-الإسلاميّ الجمعيّ جرحًا غائرًا لم يندمل حتّى يومنا هذا. وهذه طبيعة الأمور، فكلّ خسارة تصاحبها صدمة، والصّدمة تؤدّي إلى اكتئاب، والاكتئاب يقود إلى العزلة والانعزال.
ولعلّ المطّلعين على ترجمتي العربيّة لكتاب «قرننا هذا» لهيلموت شميدت وفريتس شترن، يلاحظ أوجه التّشابه بين هزيمة ألمانيا في الحرب العالميّة الثّانية وطرد العرب من الأندلس.
وقد عايشت الولآيات المتّحدة الأمريكيّة حالة مشابهة، وإن كانت غير متطابقة، بعد فشلها في حربي العراق وأفغانستان. والشّيء نفسه ينطبق على بعض الرّوس الّذي ما زالوا يتباكون على انهيار الاتّحاد السّوڤييتيّ.
وقد يكون من المفيد التّذكير بقصيدة أبي البقاء الرُّنْدِيِّ (١٢٠٤م-١٢٨٥م) الخالدة في رثاء الأندلس (وذكّر فإنّ الذّكرى تنفعُ المؤمنين)(سُورةُ الذَّاريات: ٥٥)، حيث يقول:
١- لِكُلِّ شيءٍ إذَا ما تمَّ نُقْصانُ-فَلا يُغَرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ.
٢- هِيَ الأُمورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ-مَنْ سَرَّه زَمَنٌ ساءتْهُ أزمانُ.
٣-وهذه الدّارُ لا تُبقِي علَى أَحَدٍ-وَلا يدُومُ عَلَى حالٍ لها شَأْنُ.
٤- وَعالَم الكونِ لا تبقَى محاسنُهُ-وَلا يدُومُ علَى حالٍ لها شأنُ.
٥- يُـمَزِّقُ الدَّهْرُ مِنَّا حَتمًا كلَّ سَابِغةٍ (= الدِّرْع)-إذا نبتْ مشرفيّات (= سيوف) وخُرصانُ (دُرُوع).
٦- أينَ الملوكُ ذَوو التّيجانِ مِنْ يمنٍ-وأينَ منهم أكاليل (= تيجان) وتيجانُ.
٧- وأينَ ما شادَهُ شدّاد (= شدّاد بن عاد، ملك قوم عاد) مِنْ إِرَم (= عاصمة قوم عاد)-وأينَ ما ساسَهُ في الفرسِ ساسانُ (= ملك من ملوك الفرس).
٨- وأينَ ما حازهُ قارونُ مِنْ ذهبٍ-وأينَ عادٌ وشدَّادٌ وقحطانُ.
٩- أتى على الكُلِّ أمْرٌ لا مَردَّ لَهُ-حَتَّى قَضَوْا (= ماتوا) فكأَنَّ الْقومَ ما كانوا.
١٠- وصارَ ما كانَ مِنْ مُلْكٍ وَمِنْ مَلِكٍ-كَمَا حَكَى عَنْ خَيَالِ الطَّيْفِ وسنَانُ (= وَسِنَ الرَّجُلُ: أَخَذه النّعاسُ).
١١- دارَ الزّمانُ عَلَى دارَا (= دارَا: ملك من ملوك الفرس) وقاتله-وَأَمَّ كِسْرَى فَمَا آوَاهُ إِيوانُ (= قاعة العرش).
١٢- كَأَنَّما الصّعبُ لم يسهُلْ له سببٌ-يومًا ولا ملكَ الدُّنْيَا سُلْيمَانُ.
١٣- فجائعُ الدَّهْرِ أنْواعٌ مُنَوَّعَةٌ-وَلِلزَّمَانِ مَسَرَّاتٌ وَأحْزَانُ.
١٤- وَلِلْمصَائبِ (وللحوادث)- سُلْوانٌ (= نسيان) يُـهَوِّنـهَا (يُسهِّلُهَا).
١٥- ومَا لِـمَا حلَّ بالإسلامِ سُلْوانُ-دَهَى الجزيرةَ (= الأندلس) (خَطْبٌ) أَمْرٌ لا عَزَاءَ لهُ-هَوَى (= انهار) لهُ أُحُدٌ (= جبلٌ) وانْهدَّ ثَهْلَانُ (= جَبَلٌ).
١٦- أصابها (= الأندلس) العينُ في الإسلامِ (فامتحنتْ)-حَتَّى خَلَتْ مِنهُ أقطارٌ وبُلدانُ.
١٧- فاسأَلْ بَلَنْسِيَة ما شأَنُ مُرسية-وأينَ شاطِبَةٌ أم أيْنَ جَيَّانُ.
١٨- وَأَيْنَ قُرطُبَة دارُ العلومِ فكم-من عالمٍ قد سما فيها له شأنُ.
١٩- وَأَينَ حِمْصٌ (= إِشبيلية) وما تحويه من نُزَهٍ-ونهرُها العَذْبُ فيَّاضٌ وملآنُ.
٢٠- كذا طُلَيْطُلَة دارُ العلومِ فكمْ-من فاضلٍ قد سما فيها له شأنُ.
٢١- وأَيْنَ غرناطة دارُ الجهادِ وكم-أُسْدٍ بها وهُم في الحربِ عُقْبَانُ (= جَمعُ عقاب: طائر من الجوارح).
٢٢- وأَيْنَ حَمْرَاؤُهَا العليا وزُخْرُفُهَا-كَأَنـَّها مِنْ جِنَانِ الـخُلْدِ عَدْنَانُ.
٢٣- قواعد كُنَّ أركانَ البلادِ فما-عسى (البكاء) البقاءُ إذا لم تبقَ أركانُ.
٢٤- والماءُ يجري بساحاتِ القصورِ بِهَا-قد حفَّ جدولَها زَهْرٌ ورَيْحَانُ.
٢٥- ونهرها العذبُ يحكي في تسلسلهِ-سُيوفَ هِنْدٍ لها في الجوِّ لَـمَـعانُ.
٢٦- وَأَينَ جامعها المشهورُ كَمْ تُلِيَتْ-في كُلِّ وَقْتٍ بِهِ آيٌ وفُرقانُ.
٢٧- وَعَالِمٌ كان فيها للجَهُولِ هُدًى-مُدرِّسٌ وَلَهُ في العلم تبيانُ.
٢٨- وعابدٌ خاضعٌ للَّـهِ مُبتهلٌ-والدّمعُ مِنْهُ عَلَى الخدَّيْنِ طُوفانُ.
٢٩- وأَيْنَ مَالَقَة مَرْسَى الْـمَرَاكِبِ كَمْ-أَرْسَتْ بساحَتِهَا فُلْكٌ وَغُرْبَانُ.
٣٠- وَكَمْ بداخلها من شاعرٍ فطنٍ-وذي فنونٍ له حِذقٌ وتبيانُ.
٣١-وكمْ بخارجها من مَـنْزَهٍ فَـرِجٍ-وَجَنَّةٍ حَوْلَها نَهْرٌ وبُستانُ.
٣٢- وأَيْنَ جَارَتُها الزّهراءُ وقُبَّتُها-وَأَيْنَ يا قوْمُ أبطالٌ وفُرسانُ.
٣٣- وَأَيْنَ بَسْطَةُ دار الزّعفرانِ فهلْ-رَآى شبيهًا لها في الحسنِ إنسانُ.
٣٤-وكَمْ شُجاعٍ زَعيمٍ في الْوَغَى بطلٍ-بدا له في العدى فتكٌ وإِمْعانُ.
٣٥- كَمْ جَنْدَلَتْ يدُهُ من كافرٍ فغدا-تبكيه من أرضه أهلٌ وَوِلْدانُ.
٣٦-وَوَادِيًا مَنْ غَدَتْ بالكفر عامِرَةً-وَرَدَّ توحيدَهَا شِرْكٌ وطُغيانُ.
٣٧-كذا الْـمَرِيَّةُ دارُ الصّالحينَ فكمْ-قُطْبٍ بِهَا عَلَمٌ بحرٌ له شَأْنُ.
٣٨- تبكي الـحَنِيفِيَّةُ البيضاءُ مِنْ أَسَفٍ-كَمَا بكَى لِفِرَاقِ الإلفِ (= الحبيب) هَيْمَانُ (= عاشق).
٣٩- عَلَى دِيارٍ مِنَ الإِسْلَامِ خَالِيَةٍ-قد (أَقْفَرَتْ) أَسْلَمَتْ وَلهَا بالكفرِ عُمْرَانُ.
٤٠- حيثُ الْـمساجِدُ قدْ أَمْسَتْ (صارتْ)-كَنائِسَ مَا فيهِنَّ إِلَّا نَوَاقِيس وصُلْبانُ.
٤١- حَتَّى المحاريبُ تبكي وَهِيَ جَامِدَةٌ-حَتَّى المنابر تَرثِي (تبكي) وَهِي عِيدانُ.
٤٢- يا غَافِلا وَلَهُ فِي الدَّهْرِ مَوْعِظَةٌ-إِنْ كُنْتَ فِي سِنَةٍ (= غَفْلَةٍ) فالدَّهْرُ يَقْظَانُ.
٤٣- وَماشيًا مَرِحًا يُلْهِيهِ مَوْطِنُهُ-أَبَــعْــدَ حِـمْصٍ تَــغُــرُّ الْــمَـرْءَ أَوْطَانُ.
٤٤- تِلْكَ الْـمُصِيبَةُ أَنْـسَـتْ مَا تَقَدَّمَهَا-وَمَا لَهَا مَعَ طُولِ (طويلِ) الدَّهْرِ نِسْيَانُ.
٤٥- يَا أَيُّهَا الْـمَلِكُ البيضاءُ رَايَتُهُ-أَدْرِكْ بِسَيْفِكَ أَهْلَ الكُفْرِ لا كَانُوا.
٤٦- يا راكبينَ عِتَاقَ الخيلِ ضامِرَةً-كَأَنَّـهَا فِي مَجالِ السَّبْقِ عِقْبَانُ.
٤٧- وَحَامِلِينَ سُيُوفَ الْـهِنْدِ مُرْهَفَةً-كَأَنَّهَا فِي ظَلامِ (اللَّيْلِ) النَّقْعِ نِيرانُ.
٤٨- وَرَاتِعِينَ وَرَاءَ الْبَحْرِ فِي دَعَةٍ-لَهُمْ بأَوطَانِهِمْ عِزٌّ وَسُلْطَانُ.
٤٩-أَعِنْدَكُمْ نَبَأٌ مِنْ (أَمْرِ) أَهْلِ أَنْدَلُسٍ-فقدْ سَرَى بِحَدِيثِ القومِ رُكْبَانُ.
٥٠- كَمْ يَسْتَغِيثُ بَـنُو الْـمُـسْتَـضْـعَفينَ (صَنَادِيدُ الرِّجَالِ) (بِنَا الْـمُـسْتَضْعَفُونَ).
٥١- وَهُـمْ أَسْرَى وَقَتْلَى فَمَا يَهْتَزُّ إِنْسَانُ.
٥٢- ماذَا التَّقَاطُعُ فِي الإِسْلَامِ بينَكُمُ-وَأَنْتُمُ يا عبادَ اللَّــهِ إِخْوَانُ.
٥٣- أَلَا نُفُوسٌ أَبِيَّاتٌ لَهَا هِمَمٌ-أَمَا عَلَى الْخِيرِ أَنْصَارٌ وَأَعْوَانُ.
٥٤-يَا مَـنْ لِذِلَّةِ قَوْمٍ بَعْدَ عِزِّهِمُْ-أَحَالَ حَالُهُمُ كُفْرٌ وَطُغْيَانُ.
٥٥- يَا مَنْ لِنُصْرَةِ قَوْمٍ قُسِّمُوا فِرَقًا-سَطَا عَلَيْهِم بِهَا كُفْرٌ وطُغْيَانُ.
٥٦- بالأَمْسِ كَانُوا مُلُوكًا فِي مَنَازِلِهِمْ-وَالْيَومَ هُمْ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ عُبْدَانُ.
٥٧- فَلَوْ تَرَاهُمْ حَيَارَى لَا دَلِيلَ لَهُمْ-عَلَيْهِمُ مِنْ ثِيَابِ الذُّلِّ أَلْوَانُ.
٥٨- وَلَوْ رَأَيْتَ بُكَاهُمْ عِنْدَ بَيْعِهِمُ-لَـهَالَكَ الْأَمْرُ وَاسْتَهْوَتْكَ أَحْزَانُ.
٥٩- يَا رُبَّ أم وَطِفْلٍ حِيلَ بينَهُمَا-كَمَا تَفَرَّقُ أَرْوَاحٌ وأَبْدَانُ.
٦٠- وَطِفْلَةٍ مَا رَأَتْهَا الشَّمْسُ إِذْ بَرَزَتْ-كَأَنَّهَا هِيَ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانُ.
٦١- وَطِفْلَةٍ مِثْلَ حُسْنِ الشَّمْسِ إِذْ طَلَعَتْ
٦٢- وَغَادَةٍ مَا رَأَتْهَا الشَّمْسُ بَارِزَةً-كَأَنَّـمَا هِيَ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانُ.
٦٣- يَقُودُهَا الْـعِلْجُ لِلْمَـكْرُوهِ مُكْرَهَةً-وَالْعَــيْــنُ باكِيَةٌ وَالْقَلْبُ حَيْرَانُ.
٦٤- يَقُودُهَا عِلْجٌ عِنْدَ السَّبْيِ صَاغِرَةً-وَالْعَـيْـنُ بَاكِيَةٌ وَالْقَلْبُ حَيْرَانُ.
٦٥-لِـمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ الْقَلْبُ مِنْ كَـمَدٍ-إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إِسْلَامٌ وَإِيـمَانُ.
٦٦- هَلْ لِلْجِهَادِ بِهَا مِنْ طَالِبٍ فَلَقَدْ-تَزَخْرَفَتْ جَنَّةُ الْـمَأْوَى لَهَا شَأْنُ.
٦٧- وَأَشْرَفَ الْـحُورُ وَالْوِلْدَانُ مِنْ غُرَفٍ-فَازَتْ لعَـمْرِي بِهَذَا الْخَيْرِ شُجْعَانُ.
٦٨- ثُمَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْـمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ-مَا هَبَّ رِيحُ الصَّبَا وَاهْتَزَّ أَغْصَانُ.
وبَعْدُ، فعندما زرتُ الأندلسَ لأوَّلِ مَرَّةٍ سنة ٢٠٠٠م، لفت نظري وجود تِمْثالٍ للفيلسوف اليهوديّ موسى بن ميمون (١١٣٨م-١٢٠٤م)، أو كما يسمّيه الغربيّون مايمونيديس Maimonides، في مدينة قرطبة، وَهُو بالمناسبة وإن كان يهوديًّا، إلَّا أنّ صديقي ممدوح عبد الرّازق، سفير مصر الأسبق في سويسرا، أبلغني أنَّ والده الشّيخ مصطفى عبد الرّازق، شيخ الأزهر الأسبق، كانَ يُعدُّ موسى بن ميمون من الفلاسفة المسلمين، ربّما انطلاقًا من كتابه «دلالة الحائرين». لكن عودة إلى قرطبة الّتي ما زالت تحتفظ أيضًا بتمثال لابن رشد (١١٢٦م-١١٩٨م)، يجدُ الزّائر للمدينة القديمة هناك فندقًا باسم ابن ميمون، ومتجرًا يهوديًّا يبيع سلعًا تذكاريّة للسّيّاح. في الأندلس عاش فيلسوف اليهود موسى بن ميمون، قبل أن ينتقل إلى مصر، ويصبح الطّبيب الخاصّ لصلاح الدّين الأيوبي (١١٣٨م-١١٩٣م). المتأمّل لكتابات موسى بن ميمون، أو على الأقل كتاباته المعروفة، وليست السّرّيّة، يلاحظُ حقيقة مذهلة عن يهود العصور الوسطى بصفة عامّة، تتمثّل في انحيازهم التّامّ للمسلمين ضدّ المسيحيّين. يقينًا المشتركات كثيرة بين اليهوديّة والإسلام، أو كما ذكرتُ في كتابي «العملاق السّويسريّ هانس كينج» أنّ اليهود لديهم كتالوج للمشتركات، وآخر لمسائل الخلاف بينهم وبين المسلمين من ناحية، أو بينهم وبين المسيحيّين من ناحية أخرى، وهم يتقنون التّغنّي بالمشتركات، أو الزّأر بالخلافات، تبعًا لمصالحهم، ووفقًا لظروف العصر. كانت قضيّة التّوحيد من المسائل الّتي عالجها ابن ميمون، واتّفق فيها، بوصفه يهوديًّا، مع المسلمين، ربّما بتأثّره بكتابات المعتزلة الّذين استبسلوا في الدّفاع عن الإسلام، وسمّوا أنفسهم «أهل العدل والتّوحيد». جمع التّوحيد المسلمين واليهود في القرون الوسطى، وفرّق بين اليهود والمسيحيّين بالذّات. وينسب المفكّر اليهودي إسرائيل شاحاك (انظر مراجعتي لأهمّ كتبه) لموسى بن ميمون توصيته اليهود بضرورة البصق على أيّ كنيسة يمرّون بها. قد يكون هذا تعبيرًا عن الغضب، والكراهية، لكنّه يبقى أسلوبًا مقزّزًا، ما زال اليهود يمارسونه حتّى يومنا هذا. نستطيع أن نقول من منظور آخر أنّ الخلافات الدّينيّة بين اليهود والمسيحيّين في القرون الوسطى، وهي بالمناسبة خلافات قديمة لم تتغيّر حتّى يومنا هذا، قد تمّ توظيفها من قبل اليهود، ربّما بهدف التأكيد على تحالفهم مع المسلمين الّذين عاشوا عصورًا ذهبيّة في القرون الوسطى.
لكنّ اللّافت هنا أيضًا هو السّلوك الانتهازيّ الّذي ظهر مبكرًا في الأندلس بالذّات. فمن المعروف أنّ الأندلس لم تسقط كلّها مرّة واحدة، بل كان المسلمون يخسرونها بالتّدريج. فقد سقطت مدريد سنة ١٠٨٣م، ثمّ سقطت طُليطلة القريبة من مدريد في شمالي أسبانيا سنة ١٠٨٥م، وسقطت قرطبة سنة ١٢٣٦م، وسقطت إشبيلية سنة ١٢٤٨م، وكانت غرناطة آخر مدينة عربيّة تستسلم لكاثوليك أسبانيا سنة ١٤٩٢م. ولفت نظري عبارة «لا غالب إلّا اللّه» - الّتي يُقال إنّها كانت شعار الموحدين - الّتي زُيّنَتْ بها جدران باحات فندق قصر الحمراء في غرناطة الّذي يعدّ اليوم أحد أروع فنادق أسبانيا على الإطلاق. وقد زرتُ فندق Parador Gibralfaro (= فندق جبل فاروق في مالقا) الفريد، الّذي كان في الأصل قلعة، حيث يُقالُ إنّ الملكة الكاثوليكيّة إيزابيلا (١٤٥١م-١٥٠٤م) وزوجها فرناندو الثّاني (١٤٦٩م- ١٠٥٠٤م)، قضيا فيه اللّيلة الّتي سبقت استلامهما مفاتيح غرناطة في الثّاني من يناير سنة ١٤٩٢م.
تحكي كتب التّاريخ أنّ اليهود هرولوا لتقديم خدماتهم للملوك المسيحيّين الّذين تمكنوا من استرداد أجزاء من الأندلس، عارضين عليهم تقديم معارفهم عن العرب الّتي اكتسبوها من خلال العمل في الإمارات العربيّة في الأندلس. يقينًا اعتبر العرب هذا السّلوك غدرًا من اليهود وخيانة للمسلمين.
وتذكر كتب التّاريخ ما سُمِّيَ مذبحة يهود غرناطة الّتي حدثت في الثّلاثين من ديسمبر سنة ١٠٦٦م، حيثُ قام المسلمون بقتل الوزير اليهودي يوسف بن نغرالة (١٠٣٥م-١٠٦٦م)، وصلبه، ثمّ ذبحوا نحو أربعة آلاف يهوديّ. ويُقال إنّ اليهودي يوسف بن نغرالة كان يهاجم الإسلام، ممّا اضطرّ ابن حزم للرّدّ عليه. ولا تذكر المراجع العربيّة هذا اليهوديّ، إلّا وتصفه بخيانة المسلمين، والطّموح إلى تأسيس دولة يهوديّة في الأندلس. وبعدُ.
ثمّة ملاحظة أخرى يمكن للمتأمّل في تاريخ اليهود العامّ إثباتها، وتتمثّل في انجذابهم الشّديد نحو مراكز الحضارة والتّجارة على مختلف العصور. فيقالُ مثلًا إنّ عدد اليهود الّذي عاشوا في مدينة الإسكندرية قبل الإسلام قد وصل إلى أكثر من مليون يهودي (قارن كتاب هانس كينج عن اليهوديّة). وفي العصر الذّهبيّ للإسلام الّذي امتدّ حتّى القرن الخامس عشر الميلادي أشار برنارد لويس إلى أنّ ٩٠٪ من يهود العالم كانوا يعيشون في العالم الإسلامي. ومع بداية تأسيس الولآيات المتّحدة الأمريكيّة في القرن الثّامن عشر الميلادي سارعت أعداد كبيرة من اليهود إلى الهجرة إلى الأمريكتين. وكانت الفترة الّتي أعقبت طرد العرب واليهود من أسبانيا، سنة ١٤٩٢م، قد شهدت نزوحًا كبيرًا من يهود أسبانيا إلى دول غرب أوروبا. والمتأمّل لأعداد اليهود اليوم في مختلف دول العالم، يلاحظ حضورًا كثيفًا لهم في الدّول المتقدّمة، وقلّة قليلة في الدّول المتخلفة، وبعدُ.
فالعرب مطالبون بالنّهوض والاجتهاد لتعويض القرون الّتي ابتعدوا فيها عن حضارة العصر، بداية من سقوط غرناطة سنة ١٤٩٢م وحتّى يومنا هذا. اليهود اجتهدوا خلال هذه الفترة، وللأسف توّجوا منجزاتهم بمشروع استعماري، دموي، في فلسطين، وهو ما أصاب العرب بخيبة أمل كبيرة، بعد قرون من التّعايش السلميّ بينهم وبين اليهود.
ومع ذلك فلا مجال للبكاء على ما حدث، فلابد من النّهوض وتعويض ما فات، والسّعي للتّعامل مع بني صهيون وفقًا للقواعد المتعارف عليها، وانطلاقًا من إدراك الحقيقة الثّابتة القائلة إنّه لا احترام للضعفاء، ولا مكان لهم في هذه الحياة. وبعد.
فبودي الإشارة إلى بعض أهم ما كتبه الباحثون المعاصرون عن اليهود والدّيانة اليهوديّة، حيث يجدر بنا مناشدة شعوبنا وحكوماتنا دراسة موسوعة الصّديق الرّاحل عبد الوهّاب المسيري: «موسوعة اليهود واليهوديّة والصّهيونيّة». ولدينا الباحث المصري حسن ظاظا الّذي ترك لنا «الفكر الدّينيّ اليهوديّ»، و«الشّخصيّة الإسرائيليّة». كما نشر المفكّر حسين مؤنس، الّذي درس في سويسرا، كتابًا بعنوان: «كيف نفهم اليهود؟». يقينًا هذه مجرّد نماذج من كتابات كثيرة عن اليهود والصهاينة يمكن للقارئ الرّجوع إليها والتّسلّح بما ورد فيها من معلومات. وأنتقلُ الآن لاستعراض بعض أقوال الغربيّين عن اليهود وديانتهم:
١- قال هانس كينج مثلًا إنّ اليهود هم أكثر أصحاب الأديان السّماويّة علمانيّة.
٢- وقال شلومو ساند إنّ اليهودَ لم يكونوا في يومٍ من الأيّامِ قوميّة واحدة، أو شعبًا واحدًا، كما أنّهم لا ينتسبون إلى عرق واحد.
٣- ونقل إسرائيل شاحاك عن موسى بن ميمون قوله إنّ على اليهوديّ أن يبصق ثلاث مرّات إذا مرّ على كنيسة.
٤- وأرجع ألي جوتس سبب تقتيل هتلر اليهود إلى حقد الألمان على اجتهاد اليهود وبراعتهم.
٥- ويري أفي بريمور أنّ معاداة السّاميّة غير موجودة في ألمانيا.
٦- وقال رالف رويت إنّ هتلر كان في البداية صديقًا لليهود، قبل أن ينقلب عليهم.
٧- ولاحظتُ ما يُشبه التّسونامي في الكتابات اليهوديّة عن الحقبة النّازيّة. وفي مقابل هذا فهناك ندرة ملحوظة في الكتابات عن كبار الفلاسفة اليهود: فيلون الأسكندريّ، وابن ميمون، وإسبينوزا.
٨- كتبَ مارك كوهين عَنِ العصرِ الذّهبيّ للعلاقاتِ الإسلاميّة-اليهوديّة.
٩- وكتبَ يوهان (أو يوحنّا) ماير عَنِ القبّالة اليهوديّة.
١٠- وكتبَ برنهارد لانج كتابًا بعنوان استفزازيّ: «المسيح الكلب».
١١- وكتب يوليوس شوبس سيرة شخصيّة بعنوان: «طريقي بوصفي يهوديًّا ألمانيّا».
١٢- ونشرت دارُ «أولمس» كتابًا عن «شتيفان تسفايج وأوروبّا».
١٣- وكتبَ ماير كايزرلنج عَنِ «النّساء اليهوديّات في التّاريخ والأدب والفنّ».
١٤- ونشرت دار «أولمس» كتابًا مهمًّا عن «اليهود السّفارديم».
١٥- وألّف المؤرّخُ اليهوديّ الشّهير موريتس شتاينشنايدر كتابًا عن «أدب اليهود العربيّ».
١٦- وأعادت دار «أولمس» نشر كتاب مهمّ عن موسى بن ميمون.
١٧- ونشر إيمانويل لوڤ كتابًا بعنوان استفزازيّ: «نباتات اليهود».
١٨- وكتبَ ليوبولد لوكاس دراسةً شائقة عن «تاريخِ اليهود في القرنِ الرّابع الميلاديّ».
١٩- وألّف تيودور ليسينج كتابًا عن «كراهية اليهودي نفسه».
٢٠- ونشر كبير نقّاد الأدب في ألمانيا اليهوديُّ مارسيل رايخ رانيسكي سيرة حياته الشّخصيّة.
٢١- وعالجَ يورجن هواجن مويلر الآثار النّفسيّة للحقبة الهتلريّة، على الضّحايا والمجرمين.
٢٢- وانتقدَ مارك برافرمان صمتَ المسيحيّينَ على جرائم الإسرائيليّينَ.
٢٣- ونشر فولكر أولريخ الجزء الأوّل من عمله الضّخم عن حياة هتلر.
٢٤- وعقد دافيد وايمان محاكمة للولآيات المتّحدة الأمريكيّة، لأنّها لم تفتح أبوابها لهجرة اليهود الّذين نجوا من مذابح هتلر.
٢٥- وكتبَ راؤل هيلبرج عن «إبادة اليهود الأوروبيّين».
٢٦- ونشرت دار «كولهامر» مجلّدًا ضخمًا عَنِ الدّيانة اليهوديّة بقلم جوينتر ماير وآخرين. وبعد.
فهذا إسهام متواضع لاستعراض بعضِ كتابات الغربيّين عن الدّيانة اليهوديّة واليهود، وحثّ للقارئ على سدّ الفجوة الهائلة في معارفه عن الآخر، ودعوة إلى الاطّلاع على كتابات الغربيّين عن اليهود وتاريخهم، لتكون صورتنا عنهم أكثر واقعيّة. العلم قوّة. وحضارة عصرنا لا تعترفُ بالجهلة الضّعفاء. الجاهل يشعر بالعجز عن صدّ ما يتعرض له من هجمات. وكلّما زادت معارفنا، زادت قدرتنا على التّعامل مع مشكلاتِ العصر، وتحدّيات المستقبل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد