بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف الأحد: 30 ربيع الأول 1445هـ = 15 أكتوبر 2023م.
• أهمُّ ما في حياتك - إن كنتَ تريد أن تتعلَّمَ العِلمَ - أن تستقصِيَ وتتصفحَ ثم تُكثِرَ النَّظرَ والتدبُّر.
• كلُّ معاني «إنَّ» التي تحدَّث عنها عبد القاهر لم يَذكرها أحدٌ قبلَه، وكلُّ الذي قِيلَ قبلَه أنَّ «إنَّ» للتوكيد، وكلُّ الذي قاله أبو العباس ثعلب للفيلسوف الكِنْدِيِّ أنها للردِّ على المُنكِر والشاكِّ ومُخاطَبةِ مَن لا يَشكُّ ولا يُنكِر.. وعبدُ القاهر بصنيعه هذا يخاطبك ويقول لك: استيقظ أيها النائم، وإذا التبس عليك شيءٌ في اللغة فلا تذهبْ إلى الشيخ فُلان ولا إلى الشيخ عِلَّان، ولكن اذهب إلى اللغة تُنبِئْك اللغةُ عن سِرِّها.
• سِرُّ اللُّغة ليس عند فُلان ولا عند عِلَّان، وإنما سِرُّ اللُّغة مُضمَرٌ في ضَميرِ اللُّغة؛ فاسأل اللُّغةَ عن سِرِّها تُجِبْك الجوابَ الصَّحيح.
• عبدُ القاهر سأل «إنَّ» عن سِرِّها وأداتُه في المعرفة ليست قواعدَ وضعها العلماء وإنما حِسُّ السَّليقة اللُّغوية التي فَطرَ اللهُ النَّاسَ عليها.
• مَنْ لم يَقُمْ على صَقْلِ سَليقتِه اللُّغوية وإعدادِها فقد أغلقَ أمام نفسِه بابَ العلم باللُّغة.
• السَّليقةُ اللغويةُ ليست عند أحدٍ أفضلَ منها عند الآخر، ليست عند «زيدٍ» أفضلَ منها عند «عمرو»؛ لأن الله لا يَظلِمُ زيدًا ولا عَمرًا، وإنما هي أفضلُ عند مَنْ رعاها وصَقَلَها واهتمَّ بها وقام عليها.
• عبدُالقاهر يقول لك: إذا أردت أن تعرف مُعلِّمي الذي علَّمني اللُّغةَ فاعلمْ أنه اللُّغة، إذا أردت أن تعرف مُعلِّمي الذي علَّمني الشِّعرَ فاعلمْ أنه الشِّعر، إذا أردت أن تعرف مُعلِّمي الذي علَّمني إعجازَ القرآن فاعلمْ أنه القرآن.. وهكذا، العِلمُ وأنت وجهًا لوجه من دون واسطة، وإذا تَحذْلَقَ مُتحذْلِقٌ وأراد أن يكون واسطةً بينك وبين العلم فقُصَارَاه – إن كان صادقًا ومخلصًا – أن يُعلِّمَك كيف تقرأ العلم، أمَّا أن يُعلِّمَك العلمَ فلن يُعلِّمَك العلمَ إلا أنت.
• العِلمُ بَحرٌ لا سَاحِلَ له، وإنما يأخذُ كلُّ امرئٍ منه ما أُوتِيَه، وهناك كلمةٌ قالها سقراط، وسقراط هو صاحب الفلسفة ورائد المشَّائين، وهو شيخ أفلاطون الذي هو شيخ أرسطو، قال: «عَرَفتُ أنني لن أستطيع أن أصل إلى قرار العلم، وكلُّ الذي حصَّلتُه هو أنني تعلَّمت ما لا ينبغي لعاقلٍ أن يَجهلَه!! ».
• أريد أن أقول لكم: إنني ما عَلَّمتُ أحدًا العِلمَ، ولن أُعلِّمَ أحدًا العِلمَ، وإنَّما فقط كلُّ الذي أريده وأرجو من الله أن يَهدِيَني إليه هو أن أُعلِّمَ طلابَ العلمِ كيف يطلبون العلم.
• مَن اعتقد أن شيخًا ما سيُعلِّمه العلمَ فلن يتعلَّمَ العلمَ ولن يكون يومًا ما إنسانًا.
• رَبطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ رأسُ البلاغة في بيان العربية، كلُّ العرب والأعراب الذين يقرأون والذين لا يقرأون يقولون إن رأسَ البلاغة أن يَدلَّ أوَّلُ الكلام على ثانيه، وأن يَرتبِطَ ثانيه بأوَّلِه.
• حين حَضرَ ذِكْرُ بيتِ بشار:
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِير *** إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ
قال شيخُنا: زمان وأنا في سِنِّكم كنا نشتري الكراسة بـ«3 تعريفة»، وكان مكتوبًا على أحدِ وجهَيْها «جدولُ الضَّرب»؛ حتى نحفظَه بأنفسنا، وعلى الوجه الآخر جُملةُ حِكَمٍ ونصائحَ للتلميذ المبتدئ، ومن النَّصائح التي أُحبُّ أن أنصحَ بها بيتُ بشَّار هذا.
• لو استطعتُ أن أكتبَ على جِدارِ كلِّ مدرسةٍ، وعلى جِدارِ كلِّ مسجد، قولَ بشار: «بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ» = لفعلتُ.
• استيقظوا واعملوا؛ فبهذا تَنهضُ الأمم، وتَنهضُ الشعوب وتَقْوَى، وليس بغير ذلك.
• تعقيبًا على قول عبد القاهر: «وفي (إنَّ) هذه شيءٌ آخر يُوجِبُ الحاجةَ إليها»، قال شيخُنا: هناك أشياء في اللغة واجبة، مثل الواجب في الوضوء، والواجب في الصَّلاة، والواجب في الصَّوم، ومن هذه الأشياء التي تُوجِبُ الحاجةَ إلى «إنَّ» رَبطُها الكلامَ بعضَه ببعض.
• قول عبد القاهر: «حتى كأنَّ الكلامَيْن قد أُفرِغَا إفراغًا واحدًا» أشهى إلى النَّفْس مِن كوب العسل، والذي يُدهشني ليس ألفاظَ هذه العبارة وإنما يُدهشني العقلُ الذي رأى في اللُّغة أن الكلامَيْن أُفْرِغا وكأنَّهما كلامٌ واحد.
• تعقيبًا على قول بعض الحجازيين:
أَكُدُّ ثِمَادِي والمِيَاهُ كَثِيرَةٌ *** أُعالِجُ مِنهَا حَفْرَها واكْتِدَادَها
وأَرْضَى بِها مِنْ بَحْرِ آخرَ، إنَّه *** هُوَ الرِّيُّ أنْ تَرْضَى النُّفُوسُ ثِمَادَها
قال شيخُنا: ثقافتُنا مليئةٌ بقِيمَ النَّهضة، ولكنَّ الغفلةَ هي التي تُدمِّر كلَّ شيء، تمنيَّتُ أن أجِدَ في قومي مَنْ يؤمن بكلمةِ «أَكُدُّ ثِمَادِي والمِيَاهُ كَثِيرَةٌ».
• إذا كنتَ تتعلَّمَ لكي تتفيهقَ فبئس زمانٌ وُلدِتَ فيه، وإنما تَعلَّمْ لتُنهضَ عقلَ أمَّة وتُنهضَ عقلَ جيل؛ لأن الضَّعفَ عارٌ ومَذلَّة، والتخلُّفَ عارٌ ومَذلَّة، ولو أنَّ قومي أخذوا بقول الأعرابي القديم: «إنَّه هُوَ الرِّيُّ أنْ تَرْضَى النُّفُوسُ ثِمَادَها» ما مَدُّوا أيديَهم لأحد، ولصَنَعُوا كلَّ شيء بأيديهم، كجَدِّنا القديم الذي حَفَر في أرضِه ليستخرجَ ماءً ولو كَدِرًا حتى لا يَمُدَّ يدَه إلى بحرِ آخرَ.
• لا بد أن نَكُدَّ ثِمادَنا؛ في صناعتنا، وزراعتنا، وعِلْمنا، وطِبِّنا، ودوائنا، ودائنا، وبحوثنا، أمَّا أنْ ننامَ ونرى إلامَ وصلَ الآخرون ثم نَمُدَّ أيديَنا لنأخذَ منهم لنعيش = فهذه حياة التافهين.
• لا يجوز لخيرِ أُمَّةٍ أُخرجتْ للناس أن تحيا حياة التافهين، ولا بد أن يمتلئ قلبُك بهذا حتى تعيشَ إنسانًا آخر هدفُك أن تنهض، وأن يَنهضَ معك قومُك، وأن تَنهضَ بقومِك، وأن يَنهضَ بك قومُك، وبدون هذا الإحساس ستعيش وأنت لا قيمةَ لك؛ تأكلُ وتَشرب، والحِمارُ يأكلُ ويَشرب.
• الله كرَّم الإنسانَ لا لِيَمُدَّ يدَه إلى غيره ويأخذَ منه طعامَه وشرابَه ولِباسَه وعِلمَه وطِبَّه وسلاحَه ودواءه.
• تعقيبًا على قول عبد القاهر في حَقِّ خَلَفٍ الأحمر: «وهو القُدوةُ، ومَنْ يُؤخَذُ عنه»، قال شيخُنا: كلمةُ «يُؤخَذُ عنه» كلمةٌ كبيرةٌ عند العلماء، وهي كبيرةٌ حين يقولُها كبيرٌ عن كبير.
• فَهْمُ الشَّاهدِ أجدى على تربية نفسك وتكوينِ عقلِك من القاعدة، ولا غِنى لك عنهما.
• تعليقًا على قول الشاعر:
إِنَّ شِوَاءً وَنَشْوَةً *** وَخَبَبَ البَازِلِ الأَمُونِ
قال شيخُنا: لا يعنيني هنا الشِّواءُ ولا النَّشوةُ بقَدْر ما يعنيني الهِمَّةُ التي وراء «خَبَب البَازِلِ الأَمُونِ»؛ لأن خَبَبَ البَازِلِ هو سُرعةُ النَّاقةِ القويَّة، وسُرعةُ النَّاقةِ لا تُقال في الشِّعر إلا لمن رامَ المغامرةَ، ورامَ الجِدَّ، ورامَ الكَدَّ.
• حين تقرأ الشعرَ وتستخرجُ منه هِمَمَ النُّفوسِ في العَملِ والجِدِّ والكَدِّ والمكابدة = تَجِدُ شيئًا جليلًا جدًّا جدًّا.
• أنا مُولَعٌ، وأُنبِّه طلابي إلى العناية الفائقة برُوحِ الكَدِّ ورُوحِ الجِدِّ؛ لأنها هي خيرُ الدنيا والآخرة.
• الأمَّةُ التي تعتمد على غيرها لا يَلتفِتُ إليها أحدٌ، ولا يَعبأ بها أحد، إنَّما الشعبُ القائمُ على أمرِه، والذي يَتمثَّل بمِثْل «أَكُدُّ ثِمَادِي»، والذي يَتمثَّل بمِثْل «خَبَب البَازِلِ الأَمُون» = هو الذي تحترمه الناس، والحديثُ الشَّريفُ لخَّص لنا القضية: «اليَدُ العُليَا خيرٌ من اليَدِ السُّفْلى».
• لمَّا كتبتُ في الشِّعر الجاهليِّ راقني كَدُّ الهُذَلِيِّ في سبيل حصوله على الشَّهْدة التي هي في أعلى الجبل، ورأيتُه يَكدَحُ ويقول في نفسه: «إمَّا أن أَصِلَ إليها وإمَّا أن أموتَ»، وقلتُ أنا في نفسي: «قُمْ أيُّها الهُذلِيُّ من قبرك واصْرُخْ في قومِك وقُلْ لهم هذا».
• أودُّ أن أقولَ كلمةً يونانية، وإن كنتُ أُحِبُّ ألا أتكلَّم إلا بكلامِ العرب؛ كانوا يقولون إن النيَّة الصَّادقةَ في الكلام هي التي تفتح قلوبَ الذين يسمعونه، وإنَّ الرَّجُلين قد يقولان قولًا واحدًا فيتأثَّرُ الناسُ بأحدهما ولا يتأثَّرون بالآخر؛ لأن أحدَهما نَزَعَ الكلامَ من أعماق ضميره، والآخر «تَفَيْهَق».
• فَهْمُ الشَّاهدِ أَبَرُّ بتربيةِ الأجيالِ من القاعدة، وأنا هنا لا أُفضِّلُ بعضَ العلم على بعض، ولا أُغْرِي ببابٍ وأَصْرِفُ عن باب، وإنما أقول: أَنْعِم بمَن يُدرك الأمرين: القاعدة التي في الشاهد والقيمة العالية التي تضمَّنها الشاهد.
• أنت تُحصِّلُ العلمَ حين تُفكِّر، أمَّا أن تقرأَ ولا تُفكِّرَ فأصغرُ كتابٍ يُغنِي عنك، إذا فكَّرتَ فلن يوجد لك بديلٌ إلا أنت.
• سؤالاتُك عن سِرِّ المعرفةِ هي التي تكشف لك سِرَّ المعرفة وتَهدِيك إليه.
• حِسُّك البيانيُّ هو المِصباحُ الذي يضيء لك غَياهِبَ البيان؛ لأن غَياهِبَ البيان مِنْ غَياهِبِ النُّفوس، ولا تجدُ غموضًا في البيان إلا لغموضٍ في نفس المتكلِّم؛ فلا بد أن يكون عقلُك قادرًا على أن يُضيء، ليس البيانَ وإنما النَّفس التي نطقت بالبيان.
• أَحْسَنُ قراءةٍ للشِّعرِ أنْ أقرأ ما جرى في نَفْسِ مَن نَطقَ بالشِّعرِ فأنطقَ لسانَه بالشِّعر.
• اللِّسانُ كالقلم: اللِّسانُ يَنطِقُ بما يُملَى عليه، والقلمُ يَكتب ما يُملَى عليه، وكما أنَّ القلمَ لا يَنطِقُ مطلقًا بشيء فكذلك اللِّسانُ لا يَنطِقُ مطلقًا بشيء؛ فإذا قرأتَ ما نطقَ به اللِّسانُ وأغفلتَ الذي أنطقَ اللِّسانَ بما نَطقَ به فأنت «تُهوِّش».
• فَرقٌ بين أن تقرأَ لغةً منطوقةً وأن تقرأَ نفسًا حيَّةً في هذه اللُّغةِ المنطوقة.
• المعنى القريبُ للشِّعرِ لا يجوز لأحدٍ أبدًا أن يُلغِيَه، ولكنَّ الشِّعرَ مع هذه الدِّلالات المباشرة فيه سَعَةٌ في الدِّلالة، وهذه الدِّلالاتُ المُتَّسعِةُ تَكسُوه روعة، والأمرُ كذلك في القرآن: تَجِدُ الآيات لا حُدودَ لمعناها.
• تعليقًا على قول أم السُّلَيْكِ بنِ السُّلَكَة:
إِنَّ أَمْرًا فَادِحًا *** عَنْ جَوَابِي شَغَلَكْ
قال شيخُنا: هذا كلامٌ يَقطَعُ القلب؛ فهو لأمٍّ تَرثِي ولدَها، وهذا البيتُ يقول لك إنَّ مَحْضَ الشِّعْرِ هو الحنين، ولا تَدَعُ العربُ الشِّعْرَ حتى تدعَ الإبلُ الحنينَ.
• قَدْرُك عند من يُعلِّمونك العلمَ أنهم يجعلونك شريكًا في اكتشاف المعرفة، هم لا يُعلِّمونك المعرفة، وإنما يصطحبونك معهم في اكتشاف المعرفة.
• أسامة بن منقذ كان أميرًا وسياسيًّا بارعًا وقائدًا عظيمًا، قال في آخر صفحة من «لُبابِ الآداب» وكأنه يُحذِّرني ويُحذِّرك، ويُوصِيني ويُوصِيك؛ قال: «إنَّ مَن يَضَعُ الكتابَ بين يديه ولا ينتفعُ به يَجعلُ الكاتبَ كأنه أَعَدَّ مائدةً لأهل القبور»؛ فاحذروا أن تكون الكتبُ بين أيديكم مائدةً أُعدِّت لأهل القبور.
• يُمكِنُ لباحثٍ جادٍّ أن يَجمعَ كلامَ «سيبويه» الذي استعان به عبدُ القاهر في «دلائل الإعجاز» ليقف على أثرِ صاحب «الكتاب» في صاحب «الدلائل».
• عبدُ القاهر كانت عنده القدرةُ الرَّائعةُ الغائبةُ على أن يُنطِقَ الكلامَ بما نَطقَ به ويُنطِقَ الكلامَ بما لم يَنْطِق به، وإنطاقُ الكلام بما نطق به كلُّنا فيه سواء، أمَّا إنطاقُ الكلام بما لم يَنْطِق به فهذا عَمَلُ العالِم؛ لذلك عبدُ القاهر أنطقَ عبارةً لـ«سيبويه» من سَطرٍ واحدٍ بما لم تَنْطِقْ به فكتب لنا باب التقديم.
• قُدرةُ العالِم وفَضْلُ العالِم ليس في أن يَفْهمَ كلامَ العلماء، وإنَّما في أن يستثمِرَ كلامَ العلماء، واستثمارُ كلام العلماء هو إنطاقُه بما لم يَنْطِق به.
• الباحثُ الذي يريد أن يكون شيئًا هو الذي يَصْنَعُ الكثيرَ من العِلمِ بالقليلِ من كلام العلماء.
• عبدُ القاهر في إنطاق كلام العلماء بما لم يَنْطِقْ به = مُتواضعٌ، والذي بَرعَ في هذا الباب براعةً مُذهِلةً هو أبو الفتح بن جنِّي؛ لأنه بنى كتاب «الخصائص» كلَّه على مجموعةِ نُصوصٍ من سيبويه وأبي علي الفارسي لا تُكْمِلُ الصَّفحاتِ الثَّلاث، ولكنه كانت لديه قدرةٌ عجيبةٌ جدًّا على أن يَجعلَ كلامَ العلماءِ يَفِيضُ لا بالمعنى الظاهر وإنما بالمعنى الخَفِيِّ.
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، الأحد: 7 ربيع الآخر 1445هـ = 22 أكتوبر 2023م.
• أهمُّ ما في حياة طالب العلم أن يتدبَّر فيما يُحصِّل وفيما يقرأ، وبدون تدبُّر كأنك لم تتعلم شيئًا، ولو حصَّلتَ ما حصَّلتَ.
• كرَّر القرآن الحثَّ على التدبُّر؛ لأن حياة الإنسان في هذا الوجود مؤسَّسة على التدبُّر، والذي لا يتدبَّر كأنه ليس حيًّا.
• نحن الآن أمام مسألة يمكن جدًّا أن تُنمِّيَ عقل طالب العلم وتصنعَ منه لَبِنَةً صغيرةً لعالِم؛ لأننا عَرَفنا أنَّ (إنَّ) تقع في جواب الشَّاكِّ أو المُنكِر، كما قال أبو العباس ثعلب، وهو صحيح جدًّا، ولكننا وجدنا عالِمًا يُعلِّمنا كيف يُستخرَجُ العلمُ من كلام العرب؛ هو الإمام عبد القاهر، الذي استقصى معانِيَ (إنَّ)، وتابعَ كلام العرب، وحدَّث عن معاني (إنَّ).
• اسمعْ وعِ، علم البلاغة وعلم النحو وكل علوم العربية ليس فيها فكرة واحدة جاءت من عقلِ عالِم، وإنما كل ما فيها استخراجٌ من كلام العرب، وعلماؤنا وكِرَامُنا الذين أسسوا العلوم ما كان لهم شيء إلا استقصاء كلام العرب.
• أنت بصفتك دارسًا تريد أن تُكوِّن عقلك العلميَّ، لو حفظتَ القاعدةَ فقط فكأنك لم تتعلم شيئًا، إنما لو تدبَّرتَ كيفية استخراج المعرفة تكون قد بدأتَ تضع قدمَك على الطريق الصحيح.
• هناك صفحاتٌ في كلام العلماء فيها علمٌ جليلٌ وفيها شيءٌ أجلُّ من العلم الجليل، وهو طريقة استخراج العلم الجليل.
• ليس هناك أجلُّ من العلم الجليل إلا أن تتعلَّمَ كيف استخرج كِرامُ علمائنا العلمَ الجليلَ من كلام العرب، ولو غَفلْتَ عن هذا وغَيَّبتَه عن وَعْيك وأنت تقرأ فكأنك لم تنتفع بشيء، وكأن الكتاب بين يديك مائدةٌ أُعدِّت لأهل القبور.
• اتقوا الله في كتب أهل العلم ولا تجعلوها بين أيديكم كالمائدة التي أُعدَّت لأهل القبور؛ لأن العالِم ما كتب كل لفظة إلا ليصنع منك إنسانًا، ليس حبًّا لك، وإنما لكي تحميَ الأرض التي هي عظامُ آبائنا.. «مَا أَظنُّ أَدِيمَ الأرضِ إلَّا مِنْ هَذِه الأجسَادِ».
• لو حَفِظْتُ كلامَ علمائنا ووضعتُه أمامكم كما حفظتُه فكأن كلام علمائنا لم يَمرَّ بعقلِ حيٍّ، وإنما مرَّ بقَبْر، وإنما يكون قد مَرَّ بعقلِ حيٍّ لو أنه تدبَّر فيه، وأضاف إليه، واجتهد، وأصاب وأخطأ.
• مِن حُبِّ ربنا لأهل التدبُّر أنه – سبحانه وتعالى – يُثيبهم على الصَّواب ويُثيبهم على الخطأ.
• تدبَّر وتكلمْ ولا تخشَ الخطأ؛ لأنك لو تدبَّرتَ وأخطأتَ سيُثيبك الله.
• وأنا في سنكم كانت الحياة الفكرية تمر بمراحل عجيبة جدًّا، وأنا في سنكم كان الذي لا يقول إن البلاغة العربية بلاغة يونانية يُقدَّم للمحاكمة، ثم اجتهدتُ في أن أتبيَّن هذا فقرأت بلاغة أرسطو، وقرأت المصدر الذي استخرج منه أرسطو بلاغتَه، فوجدت أن أرسطو ما قال شيئًا في البلاغة اليونانية إلا وهو مُهتدٍ إلى كلمة قالها هوميروس في الإلياذة والأوديسا وبعضُ كبار شعراء اليونان، ثم نظرتُ في الذي قاله علماؤنا فلم أجد مسألة بلاغية واحدة ليست مستخرجةً من كلام العرب وليس لها شاهدٌ في كلام العرب؛ فاقتنعتُ باجتهادي.
• الحياة الفكرية أحيانًا تدخلها عناصر مُدمِّرة؛ قيل لنا إن البلاغة يونانية، والنحو سنسكريتي، والفقه روماني؛ قيل لنا هذا، وكُتب هذا، والذي قالوه وكتبوه حولهم هالةٌ وأوصافٌ بأنهم «رُوَّاد النهضة!!»، والذي يخالف «رُوَّاد النهضة!!» يكون إنسانًا من أهل القبور.
• عَزمتُ أن أكتب في كتبي ما توصَّلتُ إليه من أن بلاغتنا ليست يونانية، ولكني أردت ألا يُشغلَ عقلُ طالب العلم إلا بعلومنا، ولأنني قرأت كلمةً جليلةً لابن سينا - وابنُ سينا من أكابر شراح أرسطو – وكأنه يقولها لجيلنا، ولم يكن في زمانه من يقول إن بلاغة العرب يونانية؛ قال: لو أن أرسطو قرأ شعر العرب لكتب بلاغة غير البلاغة التي كتبها، وإنما قرأ شعر اليونان فكتب بلاغة اليونان.
• الله جعل لك عقلًا حارسًا. يَعلَمُ الله أن الحياة الفكرية فيها أشواكٌ وأخلاطٌ تفسد العقول، وإذا فَسدت العقولُ فسد الإنسان؛ فأودعَ فيك قُدرةً قادرةً على أن يَحْرُسَ عقلُك فكرَك.
• قرأتُ وتدبرتُ ووجدتُ أن كل فكرة تمرُّ بعقلٍ جيد لا بد أن يضيف إليها شيئًا، وأنه لا يَدَعُها تمرُّ على عقله وتذهبُ إلى عقول الآخرين مِن غير أن يضعَ عقلُه عليها بصمةً وإشارة، وهذه البصمةُ والإشارةُ هي الأمَارةُ على أنها مرَّت على عقل إنسان حي.
• الذي يتلاعب بالعقول لا تَلُمْه؛ لأنه وجد عقولًا يُتَلعَّبُ بها، وإنِّما لُمِ الناسَ الذين تركوا عقولَ أجيالهم خاويةً خَرِبةً يُتَلعَّبُ بها.
• ليس عليك واجبٌ أوجبُ بعد الصَّلاة والصَّوم وقواعد الدين من أن تَعملَ لصناعة جيل لا يَتلعَّبُ به المُتلعِّبون.. أنت لن تقضي على المُتلعِّبين؛ لأن الله شاء أن يُوجدَ إبليسُ قبل آدم، فلا بد من وجود إبليس في كل زمان، وفي كل مكان، وفي كل مجلس، وإنما عليك أن تَحمِيَ عقولَ قومِك من أن يُتلعَّبَ بها.
• تعليقًا على قول عبد القاهر عن عِلَّة تَسْويغِ ذِكْرِ إنَّ حذفَ خبرها: «.. وأنَّها حاضِنَتُه»، قال شيخُنا: أعجبتني كلمة (حاضِنَتُه) هذه؛ ففيها حنان، وفيها حب، وفيها رحمة، وكأنه قام في خيال الشيخ عبد القاهر أن (إنَّ) كائن حي له قلب يَحِنُّ ويَألَف، ويدخل على عائلة مكونة من المبتدأ والخبر فيُمسِك بهما إمساكَ من يُحبُّ، ومن يألَف، ومن يَحِنُّ.
• الذي أقوله لك ليس هو العلم، وإنما أنا أُبيِّن لك الطريق الذي تسير فيه.
• تعليقًا على قول الله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ»، قال شيخُنا: سبحانك وتعالَيْتَ يا الله!! يا سلام على كلمة (مقام أمين)!!، أعزُّ مكانٍ ومَقامٍ ما كان مكانًا ومَقامًا أمينًا، وأسوأُ مكانٍ ومَقامٍ ما كان مكانًا ومَقامًا مَخُوفًا، وأَنْعِمْ بمن جعلوا أرضَهم مقامًا أمينًا، والعَنْ يا رب مَن جعلوا أرضَهم مكانًا مَخُوفًا.
• ذكر الشيخ قول الله تعالى: }لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ{، ثم قال: والله ليس في هذا مجاز، وإنما هذه حقيقة؛ لأن الحجر لو نزل عليه القرآن لنطق من خشية الله.
• نحن أفسدنا الدنيا بمسألة الإغراق في المجاز، يقول الله تعالى: }إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ{، هذا ليس مجازًا عن الانقياد، لا يا سيدنا، مَنطِقُ الله للشيء: }كُنْ{ غيرُ مَنطقِي للشيء: }كُنْ{؛ لأنه هو خالق الشيء؛ فإذا قال له كُنْ كَانَ.
• السماء والأرض قالتا: }أَتَيْنَا طَائِعِينَ{، وما دام الله قد أوجدهما من العدم فليس بعيدًا أن يخاطبهما، وليس بعيدًا أن تَعْقِلا خطابه، وليس بعيدًا أن تقولا: }أَتَيْنَا طَائِعِينَ.{
• لا أقول لك: استنطق الكلام فينطق، وإنما أقول لك: اعقلْ ما يَنطِق به الكلامُ.
• أشهد أن كل جملة في القرآن معجزة، وأشهد أن كل جملة في القرآن تنادي للإيمان أن آمنوا بربكم.
• الله - سبحانه وتعالى - بعث رسلًا وأنزل كُتبًا، ولكنْ هناك شيءٌ آخر غيرُ الكتب وغيرُ الرُّسل، وهو هذا الكون الذي ينادِي كلُّ ما فيه أن آمنوا بربكم، ولو لم يبعث الله رسلًا ولم يُنزل كُتبًا لكان الكونُ خيرَ كتابٍ وخيرَ رسول، ولذلك الأعرابي الرائع قال: «البَعْرةُ تدلُّ على البعير، والأثرُ يدلُّ على المسير، وسماءٌ ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فِجَاج... »؛ ولذلك بعض علماء المسلمين يقولون إن أهل الفَتْرة غيرُ ناجِين، ويُحاسَبون على عدم إيمانهم بالله، ولا يُحاسَبون على أحكام الشَّرائع لانعدامها؛ لأن الإيمان بالله غيرُ محتاج لرسول؛ لأن كل ما في الكون ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم.
• نحن نُحلِّل كلام العلماء لنعرفَ كيف نَفْهمُ كلامَ الله.
• شاع أن التَّحدِّي بالسُّورة، والإعجازُ بالجملة؛ لأن السُّورة عبارةٌ عن جملتين أو ثلاث، ولو كان التحدي بالجملة – وهذا كلام العلماء – لأتى واحدٌ بجملةٍ دون جملة القرآن، ولكن يتعصَّب له المتعصِّبون ويُجادلون ويقولون إنها في درجة جملة القرآن الكريم.
• يا سيدنا، مُسيلمَةُ الكذَّاب بيننا، ولكن ليس مِن بيننا من يقول له: «إنَّك لكاذب، وإنَّك لتعلم أنَّك كاذب، وإنَّك لتعلم أنَّنا نعلم أنَّك كاذب»، وهذه مسألةٌ تحتاج إلى قوة نفوس، وإلى إنسانٍ مُحبٍّ للصِّدق ومُحبٍّ للحق.
• تعليقًا على قول الله تعالى: }وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ{، قال شيخُنا: لا تُفسِّرْ لي التسبيحَ بالدلالة المجازية؛ لأنه لو كان بالدلالة المجازية لما قال: }وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ{؛ لأننا نفهم التسبيح بالدلالة المجازية، والذي لا نفقهه هو التسبيح المسموع بالإذن والمفهوم بالعقل والذي لا يعلمه إلا الله.
• أوصي وأكرر الوصية: إذا مرَّتْ عليك جملة قرآنية ولم تتدبَّرْها فأنت مخطئٌ ومُقصِّرٌ أمام طلابك وأمام نفسك.
• الله خلق آدم وعلمه الأسماء كلَّها قبل أن يكلفه بشيء، وقرأت قوله تعالى: }خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{، فوجدتُ أن تعليم البيان في عقب خلق الإنسان، كما جُعِلَ تعليمُ آدم الأسماءَ في عقب خَلْق آدم، وهذا معناه أن فطرة البيان في نفسك قرينةً خَلْقية؛ فإذا أهملتَ فطرةَ البيان في نفسك كأنك أهملتَ خَلْقَك.
• الناس يَعدُّون اللغةَ طريقَ رُقيِّ الإنسان؛ لأنها هي المقترنة بخَلْق الإنسان، ولذلك كانت الشعوب إذا أرادت النهضة تبدأ بالنهضة اللغوية؛ لأنه إذا كان لأبناء الوطن سليقة بيانية جيدة فسيُرجَى منهم الخطوة الثانية التي بها تقدُّم البلاد.
• دهشتي من ذكاء العلماء وفَتْحِهم لأبواب العلم أكثرُ من دهشتي من علمهم.
• مهم جدًّا أن تسمع ليس صوتَ الكلام الظاهر الذي تسمعُه كلُّ الآذان، وإنما أن تسمعَ صوتَ الكلام الخفيِّ وهَمْسَه وهَمْهَمَتَه الخفيَّة ونَمْنَمَتَه الخفيَّة.
• البلاغةُ عامَّةٌ في البشر، ومسألةٌ إنسانيةٌ عامة؛ لأنها إرثٌ، جِينات من جِينات أبينا آدم، ولذلك حين أقرأ في كتب الحكماء غير العرب أجد أن حكمتَهم مَسُوقةٌ في بيانٍ عالٍ؛ لأن تفوقَهم في لغتهم الفارسية أو اليونانية فرضَتْ على مُترجِم كلامِهم أن يُبينَ عنه كما أبانوا، وأن يراعي فيه فصاحتَه وبلاغتَه حين ينقله إلى العربية.
• أنت إنسانٌ ما دمتَ تبحثُ عن إنسانية الإنسان.
• عزمتُ قديمًا أن أكتب بحثًا عن لفظ «قُلْ» في الكتاب العزيز، لكني تهيَّبتُ أن أقولَ في كلام الله ما ليس فيه، وقلت لنفسي: «اكتب في الشعر الجاهلي»؛ لأن علماءنا لم يكتبوا في التفسير إلا في نهاية عمرهم، ليس لأنه سيموت ويَعمَلُ لِلجَنَّة، وإنما لأنه طوال عمره يُعِدُّ عقله للكتابة في كلام الله، ولذلك كان آخر ما كتب الزمخشري تفسير الكشاف، وعبد القاهر كان آخر ما كتب دلائل الإعجاز.
• يتصل بي بعض الطلاب الصغار الهلافيت وأجده قد سجَّل موضوعًا للماجستير في القرآن الكريم، «يا ابني حرام عليك!! يا ابني حرام عليك!!»، يمكنك أن تُعدَّ رسالتَك في التفسير؛ لأنك لن تتعامل مع كلام الله تعاملًا مباشرًا، وإنما تتعامل مع كلام المفسر وتُرجِّحُه أو تُضعِّفُه بمراجعة كلام الآخرين من العلماء، أمَّا أن تقول: «ماذا أراد الله بقوله كذا؟» أنا لا أستطيع أن أُجيب؛ لأني لا أستطيع أن أتكلم عن مراد الحق، ومن ذا الذي يتكلم عن مراد الحق إلا الذي أنزل الله عليه القرآن؛ لذلك فكَّرتُ أن أُكلِّم مُديرَ جامعةٍ بأن يُعمِّمَ منشورًا في الكليات بعدم جواز تسجيل بحوث الماجستير والدكتوراه في القرآن، وبعضُ الجامعات العربية كانت تمنع ذلك بالقانون، ولا سيما في الماجستير.. ابتعدوا عن القرآن حتى تُعدُّوا أنفسَكم للقرآن، حتى أنا بعدما شِبْتُ وبدأتُ أكتب في (آل حم) كان هَمِّي كتب التفسير، وأُرجِّح بناءً على ترجيح علماء التفسير، وأعترض بناء على اعتراض علماء التفسير، ثم لو كان المعنى ظاهرًا ظهورًا شديدًا جدًّا يمكن أن أسيرَ بمقدار شِبْرٍ واحد، تسندني فيه الدلالة اللغوية الظاهرة.
• حين أقرأ ديوان امرئ القيس – وفيه ما فيه – يكون بنِيَّةِ أن أفهم اللغة حتى أستطيع أن أفهم }ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ{؛ لذلك الطاعة والمعصية يحددهما ما بين جنبيك، والنية التي أنت قائم عليها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد