فوائد من درس دلائل الإعجاز 18


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.

الأحد: 20 من صفر 1446هـ الموافق لـ 25 من أغسطس 2024م:

طريقة العلماء في عَرْض الأفكار عِلمٌ، يَتعلَّمُه الطلاب: تتعلَّمُ عِلمَهم، وتتعلَّمُ طريقتَهم في عَرْض عِلمِهم.

العلمُ بابٌ جليلٌ، وطريقةُ عَرْض العلمِ بابٌ جليل، والكاتِب الذي ألَّف لك كتابًا لا بُدَّ أن تدركَ أن قلمَه الذي كَتب به هو نفسُه لسانُه الذي حدَّثك به، وأنه حدَّثك بلسانَيْن: بقلمِه وبلسانه، ومن هنا تبدأ تتشرَّبُ المعرفةَ وتتذوَّقُها، وتَعرِفُ قَدْرَ مَن علَّمونا وكَتَبوا لنا.

عبد القاهر توفِّي 471 هجرية، ولا يزال الناسُ يقرأون كلامَه وينتفعون به، وهذا هو العملُ الصَّالحُ الباقي لهؤلاء العلماء، إن كانوا مخلصين.

لمَّا ذكرَ عبدُ القاهر الوجهَ الفاسدَ في تقدير المحذوف في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ}، ثمَّ بيَّن الوجهَ الصَّحيح، أراد أن يُدقِّق في صحَّة الوجه الصَّحيح، وأن يؤكد سدادَ الإعراب الذي اختاره، فافترض أن صاحبَ الوجه الإعرابي الذي حكم عليه بالفساد سيُورِد اعتراضاتٍ على الوجه الذي اختاره هو.

ليس المهمُّ أن تحفظَ المسألة، المهمُّ أن يكون لديك استعدادٌ للردِّ على كل اعتراضٍ يأتي على هذه المسألة.

لن تكون المسألةُ عندك عِلمًا إلَّا إذا كنتَ قادرًا على أن تَدفعَ كلَّ شُبهةٍ وكلَّ اعتراضٍ يَرِدُ على هذه المسألة.

العلمُ الذي لا تستطيع أن تحمِيَه بعقلك ليس علمًا، وإنَّما العلمُ هو الثابتُ الذي يستطيع عقلُك أن يَدفعَ عنه كلَّ شُبهةٍ تَرِدُ عليه، ولو كانت الشُّبَهُ ظالمة، فإذا كانت الاعتراضاتُ تَرِدُ عليه وتَعْجِزُ عن ردِّها فكأنك لا تَحمِل علمًا.

العلمُ الذي عندي هو العلمُ الذي يَقدِرُ عقلي على حمايته.

قوَّةُ النَّفْس العالِمة في أنها لا تَعُدُّ ما عندها علمًا إلَّا إذا كانت قادرةً على حمايته، تمامًا مثل الأرض والشُّعوب: لا يُعدُّ الذي عندك ثروةً ما لم تكن قادرًا على حمايتها، فإن كانت عندك ثروةٌ وأنت عاجزٌ عن حمايتها فلا ثروةَ لك .

أيُّها البلدُ الغنيُّ، لا بُدَّ أن تكون لك قوَّةٌ تَحمِي ثروتَك، فإذا لم تكن لك قوَّةٌ فلا ثروةَ لك.

مِن أهمِّ الكتب التي أثَّرتْ في نفسي وفي نشأتي العلمية كتابُ «المُطوَّل» لسعد الدِّين التفتازاني، «المُطوَّل» فيه علمٌ جليلٌ جدًّا، وسعدُ الدِّين من الأئمَّة الكبار، ولكنَّ الذي شَغلَني به هو أنه كان يُورِدُ الرأيَ الذي لا يرضاه بأمانةٍ شديدةٍ ودقَّةٍ شديدةٍ، حتى تكونَ - وأنت تقرأ هذا الرأيَ الذي لا يرضاه - على يقينٍ من أنه هو الرأيُ الذي يرضاه، ثمَّ بعد أن يؤكِّدَه ويُثبِّتَه يَجِدُ له منفذًا يَنفُذُ منه فيَهدِمُه؛ فراقني جدًّا، وعَرَفتُ أمانةَ العلم، وعَرَفتُ كيف أن العلمَ يُتابَع بدقَّةٍ شديدة؛ حتى لا تكونَ مِنه مَنافِذُ للاعتراض ودُخول الخطأ.

قيمةُ العلم في تنمية العقل، والله يَرفَعُ الذين أوتوا العلم درجاتٍ لأن عقولَهم أفضل، وإذا هَدمْتَ التعليمَ فأنت لا تَهدِمُ مدرسة، أنت تَهدِمُ الإنسانَ الذي على الأرض، وإذا هَدمْتَ الإنسانَ الذي على الأرض فقد جعلتَ الأرض كلًا مُباحًا لكل طامعٍ فيها؛ لأن الذي يحميها هو الإنسان، وهذا ليس كلامِي، ولا كلامَ حكيمٍ، ولا كلامَ فيلسوفٍ، وإنَّما هو كلامُ التاريخ.

الإنسانُ الذي يعيش على الأرض لن يَحمِيَها إلَّا إذا كان إنسانًا عاقلًا، ويُدرِك معنى وجوده على هذه الأرض.

أنت لم تُوجَدْ على الأرض لتكون «طبَّالًا» لزيدٍ أو لعمرو؛ لأنك وزيدًا وعَمْرًا ذاهبون، وإنما وُجِدتَ على الأرض لتكون حاميًا لها وحارسًا.

أحبُّ القراءة ليس لأجل العلم فحسب، وإن كان العلمُ شيئًا جليلًا جدًّا، وإنَّما أحبُّ القراءةَ لأنها تَصنعُ العقل، ويقيني أن صناعة العقل هي صناعةُ الإنسان، وأن إهمالَ العقل تدميرٌ للإنسان، وأن صناعة الأوطان هي صناعةُ عقولٍ حيَّةٍ تحمي الأوطان.

الذين يزعمون أنهم يقومون على حماية أوطانهم بأي صناعةٍ غيرِ صناعة الإنسان الذي يحميها، قومٌ لا يَدْرُونَ ما يقولون.

تُريد حماية الأوطان اصنع الإنسانَ الذي يحميها، تُريد التقدُّم اصنع الإنسانَ الذي يَصنع التقدُّم، تُريد الرُّقِيَّ والقوَّة اصنع الإنسانَ الذي يصنع الرُّقِيَّ والقوَّة، فإذا كنت مشغولًا بغير الإنسان فأنت مشغولٌ بغير أرضِك.

القَلمُ الذي يَكتب لك صفحةً هو لسانٌ يُحدِّثك عن هذه الصفحة، والآن أنا لا أقرأ كلام عبد القاهر، وإنَّما أسمعُ لسانَ عبد القاهر: هو معنا في مجلسنا، وهو سيِّد هذا المجلس.

إذا وجدتَ كلمةً غامضةً في كتابٍ فقِفْ عندَها، وتأكَّدْ أن هذا الكتابَ في عَرْض هذه الكلمةِ الغامضة يُعلِّم عقلَك، ويُوقِفُك ليزيدَك تنبُّهًا وإيقاظًا، ولذلك كان علماؤنا يقولون: «من أراد أن يتعلَّم فعليه بمسائل الخلاف»؛ لأن مسائل الخلاف فيها: «قيل، وقيل، وقيل»، والعقلُ حين يكونُ بين مسائلَ هناك مَن يُثبِتُها وهناك مَن يَنفِيها، وعليه أن يَعقِلَ وَجهَ مَن أثبتَ، وأن يَعقِلَ وَجهَ مَن نَفَى، وأن يَختار، تكون هذه هي لحظة تربية العقل، ولحظة تعليم العقل، ولحظة تكوين الإنسان الأفضل.

الكلامُ الذي فيه تكوينُ عقلٍ حَظُّه من تكوين العقل أكثرُ بكثيرٍ مِن حظِّه في تكوين المعرفة.

علماؤنا من زمن بعيد حذَّروا من أن تكون المعرفةُ أوسعَ من العقل، وأوجبوا أن يكون العقلُ أوسعَ من المعرفة؛ لأن العقلَ هو الذي يُسيطر على المعرفة، فإذا سيطرت المعرفةُ على العقل دَخلَها الزَّيْغُ والفسادُ والعقلُ لا يَدرِي، فلا بُدَّ أن يكون العقلُ هو المسيطر على المعرفة؛ حتى يَنفِيَ ضَعْفَها ويُقوِّم عِوَجَها.

آيةُ {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ} آيةٌ عجيبةٌ جدًّا، وجُملةٌ مُذهلة، نَعْم؛ فينا رسولُ الله ونحن في المسجد، وفينا رسولُ الله ونحن في المصنع، وفينا رسولُ الله ونحن نَذكُر الله، وفينا رسولُ الله ونحن نَكِذب، ونحن نُفسِد، ونحن نأكل حرامًا، فينا رسولُ الله بسُنَّتِه وشَرْعِه وكتابِه الذي أنزلَه الله عليه.

سقراط وأفلاطون وأرسطو... لا يستطيع أحدٌ أن يُنكِرَ قيمةَ هؤلاء الناس، لأنك حين تُنكِرُ قيمةَ القِمَم لن يسمعَك أحد.

سقراط الذي هو شيخ أفلاطون وأرسطو في نهاية حياته كَتبَ جملةً عجيبة جدًّا؛ قال: «العلمُ مُتَّسعٌ جدًّا، وكلَّما زِدتَ فيه معرفةً زادتْ عندك مساحةُ اتِّساعه، والذي عندي الآن مِن العلم لا يزيد على مَحْو أمِّية الجهل، أنا الآن أعددتُ عقلي لطلب العلم».

مِن فضلِ الله عليَّ أنني طول حياتي لم أُشغَلْ إلَّا بالكِتاب، وزهَّدنِي الله في كلِّ شيء إلَّا في القراءة والكتابة، وهذه حقيقةٌ لا أقولُها لك لكي تَمدحَنِي؛ لأن مدحَك لي لا يساوي ذرَّةً عندي؛ لأني ذاهبٌ إلى ربِّي وسيُحاسبني بما يَعْلَمُه مِن سريرة نفسي، ولن يحاسبَني بمدحِك ولن يؤاخذَني بذمِّك. لماذا قلتُ ذلك؟ لأني عشتُ حياتي كلَّها أقرأ، والآن وأنا مقبلٌ على التسعين أجدُ مسائلَ في العلمِ من الصعوبة بمكانٍ أن أَفهمَها، فأقول: يا رب، كم سنةً أعيشُ حتى لا أجد صعوبةً في مسألةٍ أحاول فَهْمَها، فأذكر كلمة سقراط، وأن كلَّ الذي عاشه، وكلَّ الذي عَلِمَه - ومِن بعضِه وُجِدَ أفلاطون، ومِن بعضِه وُجِدَ أرسطو، اللذان هما أئمَّةُ الفكر - إنَّما تهيَّأ به عقلُه لطلب العلم.

ظَنُّك في فلانٍ أنه عالِمٌ بمقدار جَهْلِك؛ لأنك لو كنتَ عالِمًا لما اعتقدتَ أنه عالِمٌ؛ لأن الكلَّ طالبُ عِلم.

عبارةٌ عجيبةٌ قرأتُها لكنِّي نَسيتُ مصدرَها؛ هي أن أجيالَ الأرض مِن يوم أن نزلَ القرآنُ على رسول الله وهي تأخذ من القرآن؛ كلُّ جِيلٍ يأخذ ما يستطيع، ثم يعود القرآن يوم القيامة إلى ربِّه بِكْرًا كأنه لم يؤخَذْ منه شيء، كلُّ علومنا من القرآن، وعلومُ الأجيال التي قبلَنا من القرآن، وعلومُ الأجيال التي بعدنا إلى يوم القيامة من القرآن، كلٌّ يأخذ منه ثم يعود إلى ربِّه كأنه لم يؤخَذْ منه شيءٌ، وصادفَ قراءتي لهذه العبارة العجيبة أنَّ «زويل» - الله يرحمه - كان يقول إن تقدُّم العِلم في البشرية وما اكتشفه لا يزيد على 5% من أسرار الله في هذا الكون، وإن الأجيال التي ستأتي ستكتشف مزيدًا من أسرار الكون، ثم يعود الكون إلى ربِّه بِكْرًا كأن لم يُكتشف منه شيء.

كلُّ كلمةٍ في المصحف تَفِيضُ عليَّ معنًى جديدًا، وتُغرِقُ عقلي وقلبي بمعنَى غير المعنى الذي أفاضتْ به الكلمةُ التي قبلها.

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.

الأحد: 27 من صفر 1446هـ الموافق لـ 1 من سبتمبر 2024م:

يجب أن تَعلمَ علمًا قاطعًا أن العلماء لا يُعلِّمون العلم فقط، وإنما يصنعون عقولًا، ويُربُّون عقولًا؛ لأن العلمَ في النهاية هو تنميةُ عقل، ويَرفعُ الله الذين أوتوا العلم درجاتٍ لأن عقولَهم أعلى.

المُحِبُّ لقومه هو الذي يَجعل كلَّ هَمِّه ترقيةَ عقول شعبه، ولا يَجعلُ كلَّ هَمِّه ترقيةَ عقول شعبه إلَّا من ارتقى عقلُه بالعلم، فإذا لم يكن عقلُه قد ارتقى بالعلم فلن يُفكِّر في أن يَرتقِيَ بعقول الناس الذين هو منهم بالعلم.

الجنةُ لمن يرتقي بعقول قومه بالعلم، والنَّارُ لمن يَهدِم عقولَ قومه.

الطريقُ الأولُ والأخير لارتقاء عقول الناس بالعلم هو التعليم، ولذلك تَجِدُ المُحِبَّ لقومه هو المُحِبَّ للتعليم، وللارتقاء بالتعليم، وللعناية بالتعليم.

الإنسانُ إذا ارتقى صَنَع كلَّ رُقِيٍّ على أرضه، والإنسانُ الجاهلُ لن يصنع شيئًا على أرضه، وهذه مسائلُ أساسياتٌ معروفةٌ من التاريخ.

أوَّل نِعمة أنعمها الله على آدم بعد خَلْقه هي أنه علَّمه الأسماء.

الذين يُدمِّرون التعليم يُدمِّرون البلاد؛ لأنك ما دمتَ دمَّرتَ الإنسان فلن تُبقِيَ شيئًا على الأرض إلَّا دمَّرتَه.

الإعجازُ نحن اكتفينا فيه بأنه برهانُ نُبوَّة محمَّدٍ وهذا جيدٌ جدًّا وعَالٍ جدًّا، مع أن سيدنا رسول الله له معجزاتٌ لا تُحصى، ولكنَّ القرآن هو المعجزةُ الخالدةُ والباقية، ولكنْ هناك شيءٌ آخر؛ هو أنه لو لم يكن القرآنُ معجزًا لتَغيَّر الدِّين كما تَغيَّرت اليهوديةُ والمسيحيةُ؛ فالإعجازُ حَفِظَ الدِّينَ إلى يوم يُبعثون؛ لأنك لو أدخلتَ كلمةً واحدةً في القرآن مِن خارجه لكان إعجازُ القرآن فاضحًا لها؛ فالإعجاز هو الحامي والمحامي والمدافع عن بقاء القرآن كما أُنزِلَ إلى يوم القيامة.

الإعجازُ لم يكن بُرهانَ نُبوَّةٍ فحسب، وإنَّما هو ضرورةٌ لبقاء هذا الدِّين بدون تغيير. الأديان غُيِّرتْ، وليس ممكنًا أن يُغيَّرَ الإسلام؛ لأن كتابَه - كما قلتُ - لا يُقبَلُ فيه أي تغيير.

تندهش الآن حين تجد اليهودَ المتشدِّدين في التوراة يقولون كلامًا ليس له صِلَةٌ بالتوراة، فالذين يقولون: «سنقتل الفلسطينيين بالنابالم» لا صِلَةَ لهم بالتوراة؛ لأن التوراة وصفها ربنا بأنها هدًى ورحمة، وليس من الهُدى وليس من الرحمة أن تَهدِمَ البيوتَ على رؤوس ساكنيها.

كلُّ الذي يجري في فلسطين باسم «اليهودي المتديِّن» لا صِلَةَ له بالتوراة؛ لأن التوراة تغيَّرت، ربما يكون له صِلَةٌ بالتوراة عنده، لكنَّ التوراة التي تدعوه إلى هذا ليست هي التوراة التي أنزلها الله على موسى.

لا اليهودية يهودية؛ لأنها تغيَّرت؛ لأن كتابها غير مُعجِز، وغيرُ المُعجِز ممكن تغييره، ولا المسيحية مسيحية؛ لأنها تغيَّرت؛ لأن الإنجيل غير مُعجِز، وغيرُ المُعجِز ممكن تغييره.

ليس على وجه الأرض كتابٌ أُنزل منذ خمسة عشر قرنًا وليس فيه غُنَّةٌ زائدة، وليس فيه غُنَّةٌ ناقصة، إلَّا هذا الذي بين أيدينا؛ فوجودُ القرآن في الأمة أمرٌ كبير، ووجودُ الإعجاز أمرٌ كبير.

سمعتُ ممَّن سمعتُ منهم العلم أنه لا يجوز دراسة العصر الجاهلي بمَعْزِلٍ عن دراسة الإعجاز؛ لأن الإعجاز هو القضيةُ الكبرى والحَدَث الأعظمُ الذي حدث في حياة العرب في الجاهلية، ودراسةُ العصر الجاهلي والشعر الجاهلي بمَعْزِلٍ عن الحدث الأعظم دراسةٌ فارغةٌ، وكان مولانا الشيخ محمود شاكر - رحمه الله - كثيرًا ما يُكرِّر هذا.

الإعجاز هو قضيةُ الأمَّة الأولى، نعم هو برهان النبوَّة، وأَنْعِمْ ببرهان النبوَّة، ولكنه مع ذلك له إضاءاتٌ وله عطايا أخرى، فلا يجوز أن نُشغَلَ فقط ببرهان النبوَّة عن هذه العطايا، وعطاؤه الأعظم هو حمايةُ هذا الدِّين.

يُدهشني أن أرى مسلمًا لا يقرأ القرآن؛ القرآن هو الإسلام، والمسلمُ الذي لا يقرأ القرآن هو المسلمُ البعيدُ عن الإسلام، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}، هذه شكوى مؤلمة؛ فاحذر، ثم احذر، ثم احذر، أن تكون من الذين اتخذوا هذا القرآنَ مهجورًا.

أعرابيٌّ رفيعُ العقل جيِّدٌ جدًّا كان يُسمِّي سورةَ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}: «نَسَبُ الله»؛ فإذا أردتَ أن تعرف الله فاقرأ القرآن، إذا أردتَ أن تعرف الآخرة فاقرأ القرآن، إذا أردتَ أن تعرف الذي يُرضِي الله فاقرأ القرآن، إن أردتَ أن تعرف الذي يُغضِبُ الله فاقرأ القرآن، إن أردتَ أن تَنجُوَ من العذاب فاقرأ القرآن.. إلخ.

كلمةُ {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} التي في سورة «القَصَص» كلمةٌ عجيبةٌ جدًّا؛ {وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} أي: جعلنا الكلامَ موصولًا بعضُه ببعض؛ فذَكَرْنا لهم الآخرة وكأنهم يَروْنَها، وذَكَرْنا لهم النارَ وكأنهم يَجِدُون لَفْحَها، وذَكَرْنا لهم الجنةَ وكأنهم يَجِدُون رِيحَها، ماذا تريد أكثر من ذلك؟!! اللهُ أطلعك على الآخرة بكل دقائقها، مِن لحظة أن تَدخُلَ القبر، وأطلعك على الجحيم بكلِّ أهوالِه، وأطلعك على الجنة بكلِّ نعيمها، كلُّ هذا في الكتاب العزيز.

الأُمَّةُ إذا قرأتِ القرآنَ عادتْ إلى رُشْدِها.

الظلمُ والاستبدادُ أنواع: هناك ظالمٌ مستبدٌّ ناجح، وهذا يمكن أن نَقبلَ ظُلمَه واستبدادَه مع نجاحِه، وهناك ظالمٌ مستبدٌّ فاشل؛ فلأيِّ شيءٍ نَقبَلُه، ليس هناك حسنةٌ من الحسنات تَجعلُنا نبتلع هذه السيئات.

وجدتُ في كلام رسول الله النهيَّ القاطعَ عن الخروج على الحاكم ما لم يكن منه كُفرٌ بَواحٌ، وأنا تتبَّعتُ السُّنَّة واجتهدتُ - يَعلَمُ الله - لكي أجد حديثًا يُجيزُ الخروجَ على الحاكم فلم أجد، وكتبتُ هذا في بعض كُتُبي، ومَن يَجِدْ حديثًا صحيحًا يُجيزُ الخروجَ على الحاكم فليُحدِّثني عنه، ثم قلتُ في نفسي: وما الحلُّ يا ربِّ مع الظالم الفاسد الفاشل؟!

ثم قرأتُ أن سيدنا رسولَ الله قال إن أوَّلَ مَن يَدخلُ جهنَّم حُكَّامُ الجَوْر؛ فقلتُ إنَّ من لا يَرْدَعُه هذا الحديثُ لن يَرْدَعَه الخروجُ، وفي سُنَّةِ سيدنا رسولِ الله أن الإمامَ العادلَ يُظلُّه الله في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه؛ فالذي لا يُغْرِيه ظِلُّ الله فيَعْدِل، ولا يُخِيفُه الجحيمُ فيَظْلِم، عنده استعدادٌ لأن يَقتُلَ نصفَ الشَّعب ليظلَّ حاكمًا على النِّصف الآخر، فمِثْلُ هذا اتَّقُوا شرَّه بالصمت، فأحسستُ أن الله نهانا عن الخروج ليس دفاعًا عن الحاكم الظَّالم، وإنَّما دفاعًا عن الجماعة، لأن هذا الظالم ممكن أن يقتل نصفَ الناس ليظلَّ حاكمًا على النِّصف الآخر، ويكون الناسُ بعد قَتْلِ نِصفِهم أسوأَ حالًا ممَّا كانوا عليه يوم أن خرجوا عليه.

ليس هناك دِين، ولا تَديُّنٌ بدِين، ولا معرفةٌ بدِين مِن غير قراءة الكتاب والسُّنة؛ لأن الدِّينَ هو الكتابُ والسُّنَّة، ولا يُعبدالله إلَّا بما أُمِرَ أن يُعبَدَ به، ولا يُحرِّمُ أحدٌ إلَّا الله، ولا يُحِلُّ أحدٌ إلَّا الله.

إعجازُ القرآن لا يَجوز لمسلمٍ أن يتردَّدَ فيه؛ لأن الله هو الذي حكم بذلك، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، لن تستطيعوا أيها الناسُ من هذا اليوم الذي حدَّثتُكم فيه إلى أن تقوم السَّاعةُ أن تأتوا بسورةٍ مِن مثله، ولو دعوتُم كلَّ شهدائكم؛ فالإعجاز أمرٌ مفروغٌ منه؛ لأنه خبرُ مَن لا خلافَ في خبره.

العلماءُ درَسوا وجوهَ الإعجاز، ولم يَدرُسْ أحدٌ الإعجاز؛ لأن الإعجازَ مقطوعٌ به، وما دام الإعجازُ مقطوعًا به، وهذا المُعجِزُ هو الكتابُ الذي في أيدينا؛ فالمطلوب - مِنْ بِرِّي بنفسي - أن أجد في نفسي إعجازَه وإحساسي أنا بأنه مُعجِز.

عبد القاهر يُعلِّمك أنك إذا اقتنعتَ ببابٍ من أبواب العلم، ووجدتَ الناسَ يَسْلُكون غيرَ طريقه، فعليك أن تجتهدَ في أن تُنادِيَ الناسَ حتى يتركوا الطريقَ الذي سلكوه ويَسْلُكوا الطريقَ الذي هُدِيتَ إليه؛ فالقضية ليست أن تَعْلَمَ، القضيةُ أن تُنادِيَ مَن لا يَعْلَمُ حتى يَعْلَمَ، أرأيتَ الأمَّة ونسيجها وبناءها؟!!

أهلُ الله حين يتكلَّمون في العلم تَعتريهم نَشْوة، وتَعتريهم طُرْبة، تَجِدُ هذه النَّشوةَ وهذه الطُّربةَ في نَغَمِ بيانهم.

السَّجعُ مُهمٌّ جدًّا، السَّجعُ ليس زينةً لفظية، السَّجعُ استجابةٌ في نَغَم الألفاظ إلى نَغَمٍ جرى في القلوب.

نحن قتلنا علم البديع لمَّا قلنا إنه مُحسِّناتٌ لفظية ومُحسِّناتٌ معنوية، جيد جدًّا، لكنَّ الذي قال ذلك واحدٌ، وتَبِعَه مَن تَبِعَه، إنَّما حين تُراجع ستجد أمرًا آخر، وأنه ليس مُحسِّناتٌ لفظية ومُحسِّناتٌ معنوية.

تعليقًا على طريقة عبد القاهر في شَرْح العلم، قال شيخُنا: أرأيتَ كيف كان الناسُ يشرحون العلم، ونحن أسأنا إليهم وأسأنا إلى أنفسنا حين نَشرحُ بالطريقة التي رُبِّينا عليها ورُبِّيتُم عليها.

العقلُ العلميُّ يُحدِّد مناطَ الحديث وموضوعَه قبل أن تَدخُلَ عليه: قبل أن تَدخُلَ على الإعجاز لا بُدَّ أن تتبيَّن الذي أعجزَ، والذي أعجزَ ليس في أصوات الكلمات، ولا في معاني الكلمات، ولا في نَغَم الكلمات، ولا في فواصل الكلمات، وإنَّما الذي أعجزَ هو طريقةُ بناء الكلام، وارتباطُ الكلمات بعضِها ببعض.

تَوافُقُ الغربِ مع بني إسرائيل في مُعاداة دِين الله هو الذي جعلهم يَبْلَعُون منهم قَتلَ الفلسطينيين، ويَقبَلُون منهم هَدْمَ البيوت على رؤوس ساكنيها.

مُصيبةٌ أنْ تألفَ الغفلة، ومُصيبتان أنْ تألفَك الغفلة؛ لقد أصبحتَ مُحبًّا للغفلة حتى أحبَّتْك الغفلة.

تعليقًا على قول عبد القاهر: «أيجوزُ أن يكون تعالى قد أمر نبيَّه بأن يَتحدَّى العربَ إلى أن يُعارِضُوا القرآن بمِثْلِه من غير أن يكونوا قد عَرَفوا الوصفَ الذي إذا أَتَوْا بكلامٍ على ذلك الوصفِ كانوا قد أَتَوْا بمِثْلِه؟»، قال شيخُنا: هذا السؤالُ هو قُطْبُ رَحَى الدَّرس؛ فاحفظْه، انسَ اسمَك ولا تَنْسَه؛ لأن هذا هو مِفتاحُ علم البلاغة، وإذا دَرَسْتَ علمَ البلاغة ومِفتاحُ علم البلاغةِ ليس في يدِك فإن الله تعالى يكونُ قد أكرمَك بالضَّلال، وأكرمَك بأن تُضِلَّ مَن تُعلِّم، وبئس هذا الإكرام.

النبوَّةُ عطاءٌ من الله، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، وإرثُ النبوَّة عطاءٌ من الله، لا يمكن أن تكون النبوَّةُ عطاءً من الله وأن يكون إرثُها اكتسابًا من الناس، وإنما هو عطاءٌ واكتساب.

قال شيخُنا، مُثنِيًا على قارئ درسه الأستاذ إبراهيم الجاكي، ومُوصِيًا إيَّاه: الولد إبراهيم سيكونُ من أهل العلم لو ابتعدَ عن المناصب، وربُّنا أكرمَنا بشيء؛ هو أننا وَجدْنا أهل المناصب سُلوكُهم لا يُغرِيك بأن تتمنَّى أن تكون واحدًا منهم؛ فزَهَّدُونا في المناصب ليَزدادَ انقطاعُنا للعلم، فلو أن الله أكرمَ هذا الولدَ ووَجدَ زمانًا يُزهِّدُه أصحابُ المناصب في المناصب؛ فيَزْهَد فيها وينقطع للعلم، سيكون من العلماء، ولكنِّي ليس عندي أملٌ فيه؛ لأنه كان عندي مَن هُم أحسنُ منه، ولما تَولَّوا المناصبَ كان ما كان، وانتهت المسألة.

الذي يُكرِمُه ربُّنا بالعقلِ وحُبِّ العلم يُكرِمُه بنعمةٍ أخرى؛ هي حُبُّ الانقطاع للعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply