بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فاتّقوا الله عباد الله، فإنَّ من اتقى الله وقاه، وأرشده وهداه، واعانه على أمور دينه ودنياه. {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم}. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا}.
معاشر المؤمنين الكرام: في أعقاب معركة اليرموك الشهيرة وقف ملك الروم يُسائلُ فلولَ جيشهِ المنهزم: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثرَ منهم بكثير، قال: أفلستم أفضل منهم عُدة وعتادًا، قالوا: بلى، قال أفلستم أعرف منهم بفنون الحروب وخططها، قالوا: بلى، قال أفلستم أعرف بالارض ودروبها، قالوا: بلى، قال فما بالكم إذًا تنهزمون؟! فأجابه شيخ من كبرائهم: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويصدقون الحديث ويوفون بالعهد، ويتناصحون فيما بينهم، ويتخلقون بالأخلاق الحسنة.
إذن فهذه السجايا الكريمة والخصال العظيمة، والأخلاق الحسنة. كانت في رأي الأعداء قبل غيرهم: هي سببُ التأييد الإلهي لذلك الجيل المسلم. وهي التي مكنتهم بفضل الله من هزيمة أعداءهم مجتمعين، حتى دانت لهم الأرضُ من مشرقها إلى مغربها، وأتتهم الدنيا وهي راغمة. هذه الخصال الرفيعة والأخلاق الكريمة: هي التي نقلت أسلافنا الكرام تلك النقلة الضخمة، من عتبات اللات والعزى، إلى منازل{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فلمّا أضعنا تلك الخصالِ والسجايا، مُنعَ منا التأييدُ والتمكين. وليت الأمر توقف عند ذلك، ليتهُ توقفَ عند قيامِ الليلِ الذي أضعناه، وصيامِ النهارِ الذي هجرناه، لهان الأمرُ وما هو بهيّن، ولكننا أضعنا ما هو أكبرَ من ذلك بكثير، فعمادُ الدين وركنهِ الركين، أعني بها هذه الصلاةُ المفروضة، أصبحت اليومَ محلّ خلافٍ واستخفاف، وبات الحال قريبًا من وعيد الجبار جلَّ جلاله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}.
وحتى نتصور فداحة الأمرِ وخطورته فلنقربه بمثال. فلو تصورنا أن أحد الوالدين الكريمين مع عِظم حقهِ على ولده، ضلَّ يتواصلُ مع ابنه بالجوالِ عدةَ مراتٍ يوميًا. والابنُ يهملهُ بشكلٍ مُتعمد، يرى ويسمعُ الاتصالَ ولا يجيبُ عليه، فماذا سيقالُ عن هذا الابن؟. إن أقلَّ ما يقال عنه، أنه عاقٌ وجاحدٌ وسيءٌ ولئيم. إذ أنه لا يليقُ به أن يفعلَ هذا بمن انجبهُ وآواه، وعلّمه ورباه.
فما بالك بمن خلقك وعدلك وسواك، وحفظك من كل سوءٍ ورعاك، ما بالك بالذي يرزقك على مدار الساعة واللحظة منذ أن كنت نُطفةً لا تُرى بالعين المجردة، حتى أصبحت على الحال التي أنت فيها الآن. فكلِّ نبضة قلب، وكلِّ حركة مِفصل، وكلِّ شهيقٍ وزفير، وكل طرفةِ عين، وكل خاطرة عقل، فبإذنه تعالى وفضله. (وما بكم من نعمة فمن الله). {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار}.
فإذا كان هذا الإله العظيم، وهو الغني الكبير المتعال يطلبُ منك التواصلَ في اليوم خمس مرات، وهو في كل مرةٍ يناديك: (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح). وانت تُهملُ ذلك مُتعمدًا، وتُعرض عنه قاصدًا. فماذا يقال عنك حينها.
إنها الصلاة يا عباد الله: أولُ ما يُسألُ عنهُ العبدُ حين يلقى الله. والمعنى أيها الحصيف: أنَّ كل ما يعملهُ العبد في دنياه من الصالحات فلن يكون له قيمةٌ إذا لم تقبل منه الصلاة. {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}. فترك الصلاة ليس بالأمر الهين كما يتصورهُ البعض، حتى أنّ النبي ﷺ قد تبرأ ممن تركَ الصلاة، في الحديث الصحيح: "لا تتركِ الصَّلاةَ مُتعمِّدًا، فإنَّهُ مَن تركَ الصَّلاةَ مُتعمِّدًا فقد برِئتْ منهُ ذِمَّةُ اللهِ وذِمَّةُ رسولِهِ".
وقال عليه الصلاة والسلام: العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر.
وفي الحديث الصحيح: "ليس بين الرجلِ والكفرِ والشركِ إلا تركُ الصلاة". وفي محكم التنزيل يقول الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}. وكان الصحابة لا يرون شيئًا من الأعمال تركهُ كفرٌ غير الصلاة.
وثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: (مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَلَا دِينَ لَهُ). أما فاروق الإسلام عمر بن الخطاب فيقول: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. فمن أراد أن يحاسب نفسه صادقا، فليتفقد صلاته، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
إنها الصلاة يا عباد الله: ففي صحيح مسلم أنّ المصطفى ﷺ قال: "ما من امرئ مسلمٍ تحضره صلاة مكتوبة، فيُحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله".
إنها الصلاةُ يا عباد الله: عنوانُ الفلاحِ وطريق النجاح، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، وكيفَ لا يفلِحونَ وهم سيَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
إنها الصلاةُ يا عبادَ اللهِ: أحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى، في الحديث الصحيح أنّ الرسولَ ﷺ سُئلَ أي الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ قال: "الصلاةُ على وقتِها".
وقال ﷺ: "استقِيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خيرَ أعمالِكم الصلاةُ". إنها الصلاة يا عباد الله: أُنسُ المسلم وسلواه، ونَعيمُ روحهِ ومُناه، ونورُ قلبهِ وهُداه: في الحديث الصحيح: "وجعلت قُرةُ عيني في الصلاة".
وفي الحديث الصحيح: "الصَّلاةُ نُورٌ" قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "الصَّلاةُ نورٌ": تفيدُ العموم، فهي نورٌ في القلب، ونورٌ في الوجه، ونورٌ في القبر، ونورٌ في الحشر.
إِنَّها الصَّلاةَ يا عباد الله: مَصدَرُ فَلاحِكُم، وبها صَلاحُ أحوالكُم، وَزَكَاءُ أَروَاحِكُم، وَسَعَةُ أَرازَقِكُم، {وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لاَ نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى}.
إنها الصلاة يا عباد الله: قال عنها ابن القيم رحمه الله: «جالبةٌ للرزق، حافظة للصحة، رافعة للأذى، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مذهبةٌ للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن؛ لأنها صلة به عز وجل وعلى قدر صلة العبد بربه، يفتح الله له من الخيرات أبوابها، ويغلق عنه من الشرور أسبابها».
لقد آن الأوان أن نُعيد النظر في أوضاعنا، وأن نصحح مفاهيمنا وأخطاءنا، ونُقوّمَ سلوكنا وتصرفاتِنا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ يَخَـٰفُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأبْصَـٰرُ * لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب}.
معاشر المؤمنين الكرام: خمسُ صلواتٍ مفروضة في اليوم والليلة: كلُّ صلاةٍ منها كفّارةٌ لما بينها والتي قبلها، فأيما عبدٍ أحاطت به خطيئته وأثقلته الذنوب، فليفزع إلى الصلاة، فالخبير العليم يقول: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}، وفي الصحيحين عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنّ رسولَ الله ﷺ دعا بوضوءٍ فلما توضأ قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّثُ فيها نفسهُ غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبه".
إنها الفريضةُ الوحيدة المتكررة التي لا تسقط بحال، والفريضة التي اشتملت كل معاني سائرِ العبادات، ففيها النطقُ بأعظم أركان الإسلام، شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وفيها معنى الحجِّ والعمرة، لأنك تتوجه بها إلى بيت الله الحرام، وفيها معنى الصدقة والزكاة، لأنه اقتطاعٌ من وقتك، والوقتُ أصلٌ في كسب المال، وفيها معنى الصيام، لأنك في أثنائها تدع الطعام والشراب وسائر المفطرات، وفيها ذكرٌ وعاءٌ واستغفار، وفيها السجود والركوع، والتذلل والخضوع، فالصلاة فريضةٌ جامعةٌ أصيلة، ولذلك فهي عمود الدين، وأمُّ العبادات، وخير الأعمال، في الحديث المتفق عليه قال ﷺ: "لَا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ فَيُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَلِيهَا".
ووالله يا عباد الله: إنّ فواتَ صلاةٍ واحدة من الصلوات، كمصيبةِ تلف الأموال والممتلكات، وفَقد الأهلِ والأبناءِ والبنات، ففي الحديث الصحيح قال المصطفى ﷺ: "من فاتتهُ صلاةٌ فكأنما وُترَ أهلهُ وماله". وإنما كانت مُصِيبَةُ أَهلِ النَّارِ وَقَاصِمَةُ ظُهُورِهِم؛ ترك الصلاة، فإِنَّهُم حِينَ يُسأَلُونَ: {مَا سَلَكَكُم في سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلّينَ}، فإذا كان المسلم سيترك الصلاة، وهي ذات الوقت القصير، والعمل اليسير، والفضل الكبير، فبأيِّ عبادة سيلتزم؟ وأيِّ عملٍ صالحٍ سيحافظُ عليه؟. وإذا كانت الصلاة عونًا على طاعة الله، فبأيِّ شيءٍ سيستعينُ تاركُ الصلاة، والله جلَّ في علاه يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
ووالله لو تمكَّنَ حُبُّ الصلاةِ من قلوبنا فلن نجِدَ حلاوةً ألذَّ منها، واسألوا عن ذلك المُوفَّقون، أهلُ التُّقَى والهُدَى، المُعلَّقةِ قلوبُهم بالمساجِدِ، المُبكِّرون إلى الصلوات، المتهيؤون لها بأحسن ما يجدون، المتنافُسون على الصف الأول.
ذكر أبو نعيم الأصبهاني في كتابه *حلية الأولياء* أنّ الربيع بن خثيم رحمه الله بعدما أُصيب بالشلل النصفي، كان يذهب إلى المسجد وهو يمشي بين رجلين يحملانه ويُعينانه حتّى يصل إلى المسجد. فقال له بعض التابعين: *يا أبا يزيد لقد رخّص الله لك، لو صليت في بيتك*، فيجيبه: *إنّه كما تقولون، ولكنّي سمعته ينادي حيَّ على الفلاح، فمن سمعه منكم ينادي حي على الفلاح فليجبه ولو زحفًا ولو حبوًا*.
وحين سئل حاتم الأصم كيف يؤدي صلاته قال رحمه الله: أُكبرُ فأعتبر الجنةَ عن يميني، والنارَ عن شمالي، والصراطَ تحت قدمي، وملكُ الموتِ فوق رأسي، وعينُ الله تنظرني، وأُعِدها آخرَ صلاةٍ في عُمري، وأُتبِعها الإخلاص ما استطعت ثم أسلم، ولا أدري أيقبلها الله مني، أم يقال: اضربوا بها وجهَ صاحبها.
فَاتَّقُوا اللهَ يا عباد الله وَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ العَجزِ وَالكَسَلِ عَنِ الطَّاعَاتِ، وَحَافِظُوا عَلَى هذه الفريضةِ في بيوت الله، وخذوا زينتكم عند كل مسجدٍ وصلاة، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ}.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد