بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال الله تعالى: }وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِين.{
سؤال: قوله تعالى: }وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا{، من المعلوم أن قوم موسى عليه السلام لما كانوا معه كانوا لتوهم خرجوا من أرض مصر وعبودية فرعون، فكان يصفهم الله عز وجل بأنه جعلهم ملوكًا؟ فما تفسير هذه الآية؟
قال محمد رشيد رضا (1354هـ): *لَوْلَا مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ [أي فيما يتعلق بقوله: }وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا{] لَكَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ مَوْضِعَ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ الضُّعَفَاءِ فِي فَهْمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ بَنَى إسرائيل لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُلُوكٌ عَلَى عَهْدِ مُوسَى.*
وقد ذَكَرَ الإمام ابن الجوزي (597هـ) في تفسيره (زاد المسير في علم التفسير)، أن في تفسيرها مما جاء عن بعض السلف ثمانية أقوال، وهي: أحدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجةً وخادمًا. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قال عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول مَن ملك الخدم، ومن اتخذ خادمًا فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحرارًا يملك الإِنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدّي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي.*
ولعل أقرب التفسيرات -والله أعلم- لمعنى الآية الكريمة يمكن حصره فيما يأتي:
أولًا: أن يكون ذلك امتنانًا من الله عليهم بنعمته السابقة التي يعرفون حين خاطبهم، بأن جعل من آبائهم من كان ملكًا، كيوسف عليهم السلام. قال الجرجاني (471هـ): }*وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا{]: باستيلاء يوسف على مصر*. وفخر الدين الرازي (606هـ): *أَنَّهُ كَانَ فِي أَسْلَافِهِمْ وَأَخْلَافِهِمْ مُلُوكٌ وَعُظَمَاءُ، وَقَدْ يُقَالُ فِيمَنْ حَصَلَ فِيهِمْ مُلُوكٌ: أَنْتُمْ مُلُوكٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ.*
ثانيًا: أن يكون ذلك نبوءة من الله وامتنانًا عليهم بنعمته التي كشفها لها، بأنه سيجعل منهم الملوك والأمراء، حيث حثهم وشجعهم على الدخول إلى الأرض المقدسة وأنبأهم بما يبعث في نفوسهم الطمأنينة. قال تعالى: }وإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ{. وكما قال الله تعالى في موضعٍ آخر: }وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.{
ثالثًا: أن يكون الملك هنا بمعنى ملك النفس والتحرر من العبوديَّة، قال الإمام أبو جعفر الطبري (310هـ): }*وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا{، يملك الرجل منكم نفسَه وأهلَه ومالَه.*
قلتُ: ولعله الأقرب، والله أعلم، وهو وجيهٌ، ولهذا امتن الله على بني إسرائيل أنه حررهم كلهم، وجعلهم أحرارًا لا يستعبدهم أحد بعد أن أخرجهم من عبودية وملك فرعون.
فإنه في المجتمعات القديمة، كانت العبودية حاصلة في كثير من الناس، وكان الذين يملكون أمر أنفسهم الأقل، يقول باري شتراوس، المؤرخ الأمريكي والباحث في تاريخ العصور الكلاسيكية: *أدت العبودية دورًا محوريًا في اقتصادات كل من اليونان وروما. فقد عاش الملايين من البشر، رجالًا ونساء، وماتوا في المناطق القديمة المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وهم مكبلون بأغلالهم. وتكيف معظمهم صاغرين مـع واقع الاستعباد الذي بات أمرًا مألوفًا في نظرهم*. فمثلًا: وكانت أثنيا في اليونان تتكون من: (١٦٠) ألف مواطن، فقط (٤٠) ألف لهم الحق في المشاركة في الحكم الديمقراطي، و(١٥٠) ألف عبد لا حق له، و(٤٠) ألف مقيم محروم من المواطنة. وكانت الاستعباد ممكنًا لأمم كاملة بناء على نظرة عنصرية، فمثلًا يقول يوربيديس، الأديب يوناني، الذي توفي في مقدونيا سنة (406 ق.م): *إنَّه من الحقِّ والطبيعيِّ أن يحكم الإغريقُ البرابرةَ [كل الشعوب غير اليونانية]، حيث إنَّ البرابرةَ عبيدٌ بالطبيعة، والإغريق أحرارٌ بطبعهم*.
وقد استشهد الفيلسوف اليوناني أرسطو بمقالته هذه منتصرًا لها ومؤيدًا! أما واقع حياة الرومان، فيقول الخوري الجميل: *في أيام قسطنطين [=القرن الرابع الميلادي] كان عدد الرومان الأحرار في روما وحدها ٤٠٠ ألف نسمة، وعدد العبيد مليون*. ومثل استعباد المصريين لجميع بني إسرائيل، في الأمم القديمة، واستعباد الغرب لأمم السود وغيرهم، كما يقول الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو (1755): *إن شعوب أوروبا وقد أفنت سكان أمريكا الأصليين لم يكن أمامها إلا أن تستعبد شعوب إفريقيا، لكي تستخدمها في استصلاح أرجاء أمريكا الشاسعة*. وهكذا.
فالله سبحانه وتعالى امتن على بني إسرائيل بأنه حررهم من العبودية الكاملة لغيره فجعلهم يملكون أمره أنفسهم وحريتهم. قال السدي: *يعني وجعلكم أحرارًا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا، فأخرجكم الله من الذل*. وقال أبو المظفر السمعاني (489هـ): *قَالَ السّديّ -فِي الْمُتَقَدِّمين- مَعْنَاهُ: وجعلكم ملوكا تَمْلِكُونَ أَمر أَنفسكُم، وخلصكم من استعباد فِرْعَوْن*. وقال أبو الليث نصر السمرقندي (المتوفى: 373هـ): }*وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا{، يعني: بعد العبودية لفرعون*. وقال تاج القراء أبو القاسم برهان الدين الكرماني (505هـ): *ملكوا أنفسهم من استعباد القبط. العجيب: أحرارًا بلغةِ هذيل*. يعني أن كلمة (ملوكًا) تعني: أحرارًا بلغة هذيل وكنانة. وقال أبو القاسم الزمخشري (538هـ): *كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم اللَّه، فسمى إنقاذهم ملكًا*. وقال الشوكاني (1250هـ): *قِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَلِكِ: أنهم ملكوا أَمْرَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَمْلُوكِينَ لِفِرْعَوْنَ، فَهُمْ جَمِيعًا مُلُوكٌ بِهَذَا الْمَعْنَى*.
وفي كلامٍ جدير بالتأمل، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: *مَنْ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ حَقَّ الْفَهْمُ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ أُولَئِكَ الْمُخَاطَبِينَ رُؤَسَاءً لِلْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ يَسُوسُونَهَا وَيَحْكُمُونَ بَيْنَهَا، وَلَا أَنَّهُ جَعَلَ بَعْضَهُمْ مُلُوكًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: }وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا{ وَلَمْ يَقُلْ: وَجَعَلَ فِيكُمْ مُلُوكًا، كَمَا قَالَ: (جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) فَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَارُوا مُلُوكًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِـ )كُلٍّ( الْمَجْمُوعُ لَا الْجَمِيعُ؛ أَيْ إِنَّ مُعْظَمَ رِجَالِ الشَّعْبِ صَارُوا مُلُوكًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَبِيدًا لِلْقِبْطِ، بَلْ مَعْنَى الْمَلِكِ هُنَا الْحُرُّ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ أَهْلِهِ، فَهُوَ تَعْظِيمٌ لِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّقِّ وَالِاسْتِعْبَادِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّفْسِيرُ الْمَأْثُورُ* .والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد