التنطع في الدين خطر في الدنيا وذل في الآخرة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إن التنطع نوع من التشدد والتعمق في الدين، وهو أيضًا نوع من الغلو والتعصب في الدنيا، ومعناه هو التدخل في أمور لا تعنيه، مثل من يسأل أسئلة تخص الناس ولا يحبون الإجابة عنها، مثل من يحاسب الناس في أمر دينهم، فهذا تنطع لأنه خارج عن مبدأ الدعوة إلى الله والنصح بالوعظ.

فنحن أمرنا أن نحاسب أنفسنا وليس بمحاسبة غيرنا، فهناك من يحكم على الناس بالجنة والنار وهم لا يزالون على قيد الحياة، أو يحكم عليهم بالرياء والنفاق أو الإخلاص. فهذا تنطع وهو أقرب للتشدد في الدين.

وأما أن تسأل شخصًا هل قام الليل أم لا؟ هل تصدق أم لا؟ هل صام التطوع أم لا؟ هل عصى الله من قبل أم لا؟ وأي معصية اقترفها؟ وهي أسئلة لها علاقة بالنوافل أو أسئلة متعلقة بما سبق من المعاصي، فلا بأس أن تُذكره بالفرائض أو أن تنصحه إن رأيته على ذنب، أما أنك لا تراه وتسأله هل تفعل كذا وكذا؟ فهذا تنطعٌ وهو أقرب للتعمق في الدين. فلا تفتح له بابًا للرياء ولا تفتح له بابًا للمجاهرة بالمعصية ولا تفتح على نفسك بابًا للتنطع في الدين.

وأما من جانب الدنيا كمن يمدح شخصًا بما فيه أكثر من اللازم، فهذه تُعد مبالغة في التعظيم، خصوصًا إن كانت بحضور الناس وهو شاهد بينهم، فهذا تنطعٌ وهو أقرب للغلو، وهو أن تكشف حقائقه المثيرة للناس وهو قد لا يحب ذلك، أو أن تسألهم عن أجرتهم في العمل... إلخ، وأن تتدخل في حياتهم وهم لا يحبون ذلك، كمن يُدخل أنفه في كل شيء ويبدأ في طرح أفكاره ورأيه، كمن يقول لهم افعلوا كذا وكذا في أمور تخص دنياهم وهم لم يطالبوه بنصحهم بل تدخل من تلقاء نفسه. فهذا تنطعٌ وهو أقرب للغلو في الأشخاص، فتجده حتى وإن قاموا بسبه وإهانته لا يترك هذا الصنيع منه بل يواصل مسيرة حياته في ضياعها خلف حياة الناس وشؤونهم والله المستعان.

وأما عن التنطع الذي هو أقرب للتعصب فهو أن تدافع عن شخص وهو مذنب وأنت تعلم به أو مخطئ في حق شخص ما، ودفاعك عنه هو نصر للباطل وكأنك لا تعترف بالخطأ، فتبحث عن طمس الحقيقة بسبب حُبك للشخص ذاك، وهذا فيه خطوة للتقديس عفانا الله منه وإياكم.

قال العلّامة ابن القيم رحمه الله (التنطع والتشدق والوسوسة في إخراج الحروف ليس من سُنته) إغاثة اللهفان الجزء الأول ص (148)، أي ليس من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إن المتشدق هو "المستهزئ بالناس".

وأما عن التنطع مع الأنبياء والرسل عليهم السلام أو الصحابة رضي الله عنهم أو العلماء الربانيين، فهو بمعنى تفضيل أحد على الآخر وهم في وصف واحد ومستوى واحد، ولم يثبت الشرع به كتفضيل نبي على نبي آخر أو تفضيل صحابي على صحابي آخر، إلا إذا ثبت النص بذلك فلا بأس، مثل تفضيل أبو بكر رضي الله عنه عن باقي الصحابة وغيره، فهذا جائز.

ومنه أيضًا تفضيل عالم على عالم آخر وهما من الثقات، كمن يُفضل الإمام البخاري على الإمام مالك رحمهما الله... إلخ. فهذا تنطعٌ في الدين وهو أقرب للتشدد، ومنه ما هو أقرب للتعصب، مثل تفضيل أحد الأبناء على البقية بين العطية والاهتمام، فهذا قد يزرع بذور التعصب في قلوبهم وتنشأ الأحقاد بينهم إلى غير ذلك.

ومنه أيضًا تفضيل أحد الطلبة في العلم على البقية بالهدايا وغيرها وهم في مستوى واحد، هذا كله تنطعٌ في الدنيا.

وقد قال الشيخ الخطابي (ومن التنطع الامتناع من المباح مطلقًا كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز ومن لبس الكتان والقطن ولا يلبس إلا الصوف ويمتنع من نكاح النساء ويظن أن هذا من الزهد المستحب) كتاب بدع للطهطاوي ص (97). وهذا تنطعٌ هو أقرب للتشدد، بل هذا طريق له.

ومن التنطع أيضًا هو بما يُسمى الجفاء، وقد قيل إن الجفاء هو مناداة الوالد باسمه المجرد دون قول له "يا أبي"، وهو قياس للمعلم والشيخ والإمام والأم والخال والعم والخالة والعمة والجدة والجد وكل من له دور في المجتمع... إلخ.

فمناداتهم بأسمائهم المجردة دون قول له "يا شيخ أو يا أستاذ أو يا عم... إلخ"، فهذا جفاء في الدين وهو تنطعٌ من باب الاستهزاء بالناس ومكانتهم في المجتمع، وهذا يُعد "تشدقٌ بالكلام" فتسقط هيبة التوقير والاحترام من قائمة الحياء. ومعنى الجفاء عند أهل اللغة يقولون "إن أهله قد تركوا الوفاء".

ومن الجفاء في القرآن الكريم هو عدم قراءته والعمل به أو سماعه ومدارسته، خصوصًا من ترك الأصل الأول فيه وهو التوحيد والدعوة إليه.

وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يُصلي علي)) ضعيف الجامع.

وهناك نوع من الجفاء أيضًا وهو الرجل يتصدق وهو لم يدفع حقوق عماله أو ميراث إخوته أو لم يسدد ديونه بعد... إلخ.

قال صلى الله عليه وسلم ((... والبذاء من الجفاء والجفاء في النار)) رواه أحمد وغيره. والبذاء عند أهل العلم هي بمعنى "الكلام الفاحش"، وهي تُصنف في قائمة التعصب، لأن التعصب هو طريقها. والبذاء هنا بأن تكون سيء الخُلق مع من كان لك عونًا ومساندًا في الحياة.

وأخطار هذا التنطع في الدنيا هي مبادئ العنف من الطرف الآخر، ويزداد النزاع بالمعاملة بالمثل. والتنطع هو أقرب للتصوف، بل هو بابه الرئيسي. وأما عن مذلة أصحاب هذا التنطع يوم القيامة فهي أن كل من ساندته في الباطل سيتركونك وحيدًا تُصارع ذنوبك فيها، لا يقفون معك ولا يُساندونك ولا يزيدونك حسنة واحدة، فهذه هي أكبر خسارة للمسلم ومذلة ليس لها مثيل. فلو سرت في طريق الحق لوجدت فضل الله عليك في الدنيا والآخرة.

وأما عن الفرق بين التنطع والجفاء، فإن التنطع هو المبالغة في الرأي، وأما الجفاء فهو التقصير في حق الغير، فالتنطع مذموم والجفاء كذلك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply