فوائد من درس دلائل الإعجاز 25


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، يوم الأحد: غُرَّة جمادى الأولى 1446ه الموافق لـ 3 من نوفمبر 2024م:

القضيةُ التي أريدُ أن أبدأ بها الدرسَ هي أن عبدالقاهر طال حديثُه وطال رَدُّه على من يقولون إن مَزِيَّة الكلام ترجع إلى ألفاظه، وهؤلاء كانوا كثيرًا، وكان منهم علماءُ كبار، وقلت لكم إن منهم أبا هلال العسكري - وقد كتب كتاب الصِّناعتين بعد أن تجاوز التسعين، وفي «الصِّناعتين» كثيرٌ جدًّا من الكلام على أن المَزِيَّة تعود إلى الألفاظ - ومنهم ومنهم، لكنَّ إلحاحَ عبدالقاهر هذا، وهذا أهمُّ شيء، له قيمةٌ في تكوينك العلمي، هذه القيمة هي أنه يريد منك وأنت تقرأ الكلام العالِيَ أن تَستيقِنَ أنه ما كان عاليًا إلَّا لغزارة معناه؛ فابحث في الكلام عن معانيه، ولا تُشْغَلْ وأنت تقرأ الكلام العالِيَ بالبحث عن شيء في ألفاظه، وهذا مهمٌّ جدًّا.

وأنت تقرأ الكلامَ لا بُدَّ أن يكون كلُّ ما فيك؛ من عقل، ووَعْي، وفطنة، وبصيرة، مُركَّزًا ومُوجَّهًا إلى ما في الكلام مِن مَعانٍ؛ لأن الكلامَ لا يَفْضُلُ بعضُه بعضًا إلَّا مِن جهة معناه.

الذي تَميَّز به القرآنُ هو فَيْضُ معاني ألفاظه؛ القرآنُ يَستعملُ ألفاظَ العرب بمعانيها التي وَضَعَها لها العرب، ولكنَّ كلماتِ القرآن تَفِيضُ بالمعاني فَيْضًا لا يُعدُّ ولا يُحدُّ، وهذه عبارةُ العلماء.

فَضْلُ امرئ القيس على غيره بغزارة معناه، وفَضْلُ كلِّ شاعرٍ على شاعر بغزارة معناه؛ لأن غزارة المعنى هي التي دعتني إلى أن أتكلَّم، فأسكنتُ في كلامي المعانِيَ التي تتناسبُ مع ما جال في نفسي.

أنت تتكلَّم وأنا أتكلَّم، وأنت تَصِفُ وأنا أَصِف، وأنت تَرْضَى وأنا أرضى، وأنت تَغضب وأنا أغضب، إنَّما الذي جال في قلبي؛ من الوصف أو من الرِّضا أو من الغضب، حَجْمُه وسخاؤه وسَدادُه هو الذي يَتميَّز به كلامي عن كلامك؛ فكأن القضية في النهاية لا تَرجع لا إلى الألفاظ ولا إلى غير الألفاظ، وإنما تَرجع إلى الجِذْر الذي هو جَوَلانُ المعاني في القلوب.

فَضْلُ قائلٍ على قائلٍ لا طريقَ له ولا وَجْهَ له إلَّا غزارةُ ما جَالَ في قلبه .

لن أُميِّزَ بين كلامِ زيدٍ وكلامِ عمرو إلَّا بغزارة المعاني؛ لأن غزارةَ معاني زيدٍ هي ذاتُ زيد، وغزارةَ معاني عمرو هي ذاتُ عمرو، وفَضْلُ عمرو على زيد أو زيد على عمرو هو بسخاء هذه المعاني وسدادِ هذه المعاني، وهذا شيءٌ في غاية الأهمية.

جُذور المعرفة مهمَّة جدًّا؛ أنْ تَصِلَ في بحثك إلى جِذْر الحقيقة العلمية شيءٌ في غاية الأهمية، وإن لم تَصِلْ إليه فأنت لا تزال بعيدًا عن سواء السَّبيل.

اهتمَّ برأسِك؛ لأن فيه طاقةً لو عُنِيتَ بها أَغْنَتْكَ عن الكُتُب وأَغْنَتْكَ عن سَماع العلماء.

تعليقًا على قول الإمام عبدالقاهر: «ثمَّ إنه لو كان أكثرُ ألفاظ القرآن غريبًا لكان مُحالًا أنْ يَدخُلَ ذلك في الإعجاز، وأن يَصِحَّ التَّحدِّي به... »، قال شيخُنا: التحدِّي بالغريب ليس في حاجةٍ إلى عالِمٍ يُبيِّن فسادَه، ولا إلى كِتابٍ يُبيِّن فسادَه، وإنَّما في حاجةٍ فقط إلى فطرتِك التي فَطَرَ اللهُ الناسَ عليها؛ فالعقلُ الحيُّ ليس في حاجةٍ إلى عالِمٍ ليَتبيَّن له فسادُ هذا؛ لأن العقلَ الحيَّ يقول إن المُتحدَّى إذا تُحُدِّيَ بالغريب وكان من أهل العلم بالغريب فسيُبْطِلُ التحدِّي، ويأتي بلفظةٍ غريبةٍ في مقابل لفظةٍ غريبة.

يا ليتنا نُعلِّمُ طُلَّابنا الرجوعَ إلى فطرتهم وإلى عقولهم، وإيقاظَ هذه العقول؛ لأن العقلَ إذا تَيقَّظَ أَغْناكَ عن كثيرٍ من الأشياء، نعم تحتاج إلى العالِم في العويص، تحتاج إلى الكِتاب في العويص، وأكثرُ العلمِ ليس عويصًا، وإنما أكثرُ العلمِ قريبٌ جدًّا من الفِطْرة؛ فحَاوِلْ أن تكونَ فطرتُك هي النُّور الذي يُضيءُ لك الطريق.

إذا عَرَضَ العقلُ الحيُّ الفكرَ الحيَّ بَانتِ القضايا، ولم نَعُدْ بحاجةٍ إلى عالِمٍ أو كتاب؛ لأنَّ ظهورَ الحقيقة الفكرية يُغْنِيكَ عمَّن يُعلِّمُك هذه الحقيقة.

تعليقًا على الإفادة مِن طريقةِ الإمام عبدالقاهر في عرض المسائل العلمية، قال شيخُنا: أتعلَّم وأنا مُعلِّمٌ كيف كان غيري يُعلِّم.

التخلُّفُ يا خَلْقَ الله ليس منَّا ولسنا منه، حين دَخَلْنا منطقة التخلَّف دخلنا منطقةً خاطئة، نحن في التخلُّف غُرباء، كالغَريبِ الذي دَخل دارًا غيرَ دارِه.

حقائقُ المعرفة عندنا تَصنعُ إنسانًا أفضلَ وأروعَ وأجلَّ.

لا بُدَّ أن تقرأَ المقروءَ، أيْ: تُعِيدُ قراءةَ ما قرأتَ لتَفهمَ شيئًا آخر.

لو ركَّزْتَ وأنت تقرأ اللُّغةَ كما كان يُركِّز أبو الفتح لوقعتَ على مثل ما وقعَ عليه أبو الفتح.

أدهشَني أنَّ كلَّ علوم اللُّغة تَنطِق بها اللُّغة، وأنها ليستْ مِن كلام العلماء، وإنما هي مِن استنباط العلماء من اللُّغة.

لو سُئِلَ سيبويه عن الذي في «الكتاب» لقال: ليس هذا ممَّا قلتُه، وإنما هذا ممَّا استنبطتُه.. لو سُئِلَ عبدالقاهر عن كلِّ ما في «الدلائل» لقال: ليس هذا ممَّا قلتُه، وإنما هذا ممَّا استنبطتُه.

أهمُّ ما تَعلَّمتُه أني أُراجِعُ المُراجَعَ وأقرأُ المقروءَ بعقلٍ جديدٍ لأستخرجَ مِن المقروء ما لم يستخرجْه غيري.

تطرَّق حديث الشيخ عن اكتشاف بعض الآثار اللُّغوية المكتوبة في الجزيرة العربية إلى مسألة اكتشاف الآثار عمومًا على أيدي البعثات الأجنبية؛ فقال: نحن لا نَكتشِف، نحن ننتظر حتى يأتي طلياني أو إسباني أو فرنسي ليَكتشِفَ لي آثار آبائي. يا أخي، لو عَلِمَ أبوك أنك على هذا القَدْر من التَّفاهة لَطَلَّقَ أُمَّك قبل أن يَتزوَّجها؛ حتى لا تَلِدَ له واحدًا مثلَك.

حين أقرأ تاريخَ «موسى» في الكتاب العزيز وأقرأ تاريخَ مصر القديمة – و«موسى» كان جزءًا من تاريخ مصر القديمة - أجد أن الذين كتبوا تاريخ مصر القديمة كأنَّ «موسى» لم يُولَد، وكأنَّ بني إسرائيل لم يعيشوا فيها، وهذا هو مُستنقَعُ التخلُّف الذي سقطنا فيه لمَّا ضَلَلْنا الطريق.

كنتُ أبحثُ عن جُملةٍ قالها «قُصَيٌّ» لأقارن بين ما قاله «قُصَيٌّ» وما قاله «هاشِم» الذي جَدُّه «قُصَيٌّ»؛ لأن هاشمًا ابنُ عبد مناف بن قُصَيّ، وعن الجُملة التي قالها عبدالمطلب بنُ هاشم، وكنتُ أُريد أن أتلمَّس الفروقَ بين اللُّغات، حتى لمَّا استسقى عبدالمطلب كانت له لُغةٌ تَرى فيها شيئًا لم تَرَه في لُغةِ حفيدِه مُحمَّدٍ صلواتُ الله وسلامُه عليه.

العلمُ - يا عزيزي - يَفتحُ بعضُه البابَ لبعض، ولذلك ليس هناك شيءٌ اسمُه: كِتابٌ قال الكلمةَ الفاصلةَ في هذا الباب.

كلُّ ما في اللُّغة؛ مِن نَحْوٍ وغَريبٍ وبيانٍ، ممَّا استخرجَه علماءُ اللُّغة من اللُّغة، ولو سُئِلَ عبدالقاهر لقال: لم أقلْ كلمةً واحدةً في كتابي هذا (الدَّلائل) ولا في «أسرار البلاغة»، وإنَّما تَنبَّهْتُ إلى ما في اللُّغة وحَدَّثْتُ عن الذي رأيتُه في اللُّغة.

وأنا في سِنِّكم حين كان الاستعمارُ مسيطرًا على البلاد، ومَالَأَه بعضُ الهلافيت، كانوا يقولون إن علوم العربية ازدهرتْ بعد الترجمة، وإنها منقولةٌ من اليونان.. أحفادُ اليونان مُستعمرون للبلاد وأنت تقولُ لنا إن أجدادَهم هم الذين نَفَعُوا آباءكم!! أي: اقْبَلُوهم كما قَبِلَ آباؤكم آباءهم!! هل هذا مَنطِق؟! هل هناك خيانةٌ أكثرُ مِن هذا؟! فظَهَر في النِّهاية - بالعَقْل والتَّتبُّع - أن كلَّ سَطرٍ من سطور علوم العربية مُستخرَجٌ من العربية.

وَقَفَ الشيخُ محمَّد علي النجَّار - رحمه الله - عند مسألةِ ابن جنِّي: «تَصَاقُب الألفاظ لتَصَاقُب المعاني»، ورآها مِن النَّوادر العلمية الرَّائعة.

الشيخ محمَّد علي النجار - رحمه الله - مُحقِّقُ كتاب «الخصائص» لابن جني، كان إمامًا من الأئمَّة الكبار، وراقني ابنُ عاشور صاحب «التحرير والتنوير» حين ذَكَرَه وقال إنه شيخُه، وهو شيخي أنا أيضًا، وامتحنني في امتحان التَّعيين في الفرقة الرابعة بكلية اللُّغة العربية، ولمَّا سألَني في النَّحْو أحسستُ أنه يسألُني عن نَحْوٍ تُرْكِيٍّ؛ لأني لم أَفهَم مِن سؤاله شيئًا، فأنجدني ربُّنا بشيخي الجليل عبدالسَّميع شبانة، وكان معه في اللَّجنة؛ فبِلُطْفِه وعِلْمِه وحِكمَتِه قال للشيخ النجَّار: «أنا لا أَفهم مُرادَك!»، فقال له الشيخُ النجَّار: «فسَلْ أنت الطالبَ»، فبدأ الشيخُ يسألني وأُجيب، فقد كنت أحفظ المنهج.

الذين خدموا العربية حُبًّا في دِين الله أكثرُ وأفضلُ مِن الذين خدموا العربية لأنها لسانُ آبائهم؛ فهم أَعْطَوْا قلوبَهم لهذا اللِّسان لأنهم أَعْطَوْا قلوبَهم لهذا الدِّين.

هناك كَلماتٌ في سَطرٍ واحدٍ تحتاج مني في دراستها إلى نصف عُمْري، منها كلمةُ سيدنا عُمَر في زُهير بن أبي سُلمى، ولو كنتَ أنتَ مِن أهل العلم لكانتْ كلمةُ «عُمَر» تُرشِّح لك ديوان زُهير لتَكتُبَ فيه كتابًا أو أكثرَ؛ لأني أُريد أن أعرِفَ ما الذي جعل سيِّدَنا عُمَرَ يُحِبُّ زُهيرًا ويُفضِّله .

سيِّدُنا عُمَرُ كان يُحِبُّ زُهيرًا، وكلُّ من يقرأ زُهيرًا يُحِبُّ زُهيرًا، لماذا؟ لأن زُهيرًا كان يَكْرَهُ أن يُرِيقَ العربيُّ دَمَ العربيِّ، اطْلَعْ مِن قبرك اليومَ يا سيِّدنا زُهيرًا وانظرْ الذي نحن فيه! ماذا كنت تقول يا زُهير إذا رأيتَ الذي نحن عليه اليوم؟! إذا رأيتَ الذي في السُّودان؟!

أُحِبُّ الشَّعبَ السُّوداني، وعِشْتُ فيه ثلاثةَ أشهرٍ أستاذًا زائرًا في «أُمّ درمان»، وكانوا أكرمَ العرب وأكرمَ الناس؛ فمِنْ أينَ جاء هذا الخَرابُ الدَّائرُ الآن؟

هَمَمْتُ أن أدعوَ جِيلًا مِن عجائز العرب، وأنا معهم، لنَذهبَ إلى هؤلاء في السُّودان؛ لنقول لهم: اتَّقُوا الله في دمائنا؛ لأن الذي تُرِيقُه أنتَ ليس دَمَ سُودانيٍّ، وإنَّما هو دَمِي.

النَّابغةُ شِعرُه أعلى من شِعْر زُهير، لكنَّ رُوحَ زُهيرٍ المُحبِّةَ للعفو والمرحمة هي التي جعلتْه مُقدَّمًا عندي.

وأنا أقرأ زُهيرًا كنت أقول: لو أن سيِّدنا رسولَ الله بُعِثَ في حياة زُهير لكان زُهيرٌ أسبقَ مِن أبي بكرٍ في الإيمان برسول الله، لمَّا تقرأ ديوانَ زُهير تَشعُر أن قلبَه قلبُ طائر، قلبٌ طيبٌ، قلبٌ طاهر.

سيِّدُنا عُمرُ كان معروفًا بالشِّدَّة، وقال أبو جعفر المنصور ل«مالك»: «اكتبْ لنا كتابًا في السُّنَّة والفِقْه تَجنَّبْ فيه شدائدَ عُمَر ورُخَصَ ابن عبَّاس»، أرأيتَ الخليفة! ووَعْيَ الخُلفاء الذين قادوا أُمَمًا غالِبة! فقال «مالك»: «لقد عَلَّمَنِي العلمَ بكلمتِه هذه»، وكان كتابُه «المُوطَّأ».. ولا تَقلْ إن مالكًا كان يُنافِق؛ لأنه لم يكن مُحتاجًا لأحد، ولأن هؤلاء الكرام كانوا لا يُحبُّون مَن يُنافقهم.

تعليقًا على الخبر الذي أورده الإمامُ عبدالقاهر على لسان «الحجَّاج»، قال شيخُنا: «الحجَّاج» قُلْ فيه ما شِئتَ، وأنا معك؛ لأنه كان مُستبِدًّا، وكان طاغية، وكان يَقهر الناس، وأنا لا أُحِبُّ هذا الصِّنف، إنَّما أُحِبُّ القلوبَ التي فيها الرَّحمة حتى على المخطئ، قُلْ في «الحجَّاج» ما شِئتَ، لكن لا تَقُلْ إنه جاهلٌ؛ لأنه كان صاحبَ بصيرةٍ في اللُّغة وفي الدِّين، وأنا لمَّا أجِدُ حسنةً لإنسانٍ تُخفِّفُ عني سيئاتِه.

الظالمُ المُستبِدُّ لو كان ناجحًا في سياسة الناس، ونَقْلِ الناس من العُسْر إلى اليُسْر، ونَقْلِ الناس من الشِّدَّة إلى الرَّخاء، أقول: «يا ربِّ سَامِحْه في الاستبداد»، إنما حين يكون مُستبِدًّا وفاشلًا، فلأي شيءٍ أقول: «يا ربِّ سَامِحْه»؛ ف«الحجَّاجُ» كان مُستبِدًّا وكان ناجحًا، وهو خير من المُستبِدِّ الفاشل.

المُستبِدُّ النَّاجحُ خيرٌ من المُستبِدِّ الفاشل: المُستبِدُّ النَّاجحُ يُغطِّي نجاحَه على استبداده، والمُستبِدُّ الفاشلُ بئس ما هو؛ لأن الفَشلَ هو أسوأ ما في حياة البشر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply