فوائد من درس دلائل الإعجاز 29


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، يوم الأحد: 6 من جمادى الآخرة 1446ه = 8 من ديسمبر 2024م:

• ممَّا يُحرِّر به العالِمُ كلامَه أنه إذا كان يَنفي شيئًا، ثم قد يَلتَبِسُ على القارئ أن نَفْيَه لهذا الشيء قد يُدخِلُ فيه ما لا يُراد نَفْيُه، وَجَبَ عليه أن يُنبِّه.

• عبد القاهر يُلِحُّ إلحاحًا شديدًا على أن الإنسان لا يُفكِّر في الكلمة المفردة، وإنَّما يُفكِّر فيها من جهة أنه سيُحدِّث عنها، أو سيَجعلُها خبرًا، أو سيَجعلُها فاعلًا، أي: يُفكِّر في الكلمة من الجهة التي سيستعمل فيها هذه الكلمة، ثم عنَّ له أنه قد يُتوهَّم أن المتكلِّمَ ما دام لا يُفكِّر في الكلمة المفردة فهو لا يتخيَّر ألفاظًا، فوقفَ ونَبَّه إلى أنه لا يَعنِي أن الإنسان لا يُفكِّر مطلقًا في الكلمة المفردة؛ لأنه يُفكِّر فيها ليتخيَّرها، فيرى أنَّ هذه الكلمةَ أَبْيَنُ من هذه الكلمة وأدقُّ وأولى.

• عبد القاهر يقول: لا تأخذْ قولي بنَفْي التفكير في الكلمة المفردة على إطلاقه؛ لأن كلَّ متكلِّم يَتخيَّر الكلمةَ المفردةَ الأَبْيَنَ والأدقَّ والأَوْلى، وهذا جزءٌ من جوهر الشِّعر وجوهر البيان الإنساني.

• عبد القاهر يقول إن تَخيُّر الكلمات مؤسَّسٌ على «معاني النَّحو»؛ لأني حين أختار الكلمةَ في سياق المدح أنظر إليها من حيث دلالتُها على المدح، أي: أتخيَّر الكلمةَ من حيث معناها في مقامِها، و«مِن حيث معناها في مقامِها» هذه هي «معاني النَّحو».

• «معاني النَّحو» قد نَفْهَمُ أنها معاني كتاب سيبويه، لا، هي معاني البيان، وإلَّا ف «امرؤ القيس» لم يكن يَعرِفُ كلمة «النَّحو»، و«زُهير» لم يكن يَعرِفُ كلمة «النَّحو»، وإنَّما هي مَعانٍ، أي: أُريدُ أن أجعلَ الكلمةَ خبرًا، ف«امرؤ القيس» جعلَها خبرًا وهو لا يَعرِفُ معنى الخبر النَّحْوي، أُريدُ أن أجعلَها صِفةً، جعلَها «طَرَفَةُ» صِفةً وهو لا يعرف معنى الصِّفة، أُريدُ أن أجعلَها حالًا، جعلَها «زُهيرٌ» حالًا وهو لا يعرف معنى الحال.

• هناك فَرقٌ بين فَهْمِ المعاني ومعرفة المصطلحات؛ نَعرِفُ المعانِيَ ونَجْهَلُ المصطلحات: كلُّ الذين يتكلَّمون مِن عَوامِّ النَّاس يستخدمون «الحال»، ويستخدمون «الصِّفَة»، ويستخدمون «الخبر»، ويستخدمون «الإضافة»، ولكنَّهم لا يَعرِفون مصطلحًا واحدًا من هذه المصطلحات، وهذا شيءٌ مُهمٌّ جدًّا.

• المقاماتُ هي التي تُملِي عليك اختيارَ الكلمات: أنت في مقام المدح؛ تَبحثُ عن الكلمة التي هي أَمْدَحُ، أنت في مقام العِتاب؛ تَبحثُ عن الكلمة التي هي أشدُّ في معناها.

• تعليمُ كيفية تَخيُّر الكلمات ليس علمًا مُتَّسعًا، وإنَّما هو يَتلخَّص في أن أتعلَّم كيف أتخيَّر ما هو أَبْيَنُ.

• حاجتُنا إلى تَعلُّم كيف نَتعلَّمُ العلمَ أقوى وأشدُّ من حاجتِنا إلى تَعلُّم العلم.

• طلبُ العلم من المَهْد إلى اللَّحْد؛ سِنُّك تسعون سنة، مائةُ سنة، ما دُمتَ تَستطيع أن تَفهمَ فلا بُدَّ أن تَقرأ، وهذه هي صناعةُ الأُمم.

• التخرُّجُ في الجامعة بدايةُ طريق العلم، «الماجستير» بدايةُ الطريق، «الدكتوراه» بدايةُ الطريق؛ لأنك وأنت طالبٌ كان معك أستاذٌ يُعلِّمك، وأنت في «الماجستير» كان معك أستاذٌ يُعلِّمك، وأنت في «الدكتوراه» كان معك أستاذٌ يُعلِّمك، أمَّا الآن فأنت وحدَك؛ فابدأْ.

• الجامعةُ والدِّراساتُ العُليا و«الماجستير» و«الدكتوراه» لا تُعلِّمُك ولا تَضَعُك في النِّهاية، وإنَّما تُهيِّئك لكي تبدأَ طريقَ العلم، فإذا جعلتَها أنتَ النِّهايةَ فادخلْ سِردابَ التخلُّف؛ فتلك أحوالُ الأمم المتخلِّفة.

• في مراحل تعليمِك؛ في الجامعة، في الدِّراسات العُليا، في «الماجستير»، في «الدكتوراه» = تكونُ تحت إشرافِ أستاذٍ يُعِدُّك لتَعملَ بإشرافِ عقلِك.

• أهمُّ أسباب التخلُّف في الأُمم هو تخلُّف أعضاء هيئة التدريس، وأهمُّ أسباب التقدُّم في الأُمم هو هؤلاء؛ لأنهم هم قادةُ المعرفة، هم صُنَّاعُ الأجيال، والذي لم يُصْنَعْ لن يَصْنَعَ.

• لن تبدأ النَّهضةُ إلَّا إذا اتَّخذت المجتمعاتُ موقفًا من القيادات العلمية، والقياداتُ العلميةُ هم «زيد» و«عمرو» الذين في الكُليَّات؛ فما داموا نائمين لن تكون هناك نهضة، وإنَّما حين يَنْشَطُ هؤلاء يَنْشَطُ مِن ورائهم الأجيالُ الكثيرةُ التي تأتيهم جيلًا بعد جيل.

• السَّادةُ أعضاءُ هيئة التدريس يَعتقدون أنهم ما داموا قدَّموا بُحوثًا للتَّرقية - لدرجة «أستاذ مساعد» و«أستاذ» - ورُقُّوا فقد أدَّوْا ما عليهم، لا يا سيِّدنا، ما دُمتَ في الجامعة لا بُدَّ أن تُنتِج، وهذه ليست فلسفتي ولا هي أفكاري، وإنَّما هي كلمةٌ مُختصرةٌ قالها سيِّدُ الناس: «العلمُ من المَهْد إلى اللَّحد»، افعلوا ذلك تكونوا خيرَ أمَّة أُخرِجَتْ للنَّاس.

• لا بُدَّ مِن فَهْم الدِّين ومِن تَفهِيم الدِّين للأمَّة؛ لأن التخلُّف الذي نحن فيه لا هُو مِنَّا ولا نحن منه، ولا يمكن أن تكون خيرُ أمَّة أُخرجتْ للناس أمَّةً متخلِّفة: تأكلُ مِن يَدِ غيرها، وتُعالَجُ بطِبِّ غيرِها، وبدواء غيرِها، وبفِكْرِ غيرِها، حتى الشِّعرُ؛ تَفْهَمُ شعرَ امرئ القيس من خلال نظريَّات الآخرين، حتى الأدبُ، حتى التفكيرُ في البيان.. وهذا شيءٌ يَجِبُ أن يَنتهي.

• التعليمُ إنْ لم يكنْ سيَصنَعُ أجيالًا جديدةً فلا قيمةَ له، الكتابُ إنْ لم يكنْ سيَصنَعُ إنسانًا أفضلَ فلا قيمةَ له.

• إذا خَرجَ الطالبُ مِن دَرْسِك كما دَخلَ فالأفضلُ أن تَجلِسَ في بيت أُمِّك؛ لأنك لا بُدَّ أن تُحْدِثَ في نفسه شيئًا، لا بُدَّ أن تُشْعِلَ في قلبِه شُعلة، حتى إنني بالغتُ في ذلك وقلتُ في دَرسٍ مَاضٍ: «إمَّا أن تُصْلِحَه وإمَّا أن تُفْسِدَه»، وذكرتُ لكم قولَ الشَّاعر:

إذا أنتَ لم تَنفَعْ فضُرَّ فإنَّمَا    ***     يُرَجَّى الفَتَى كَيْمَا يَضُرَّ ويَنفَعَا

المُهمُّ ألا يَخرُجَ كما دَخَل!

• الفِطرةُ البيانيةُ آيةٌ مِن آياتِ الله سبحانَه وتعالى.

• قلتُ لكم مرَّةً في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إن كلمة «لعلَّكم» ليس مقصودًا بها العربُ فقط؛ لأن القرآن لم يَنزِلْ للعرب فقط، وإنَّما نَزَلَ للنَّاس كافَّةً، وإن الله أنزلَه قرآنًا عربيًّا ليَعْقِلَه الناسُ كافَّةً، ولم أَزِدْ على هذا، وهذا هو معنى الآية بلا شكٍّ، وهذا قاطعٌ في بيانِ أن أقربَ اللُّغاتِ إلى الفارسي بعد الفارسية هي «العربية»، وأن أقربَ اللُّغاتِ إلى الرُّوميِّ بعد الرُّومية هي «العربية»، وأن أقربَ اللُّغات إلى الطُّلياني بعد الطُّليانية هي «العربية».

• «الرَّافعيُّ» قال إن أقربَ اللُّغاتِ إلى الفطرة الإنسانية التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها هي اللغةُ العربية، والذي قاله «الرَّافعيُّ» هو الذي قالَتْه آيةُ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

• في الأزهر الشريف يكون ثلاثةُ أرباع الطلاب الذين في درسي غيرَ مصريين، ومِن العالَم الإسلاميِّ غير العربي؛ فكان عندي تلميذٌ يقول الشِّعرَ العالِيَ بالعربية وهو نيجيري، فكنت أقولُ له: «لماذا لم تَقُلِ الشِّعرَ بالنَّيجيرية؟»، فكان يقول لي: «إنَّ هذه العربيةَ أقربُ إلى البيان الشِّعريِّ عندي»، وكانوا يؤلِّفون كُتبًا في الشِّعر الجاهليِّ ويُرسلونها إليَّ، وكان يَسرُّنِي أن أقرأ في كلامِهم عبارةَ: «شاعرُنا زُهير»، فكأنهم أصبحوا مِن بَنِي سُلَيْم؛ الثَّقافةُ أَنْسَتْهم نَسَبَهم ودَخَلُوا في أنساب أصحابِ البيان.

• كلامُ عبد القاهر طالَ جدًّا في بيان مسألة رجوع مَزِيَّة الكلام إلى المعاني لا الألفاظ، وربما تَعترِضُ أو تَمَلُّ من هذا الطُّول، لكنَّ الحقيقةَ هي أنك إذا أحسنتَ التفكير ستطلب منه المزيد، يا سيِّدنا هو وإن كان يُعلِّمك هنا التدقيقَ في مسألة اللَّفظ المفرد فإنه يُعلِّم عقلَك الدِّقةَ فيما يتناوله من أفكار؛ فانسَ مسألة اللَّفظ المفرد، وخُذْ منه تَعليمَه عقلَك التَّدقيقَ؛ فإن كنتَ صانعًا فعليك أن تُدقِّق في صَنعتِك، وإن كنتَ عالِمًا فعليك أن تُدقِّق في علمِك، وإن كنتَ طبيبًا فعليك أن تُدقِّق في طِبِّك، وإن كنتَ سياسيًّا فعليك أن تُدقِّق في سياستك، وإن كنتَ مَنْ شئتَ مِن الناس فعليك أن تُدقِّق؛ فالقضيةُ ليست قضيةَ لفظٍ مفرد، القضيةُ هي صناعةُ عقلٍ يُدقِّق في الباب الذي هو فيه.

• وَسِّعْ عقلَك تَتَّسِعْ معلوماتُك؛ لذلك كان يُدهشني جدًّا ويَروقُني أن الحسنَ البصريَّ كان إذا سَمِعَ قولَ الشاعر:

اليومَ عِندَكَ دَلُّها وحَديثُها     ***    وغَدًا لغَيرِكَ كَفُّها والمِعْصَمُ

بكى؛ لأنه فَهِمَ معنًى أوسع؛ هو أن الدُّنيا لا تَدُوم، وأن الذي في يدِك اليوم سيصبح في يدِ غيرِك غدًا؛ فراقني أنه رجلٌ نَفَذَ إلى جوهر المعاني ولم يَقِفْ عند دلالاتها المباشرة.

• إذا كان هناك مَنْصِبٌ في الدنيا يُغرِيك عن تَرْك الكتاب لتتبوأَه تكون قد ضِعْتَ من حيث لا تدري، تكون قد تركتَ الجنَّةَ ودخلتَ النار؛ لأنه ليس أفضل في الدُّنيا من العلم، ليس أفضل في الدنيا من الكِتاب.

• أحيانًا تَجِدُ في عبارة العالِم لذَّةً أحلى من التي تَجِدُها في عبارة الشاعر؛ لأن العالِم إذا أصابَ في بيانه وقال كلامًا حَسَنًا يكون شيئًا جليلًا جدًّا؛ لأن معانِيَ الشِّعر بطبيعتها القلوبُ تَمِيلُ إليها، ومعاني العِلْم بطبيعتها العقولُ تَمِيلُ إليها؛ فإذا وجدتَ العالِمَ يُحدِّثك بعبارةٍ هي أحلى من عبارة الأديب والشاعر فإن ذلك شيءٌ جليلٌ جدًّا.

• إذا وجدتَ البيانَ العالِيَ في الشِّعر فقد وجدتَ الشيءَ في بابه، إنَّما إذا وجدتَه في باب المعرفة تكون قد وجدتَ الشيءَ الحَسَنَ في غير بابِه، وكأنَ العالِم قدَّم لك الحَسَنَ في بابٍ لا تَتطلَّعُ فيه إلى الحَسَن.

• لن تكونوا شيئًا إلَّا إذا انقطعتُم للعلم، وليس معنى هذا ألَّا تسعى على رزقك، لا، اسعَ، لكنْ ضَعْ في رأسِك أنَّك تتعلَّم، أبو حنيفة كانت تاجرًا، ولكنه لم يَنْسَ - وهو يَرُوح ويَغْدُو – الفقهَ؛ كان يَرُوحُ ويَغْدُو ليطلبَ خُبْزَه وفِقْهُه حاضرٌ في قلبه.

• تَعلَّموا تَتغيَّروا، وإذا تَغيَّرتُم تغيَّر كلُّ شيءٍ حولَكم؛ تَتغيَّر صناعتُكم، تَتغيَّر مدارسُكم، تَتغيَّر سياستُكم.

• الإمامُ مالكٌ عاش في فترة بني أُميَّة وفي أوَّل فترة بني العبَّاس، وهي فترةُ قلقٍ سياسيٍّ شديد، ولو دخلَ في اللَّغْو السِّياسي كان سيُتَّهم بأنه «خطر على الأمن القومي»، ولكنه كان أَحْكمَ وجلسَ ليَكتُبَ لنا «المُوطَّأ»، الشافعيُّ لو شَغَل نفسَه بالسِّياسة كان سيُتَّهم بأنه «إرهابي»، ولكنه كان أَحْكَمَ وكتب لنا «الرسالة»؛ لأن السِّياسيَّ لا يَستحيي أن يقول عن النَّبي إنه «إرهابي»؛ لأن مُلكَه أعزُّ عليه مِن نفسه، بدليل أن «المأمون» قَتلَ أخاه «الأمين»، فهذه منازعات؛ فانقطِعُوا للعلم وغَيِّروا قومَكم ليَتغيَّر كلُّ شيءٍ حولَكم.

• دائمًا أقول لنفسي ولطلابي إن التفكيرَ في مسألةٍ من مسائل العلم يُنتِج في قلبِك مسألةً جديدةً تَحتاجُ إلى علمٍ جديدٍ وإلى تفكيرٍ جديد.

• فَهْمُ المسألةِ ليس نهايتَها وإنَّما بدايةُ التفكير فيها، والتفكيرُ في المسألة التي بين يَدَيْك يَفتحُ لك البابَ إلى مسألةٍ أخرى.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply