التوبة إلى الله تعالى


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ مِن شَهرِ شَعبَانَ، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاءِ:

1- أَهَمِّيَةُ التَّوْبَةِ.

2- عَوَائِقُ التَّوْبَةِ.

3- شُرُوطُ التَّوْبَةِ.

4- مَا يُعِينُ عَلَى التَّوْبَةِ.

الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التذكير بفضائل التوبة، وأهميتها لاسيما فى هذه المواسم من مواسم الخيرات والبركات.

مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:

أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، نقف مع موضوع هو من الأهمية بمكان، يحتاج إليه العبد في كل وقت؛ لا سيما ونحن نعيش فى هذه الأيام الفضليات ومواسم الخير والبركات، ونحن على مشارف استقبال شهر رمضان الكريم.

• فما أحسن حال العبد وهو يستقبل شهر رمضان بتوبة صادقة نصوح لله عز وجل.

• أن يستقبل هذا الموسم العظيم وقد أقلع وتخلى عن ذنوبه ومعاصيه التي لطالما حرمته الكثير من أبواب الخير.

• ‏أن يستقيل هذا الموسم بعهد جديد وصورة جديده لأنه يريد أن يفتح صفحة جديدة مع الله تعالى؛ فلابد أن يسبق ذلك تخلية قبل التحلية.

• ‏يتخلى من الذنوب والمعاصي وذلك بالتوبة إلى الله تعالى، ثم يكون بإذن الله تعالى أهلًا لكى يتحلى بالتقوى والإقبال عليه بالطاعات والقربات.

إنها التوبة يا عباد الله واجب الوقت؛ بل واجب العمر كله؛ فقد أمرنا الله تعالى بها في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .

وقال تعالى: {وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

والتوبة صفة لازمة من صفات عباد الله المتقين المسارعين إلى الجنة.

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

ثم بين جزاؤهم ومآلهم: {أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}

وأما إذا أجل العبد التوبة وماطل وأخَّرَها فإن في ذلك خطر عظيم من تراكم الران على القلب.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكتةٌ سوداءُ في قلبِه، فإن تاب، ونزع، واستغفر صقَل منها، وإن زاد زادت حتَّى يُغلَّفَ بها قلبُه فذلك الرَّانُ الَّذي ذكر اللهُ في كتابِه": {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم}[رواه الترمذي، وابن ماجه .[

فقد دل الحديث على أنَّ التَّوبةَ تُطهِّرُ القلبَ وتَجْلوه مِن أثرِ الذُّنوبِ والمعاصي.

وترجع أهمية التوبة إلى:

1- أنها دأب الأنبياء والمرسلين.

فهذا آدم عليه السلام عندما أكل هو وزوجه من الشجرة:

قال تعالى: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ فكان الرد: {فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

وهذا موسى عليه السلام عندما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه فقضى عليه.

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وخاطب الأنبياء والمرسلون أقوامهم بالتوبة.

فهذا هود عليه السلام يخاطب قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}. 

وخاطب صالح عليه السلام قومه: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}

وخاطب شعيب عليه السلام قومه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}.

وهذا قدوتنا وأسوتنا ونبينا صلى الله عليه وسلم يعلمنا التوبة، ويحثنا عليها بالقول، والفعل.

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "واللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً".

وفي صحيح مسلم عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّه لَيُغانُ على قَلبي، وإنِّي لَأستَغفِرُ اللهَ في كُلِّ يَومٍ مِئةَ مَرَّةٍ"

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "كنا نعد للنبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد: *رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم*.

2- وكفى بفضل التوبة والتائبين شرفًا فرحُ الرب بهم فرحًا شديدًا.

ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوبُ إليه من أحدِكم كان على راحِلَته بأرضِ فلاةٍ، فانفلَتَت منه وعليها طعامُهُ وشرابُه، فأيِس منها، فأتى شجرةً فاضطجَعَ في ظلِّها وقد أيِس من راحِلَته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عندَه، فأخذ بخِطامها، ثم قال من شدَّةِ الفرح: (اللهم أنت عبدِي وأنا ربُّك)، أخطأ مِن شدَّةِ الفرح".

بل أنه سبحانه وتعالى يبسط يده لعباده المذنبين المقصرين.

ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ اللهَ تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مُسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغرِبِها".

بل وينزل إلى سماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله، وذلك كل ليلة فيقول: "هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من صاحب حاجة فأقضيها له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟".

ووعد عباده التائبين بقبول توبتهم ومغفرة ذنوبهم.

كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}.

وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}.

وتأمل: سعة وعِظَم شأن التوبة؛ كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

وفي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَضْحكُ اللَّهُ عز وجل إلى رَجُلَيْنِ يقْتُلُ أحدُهُمَا الآخَرَ يدْخُلاَنِ الجَنَّة، يُقَاتِلُ هَذَا في سبيلِ اللَّهِ فيُقْتل، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى الْقَاتِلِ فَيسْلِمُ فيستشهدُ".

وها هو عبدٌ من عباد الله؛ كما يُروَى في بعض الإسرائيليات: أطاع الله عشرين سنة، وعصاه عشرين، فنظر إلى وجهه في المرآة، وقد كبرت سنه وشاب شعر رأسه، فقال: يا رب أطعتك عشرين وعصيتك عشرين، فهل إذا جئتك قبلتني؟ فسمع مناديًا يقول له: *أطعتنا فقرّبناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك*.

قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.

عَوَائِقُ التَّوْبَةِ:

واعلم يا عبدالله، أن للتوبة عوائق وحواجز تحيل بينك وبينها؛ فكن على حذر منها؛ ومن هذه العوائق:

1- عدم إدراك خطورة الإصرار على الذنب الواحد.

فإن الإصرار على الذنب الواحد: أعظم وأخطر من كثرة الأخطاء مع التوبة؛ فهذا رجل يقتل مائة نفس، ومع ذلك قبل الله تعالى توبته عندما صدق وأخلص فى توبته.

وإن من أخطر عوائق التوبة: عدم إدراك خطورة الذنوب، فإنها مفتاح كل شر وبلاء؛ فما الذي أهلك الأمم السابقة؟ أليست الذنوب والمعاصي؛ كما قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

وتأمل: كيف دخلت امرأة النار بسبب ذنب واحد؟ وتأمل أيضًا: أحوال الناس عندما يوضع الميزان فربما رجحت كفة السيئات بسبب ذنب واحد.

2- ومن عوائق التوبة: الشيطان.

فإن كل معصية وراءها الشيطان؛ لأنه يدعو إلى الباطل .

قال الله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}.

وقال تعالى عنه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم}.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

ويكفيك لتعلم خطورة الأمر أن تقرأ هذه الآية الكريمة التى تبين لك مكر وخديعة الشيطان.

قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. 

واسمع إلى هذه الأخبار والتي تبين عداوة الشيطان:

قال الله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.

وقال تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ}. 

وقال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}.

3- ومن عوائق التوبة أيضا: الرفقة السيئة.

قال الله تعالى في مشهد من مشاهد يوم القيامة: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}؛ فانظر كيف كانت الرفقة السيئة؟ وكيف كان تأثيرها: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}.

ولنا أيضا في أبي طالب عبرة أيضا وكيف كان تأثير الصحبة السيئة في عدم توبته، وإسلامه.؟!

4- ومنها: الانشغال بالدنيا والتسويف، وطول الأمل.

فإن أنفاس العمر معدودة محدودة.

قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.

والموت يأتي بغتة وحينئذ لا تنفع التوبة.

قال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}.

وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيهِم وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوتُ قَالَ إِنِّي تُبتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُم كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعتَدْنَا لَهُم عَذَابًا أَلِيمًا}.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله يقبل تَوْبَةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ" [رواه أحمد، والترمذي بسند حسن].

أى مالم تصل الروح للحلقوم، فعندها لا تنفع التوبة، وتكون الحسرة والندامة على التفريط والتضييع، فكيف سيلاقي العبد ربه بهذه الذنوب والمعاصي وقد فتح له بابا للتوبة عرضه من المغرب إلى المشرق.؟!

 

الخطبة الثانية: شُرُوطُ التَّوْبَةِ، ومَا يُعِينُ عَلَيْهَا.

فإن للتوبة شروطًا لابد منها حتى تكون صحيحة مقبولة؛ وهي:

1- شرط حالي وهو: الإقلاع عن المعصية.

فلا تتصور صحة التوبة مع الإقامة على المعصية حال التوبة.

2- شرط ماضي وهو: الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي.

فَعَن ابنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "النّدَمُ تَوبَةٌ"[رَوَاه أَحمَدُ، وَابنُ مَاجَه].

فلا تتصور التوبة إلا من نادم حزين آسف على ما بدر منه من المعاصي؛ ولذلك فلا يُعَدَّ نادمًا من يتحدثُ بمعاصيه السابقة، ويفتخرُ بذلك، ويتباهى بها.!!

3- شرط مستقبلي وهو: العزم على عدم العودة إلى الذنب.

وَهَذِهِ هِيَ التَّوبَةُ النَّصُوحُ، الَّتِي أَمَرَ اللَّه تعالى بِهَا عِبَادَهُ؛ فلا تصح التوبة من عبد ينوي الرجوع إلى الذنب بعد التوبة، وإنما عليه أن يتوب من الذنب وهو يحدث نفسه ألا يعود إليه في المستقبل.

سُئِلَ عُمَرُ بنُ الخَطّابِ رضي الله عنه، عَنِ التّوبَةِ النّصُوحِ؟ فَقَالَ: (التّوبَةُ النّصُوحُ أَن يَتُوبَ الرّجُلُ مِنَ العَمَلِ السَّيِّئِ، ثُمّ لَا يَعُودَ إِلَيهِ أَبَدًا).

وَقَالَ الحَسَنُ البَصرِيُّ رحمه الله: (أَن يَكُونَ العَبدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى، مُجمِعًا عَلَى أَن لَا يَعُودَ فِيهِ).

4- شرط رابع إذا كان الذنب متعلقًا بحق من حقوق العباد وهو: ردُّ المظالم إلى أهلها.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: "من كانت عنده مظلمة لأحد من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".

مَا يُعِينُ عَلَى التَّوْبَةِ.

1- فعل الحسنات المكفرة للسيئات.

في الصحيحين عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلِي هَذَا؟ قَالَ: "لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ".

وعن أبي ذَرٍّ، ومُعاذِ بْنِ جبلٍ رضيَ اللَّه عنهما، عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ"[رواهُ التِّرْمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ].

وهذا رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا عَمِلَ الذُّنُوبَ كُلَّهَا فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكْ حَاجَةً وَلَا دَاجَةً إِلَّا أَتَاهَا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟) فقَال النبي صلى الله عليه وسلم: "فَهَلْ أَسْلَمْتَ؟" قَالَ: (أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ) قَالَ: "نَعَمْ تَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ، وَتَتْرُكُ السَّيِّئَاتِ؛ فَيَجْعَلُهُنَّ اللهُ لَكَ خَيْرَاتٍ كُلَّهُنَّ" قَالَ: (وَغَدَرَاتِي وَفَجَرَاتِي؟) قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: (اللهُ أَكْبَرُ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ حَتَّى تَوَارَى).

2- مفارقة مكان المعصية وأصحاب السوء واختيار الرفقة الصالحة.

قال الله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}

ولنا في قاتل المائة عبرة وعظة.

3- كثرة تذكر الموت، والدار الآخرة.

فكلما تذكر العبد أنه سيموت، وأنه سيقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى، وأنه سيحاسبه؛ فإن ذلك أقوى رادع له على ترك المعصية، وسرعة التوبة منها.

فأما تعجيل التوبة: فإن العبد إذا استقر في قلبه الإيمان باليوم الآخر فإنه سيتعجل فى الخلاص من أوزاره؛ لأنه يعلم أنه في أي لحظة سيلقى الله جل في علاه؛ قال أحد السلف: (من أكثر من ذكر الموت أكرِمَ بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة في القلب، ونشاط في العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل عن العبادة).

وتأمل: قصة المرأة الغامدية؛ كما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، تأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وهي حُبلى من الزنا ليقيم عليها الحد لتطهيرها من هذه الفاحشة العظيمة، ثم يُمْهِلُهَا حتى تضع، وتأتيه، ثم يُمْهِلُهَا حتى تفطم رضيعها، وتأتيه، فيقيم عليها الحد؛ ويقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ تَابَتْ تَوْبةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْن سبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لوسعتهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنفْسهَا للَّهِ عز وجل".

وبمثله فعل ماعز رضي الله عنه: يأتي تائبًا منيبًا معترفًا دون أن يُكرهه أحدٌ، يأتي مُقِرًّا بذنبه يُريد أن يتخلَّص منه في الدنيا قبل حساب الآخرة؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: (أَصَبْتُ حَدًّا فَطَهِّرْنِي) فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إقامة الحدِّ عليه، ورجمه بالحجارة: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ".

ما الذي دفعهم إلى تعجيل التوبة وطلب إقامة الحد.؟! إنه الإيمان باليوم الآخر، وتذكر الآخرة، وعلمهم بأنهم ملاقوا ربهم؛ فإذا تذكر المغتاب بأنه سيُحَاسَبُ ويُؤخَذُ من حسناته، وإذا تذكر الظالم أنه سيُقتَصُّ منه، وإذا تذكر آكل أموال الناس بالباطل أنه يأكل في بطنه نارًا وسيصلى سعيرًا، وإذا تذكر الغادر أن له لواء يُنصَبُ يوم القيامة، وإذا تذكر الزاني أن له فُرنًا يوم القيامة للزناة يتصايحون فيه، وإذا علم من يستمع إلى الغناء أنه سيُصَبُّ في أذنيه الآنك يوم القيامة؛ لا شك أن ذلك أقوى باعث لتعجيل التوبة، والرجوع إلى الله تعالى.

نسأل الله العظيم أن يتوب علينا أجمعين، وأن يغفر لنا ما أسررنا وما أعلنا، وما قدمنا وما أخرنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply