بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد خلق الله تعالى الكون وأودع فيه أسراره وحكمته. فأبدع وأعجز ببديع خلقه وإتقان صنعته. وخلق الإنسان وأحسن صورته وجعله خليفته في الأرض، فأفسد فيها وسفك الدماء وعاث فسادًا في الأرض، فعاشت البشرية دهور وسنين في ظلامٍ وجهل. وكان الناس لا يميزون الطيب من الخبيث، ولا المعروف من المنكر، ولا الجميل من القبيح. فانتشر الفساد والزنا والقتل والهرج والمرج. وكان الناس يعتدون على أموال غيرهم وأعراضهم، ويقتلون الضعفاء والعزل، ويأسرون الأحرار دون حق ويغتصبون النساء ويشربون الخمر ويلعبون القمار والميسر. فكانت الأرض مملوءة بالظلم والقهر، وكانت البشرية تعيش في ظلام دامس. يأكل فيها القوي الضعيف. ولم يكن الناس يراعون حقوق بعضهم. بل يعيشون كالوحوش الضارية الفتاكة التي لا ترحم. فكانت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة. فبعث الله نبي الرحمة، محمد صلى الله عليه وسلم، فنشر الإسلام. ونظف الأرض من دناستها وأذاها. وجاهد في الله حق جهاده، وتعذب وتعب وبذل نفسه وحياته لنشر الدعوة. حتى دخل الإسلام كل بلد، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجا. وبدأ الناس يراعون حقوق بعضهم، وانتشر العدل والسلام والإخاء، وتركوا الظلم والقهر والزنا والخمر والميسر. وأشرقت الأرض بنور ربها. وأصبحت تلك الوحوش الضارية فرسان الإسلام ونبلائه. فسبحان من تتجلى قدرته في عباده، وفي تغيير أحوالهم وإصلاح نفوسهم. إنها لدعوة بناءة وإصلاح وتهذيب لتلك النفوس التي استنارت بنور القرآن وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والمستمع لهذه القصة التاريخية يستحضر قول الله عز وجل: }وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا{[i]. فهو النور الهادي البديع، الذي يصلح كلامه القلوب ويجلِّيها، ويهذب النفوس ويزكِّيها، ويجعل من الحفاة العراة أسيادًا للأرض وملوكًا. وما هذا إلا بقوة الدين الحق، دين الإسلام والهدى والنور. قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا{[ii]. وقال: }فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{[iii].
فهو نور ليس كأي نور في الدنيا. إنه نور رباني لا يغلبه نور أو يطغى عليه. نور موجود في كل مكان... ولكن لا يراه كل الأنام. لا يراه إلا من اختاره الله وحباه بالإيمان؛ فهذا هو السعيد، وما أقل السعداء الذين فازوا به. فمعظم الناس أهملوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتكبروا عليه وولوا للهوهم ولعبهم، تاركين وراءهم تلك الأنوار الربانية، واختاروا العيش في ظلام الدنيا ودناستها ودناءتها؛ فصاروا كالموتى. قال تعالى: }أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[iv].
وقال عن قلة المهتدين: }وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ{[v]. فشبه الله تعالى الضلال بالظلام، وما أبلغه من تشبيه. فها هم المظلمون يتخبطون في غياهب الكفر والضلال. فمنهم من قتل نفسه، ومنهم من شوه خلقته وجعلها تشبه مرأي الشيطان، ومنهم من بدل جنسه، ومنهم من عبد الحجارة والبقر والفئران. وغيرها من الضلالات.
فأصبحوا كالعُمي الذين لا يرون الحق، والصم الذين لا يسمعونه، والبكم الذين لا ينطقون به.
قال تعالى: }وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{[vi]. ولا تجدهم بعد ذلك إلا أتعس الناس بتلك المتاهات. فهم كمن يمشي في أنفاق تحت الأرض وليس معه إلا القليل من الضوء، فيدخل من نفق إلى آخر ومن متاهة إلى أخرى ولا يستطيع الخروج منها ولا أن يجد المنفذ، وذلك لأنه رفض أن يستمع لنبي الرحمة الذي دله على المنفذ والمخرج للنور والهداية والنجاة. وما هذا إلا لتكبره وتأنفه من أن يتبع عربي أمِّي من الصحراء. وهو لا يدري أن هذا الأمي صلوات الله وسلامه عليه هو الذي علَّم البشرية أصول العلم وأنوار الحق وآداب الإسلام ونشر الخير في الدنيا.
ففتح الله له بلاد العرب والفرس والشام، وأخضع له ملوك الأرض وأمرائها. فيا للخسران لمن تكبر عليه واستحقره وولى عنه. لقد خسر خسرانًا مبينًا، فأعماه الله لتكبره ذلك وتركه في غيه وضلاله يتخبط بين أوجاع الدنيا ومتاهاتها. واتبع هواه ولعبه وفجوره في فتنة الدنيا وغيها. فخاب وتاه عن الطريق المستقيم.
قال تعالى: }أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ{[vii].
وقال: }وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{[viii]. وذلك لعلمه بالحق وجحده له. فلم يعد قلبه يقبل الحق عقابًا له على تكبره وكفره.
فالحمد لله الذي وفقنا لسماع الحق وقبوله، ولأتباع نبيه. والحمد لله الذي أشرقت بنوره السماوات والأرض ومتعنا بنوره فيهما. وإياه نسأل أن يثبتا على الحق والنور المبين حتى الموت، وأن نلقاه وهو راضٍ عنا وضاحكٌ إلينا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد