بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في حوار ثقافي مع مجموعة من أساتذة الفلسفة المتميزين، أشار أحدهم في حديث ودي إلى أن الثقافة الغربية الحديثة توجت أعمالها بالتخلي عن الدين معلنة موت الإله، وذلك من أجل أن تعلي من شأن الإنسان، لكنها ما لبثت أن واصلت مسيرتها في الصعود شديد الانحدار حتى أعلنت موت الإنسان، ثم تواصل الموات، إلى موت المؤلف ليبقى المعنى ثم موت المعنى!
بالنسبة إلي، كنتُ وما زلتُ مقتنعًا أن الفكر والفلسفة والتنظير لا يُمكن فصله بتاتًا عن سيرة المفكر والفيلسوف والمنظر، وعملية الفصل هذه أعدها عملًا كارثيًا ومدرًا للمعنى وللمؤلف، فالمؤلف وفكره وكلماته لا ينشأ كل ذلك من فراغ، بل من انصهار عوامل عدة تشكل نفسيته ومشاعره ومن ثمة أفكاره.
وكذلك الغرب ككل، لا يمكن فصل صرعاته وأزماته الفكرية وفلسفاته عن أزمات وصراعات الأفراد فيه، ورب نظرية كبيرة أو فكرة مطلقة لا يقف وراءها إلا أزمة نفسية ومشكلة عاطفية صغيرة، لا يمكن أن تؤثر في مكان آخر بمثل هذا التأثير الذي يحصل عن كثير من فلاسفة ومفكري الغرب!
إن تاريخ الفكر والفلسفة في الغرب في كثير من جوانبه ليس إلا تاريخ حياة عاطفية لهؤلاء الأشخاص، المدفوعون بأجسادهم ورغباتهم، وليس فقط بعقولهم إلى درجة كبيرة، وأزعم أن تتبع تلك الروابط بين السير العاطفية والأزمات النفسية وبين التنظيرات الفلسفية يساعد على فهم أصول كثير من الفلسفة الحديثة.
في أبريل 1882م، وقع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في حب عارم للو سالومي، وبعد لقائه بها مباشرة، كتب إلى صديق له: "هي في العشرين من عمرها؛ وتبدو أنها مهيأة بشكل مذهل لطرقي في التفكير وأفكاري". وشُغِفَ قلبه بحبها وحاول قصارى جده أن يكسب قلبها، لكنه أحبط في نهاية المطاف.
إذ تركت لو سالومي رسالة له تخبره بأنها تفضل رجلًا آخر هو بول ري، وهو أفضل صديق لنيتشه، وأنها ستقيم معه في برلين، أصيب نيتشه بالخيبة وراح يلعق جراحه وكبرياءه المحطم وموت الرجاء الذي شيده من أحلام وردية من تلك التي حلم أن تكون له طالبة ومحبوبة.
ومن شدة وطأة ذلك الهجران على قلبه وإحساسه بالخذلان، اعتزل غابة تاوتنبرغ في ألمانيا، وفي يأس فكر جديًا في رمي نفسه والانتحار، كما يذكر وارن وارد. لكنه تراجع عن تلك الفكرة الجنونيَّة ولم ينفذها، وبقي في عزلته محطمًا.
ثم سار بعدها لعشرة أيام في المطر، لا يلوي على شيء، وعقله يشتعل نارًا أوقدها فرن المشاعر في قلبه، ثم فجأة ومضت في أفق خياله فكرة عمله الشهير (هكذا تكلم زرادشت)، أعلن فيه أن الإله قد مات!
ويؤكد وارن وارد أنَّ هذه المقولة الشهيرة لم تكشف عن شيء عميق لاحظه نيتشه فيما يتعلق بالثقافة الأوروبية فحسب، بل أيضًا، عن حالته النفسية بعد أن تم التخلي عنه بقسوة من قبل محبوبته المفقودة سالومي، ويتحول موت حبها إلى موت الإله، ولعبت مشاعره دورًا في تشكيل أفكاره.
كذلك الحال من جان بول سارتر، كما يقول وارن وارد، الذي نشأ طفلًا خجولًا ومرتبكًا ونشأت علاقة أوديبية قوية مع والدته، وكان الاثنان يتشاركان غرفة نوم في منزل جده حتى بلغ سارتر الثانية عشرة، وحين بلغ سارتر سن الرشد، كانت أول علاقة جنسية له مع امرأة في عمر والدته!
يقول وارن وارد: "سارتر لم يتجاوز نفسيًا انجذابه الأوديبي إلى والدته عندما نعلم أنه في سن الحادية والأربعين، عاد مباشرة للعيش مع والدته بعد وفاة زوجها الثاني". ثم يتحدث أن هذه العلاقة العميقة في نفسه شكلت عاملًا مهمًا في فلسفته الوجودية.
أما ميشيل فوكو، الذي يصرح بدون لبس: "لطالما كانت كتبي هي مشاكلي الشخصية المتعلقة بالجنون والسجون والجنس"، فإن تجاربه الخاصة ومشاعره وميلولاته الشاذة شكلت عقله وفكره ونظرياته، وهو الذي يقول: "كلامنا عن الجنس معاصرٌ -زمنيًا وبنيويًا- للكلام الذي أعلنا به لأنفسنا عن موت الإله".
وحين عاش في وسط التروتسكيين الذين كانوا ضد المثلية الجنسية، وكان ميشيل فوكو يريدها لنفسه، قام في إحدى الليالي بإحداث جروح في جسده باستخدام شفرة حادة، وعُثر عليه مستلقيًا على أرضية غرفته بالمهاجع ومغطى بالدماء، وعزا الطبيب النفسي حالته إلى "مرضه العقلي".
ألف ميشيل فوكو إثر ذلك كتابه الشهير (الجنون والحضارة)، وصف فيها أن فكرة المرض العقلي أداة تستخدم لقمع الأشخاص مثله.
ولهذا، عندما سئل جاك دريدا عما يود معرفته أكثر عن الفلاسفة الذين سبقوه، فكان رده: "حياتهم الجنسية، أود أن أسمعهم يتحدثون عن حياتهم الجنسية، أود أن أسمعهم يتحدثون عن ذلك. ما هي الحياة الجنسية لهيجل أو هايدغر؟".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد