فوائد من درس دلائل الإعجاز 10


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف الأحد: 23 رجب 1445هـ = 4 فبراير 2024م:

• الذي أُوصِي به هو أنه بعد الفراغ من درس مسألةٍ في البلاغة علينا أن نَجمعَ كثيرًا من كلام العرب الذي وردت فيه هذه المسألة: فَرَغْنا من (إنَّ) فكان من المفروض أن نجمع كثيرًا من الشواهد التي فيها (إنَّ) ونتدبَّرَها ونستخرجَ منها المعانِيَ التي درسناها.. فَرَغْنا من (إنَّما) فكان من المفروض أن نجمع كثيرًا من الشواهد التي فيها (إنَّما) ونتدبَّرَها ونستخرجَ منها المعانِيَ التي درسناها.

• بمقدار كثرةِ جَمْعِك للشواهد من كلام العرب في المسألة البلاغية الواحدة، وبمقدار تدبُّرك لها، وبمقدار وَعْيِك لمعانيها، تكون إفادتُك من هذا العلم، ويكون تحصيلُك من هذا العلم، فإذا قصَّرتَ في جَمعِ العدد الأكبر، أو لم تَمْنَحْه التدبُّر اللازم، أو لم تَعْقِلْ معانِيَه، فقد وَقَعْتَ في خَلَل، وعليك أن تُراجِعَ نفسَك.

• الذي سمعتموه مني كلُّه، والذي فهمتموه من الكُتب كلِّها، هو أنها تُعلِّمك التدبُّر فيما تقرأ، وتُعلِّمك التأمُّل واستخراجَ المعاني.

• إذا فَاتَك التدبُّرُ والتأمُّلُ واستخراجُ المعاني فيما تقرأ فقد فَاتَك العِلمُ كلُّه.

• في العلم أنت لا تُحصِّل معلومات، وإن كان هذا مهمًّا جدًّا، لكنَّ الأهمَّ هو أنك تقرأ لتُكوِّنَ نفسَك، وتُربِّيَ في نفسِك مَلَكَةَ الباحث وقُدرات العالِم.

• لن تُعلِّم أحدًا إلا إذا عَلَّمْتَ نفسَك، ولن تُكوِّن عقل أحدٍ إلا إذا كوَّنتَ عقلَك، ولن تَنفعَ جيلًا إلا إذا انتفعتَ أنت بما تَعْلَم.

• القراءة ليست عبادة؛ لأن العبادة مطلوبٌ بها التعبُّد فقط، إنما القراءة مطلوبٌ بها تكوينُ العقل الإنسانيِّ والمَلَكَة العلميَّة القادرة.

• أعجبني سعدُ الدِّين وأنا أقرأ من زمن بعيد تعريفَه للعلم، العلماءُ يقولون: «العلمُ تحصيل المعارف»، لكنْ هو يقول: «العلم تكوين مَلَكة وطبيعة في النَّفْس»، تكوين مَلَكة بها تَعْلَمُ ما خَفِيَ وإن لم تقرأه في الكتب، وبها تجيب عن السؤال الذي لم تقرأ جوابَه.

• تصديقًا لما قاله في أوَّل الدَّرس جمع شيخُنا عددًا من شواهد (إنَّما) في كلام العرب وحلَّلها، منها:

1- »وإنَّما يَهِيجُ كَبِيرَاتِ الأُمُورِ صِغَارُهَا»: القيمة هنا ليست في أن الصغائر تَصْنَعُ الكبائر، وهذا معنى جيد جدًّا، إنما المهم أن المتكلم دلَّ بـ «إنَّما» على أن هذا المعنى مما لا يُخالِفُ فيه مُخالِفٌ. كان للمتكلم أن يكتفيَ بقوله: «يَهِيجُ كَبِيرَاتِ الأُمُورِ صِغَارُهَا»، وهذا معنًى جليل، لكنه لما جاء بـ «إنَّما» دلَّ على معنًى أجلَّ، وهو أن هذه حقيقةٌ لا ينازع فيها منازع إلا إذا كان مُحبًّا للعناد.

2- »إنَّما المَرْءُ بأَصْغَرَيْه؛ قَلبِه ولِسانِه»: كلمة «إنَّما» أفادت الكلامَ دلالةً أخرى غيرَ الدِّلالة اللُّغوية المنصوص عليها بالكلمات، هذه الدِّلالة الأخرى هي أن هذا المعنى مما يوشك أن يَتَّفِقَ عليه الناس، وأنَّ ما دون ذلك ممَّا في الإنسان؛ من طوله وعرضه، وشكله وسَمْته، مما لا يُلتفَتُ إليه.

3- »عَصَانِي فَلَمْ يَلْقَ الرَّشَادَ وإنَّمَا.. تَبيَّنُ مِنْ أَمْرِ الغَوِيِّ عَوَاقِبُهْ»: عبد القاهر قال إن «إنَّما» إذا دخلت على المجهول سبقها ما يُوطِّئ لها فيَصِيرُ المجهولُ معلومًا؛ فالشاهد في هذا البيت ليس «وإنَّمَا تَبيَّنُ مِنْ أَمْرِ الغَوِيِّ عَوَاقِبُهْ»، الشاهد «عَصَانِي فَلَمْ يَلْقَ الرَّشَادَ»؛ لأنها لمَّا سبقت «إنَّما» جعلت ما دخلت عليه «إنَّما» كأنه معلوم.

4- »إنَّمَا تُنْجِحُ المَقَالَةُ في المَرْ.. ءِ إذَا صَادَفَتْ هَوًى فِي الفُؤَادِ»: ما لم يُصادِف هوًى في الفؤاد لا يَنتفِعُ به سَامِعُه ولو حفظه عن ظهر قلب، كأن المقالة تُنْجِح إذا صادفتْ هوًى في الفؤاد، وإذا صادفتْ هوًى في الفؤاد تلقَّاها الفؤادُ بالقبول، وإذا تلقَّاها الفؤادُ بالقبول فَعلَتْ فيها فِعْلَها.

5- »وفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلغَبِيِّ وإنَّمَا.. صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أنْ يَتَكَلَّمَا»: «وفِي الصَّمْتِ سَتْرٌ لِلغَبِيِّ» يُهيِّئ النفسَ لقبول «وإنَّمَا صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أنْ يَتَكَلَّمَا».

6- »ومَا الزَّيْنُ فِي ثَوْبٍ تَرَاهُ وإنَّمَا.. يَزِينُ الفَتَى مَخْبُورُهُ حِينَ يُخْبَرُ»: كأن الكلمات التي قبل «إنَّما» حملت إلينا شيئًا من «إنَّما»؛ فما دام الزَّيْنُ ليس في ثوبٍ تراه فإنه يكون في مَخْبُور الفتى، وهذا يَدلُّنا على قيمةٍ عند الناس؛ هي أن عقلاء الناس وكرام الناس لا يهتمُّون بالأُبَّهة ولا بالشكل، وإنما يهتمُّون بالجوهر وبالعقل وبما في الصَّدر والفِكْر، فليس الزَّيْنُ فيما تراه العينُ وإنما الزَّيْنُ فيما يَعْقِلُه العقل، وهذه هي معاني الإنسانية العُليا التي هي معاني التقدُّم.

7- »إنَّما يَصُولُ الكَرِيمُ إذا جَاعَ ويَصُولُ اللَّئيمُ إذا شَبِع»: معناه: أكرِمُوا كِرامَ النَّاس، سُدُّوا حاجة الكِرَام، لا تُهِينوا الكرام؛ لأنكم إنْ أَهَنْتم الكرامَ ضَيَّعتُم الكرام، وإذا ضَيَّعتُم الكرامَ فقد ضَيَّعتُم كلَّ نفيسٍ عزيزٍ على أرض أوطانكم. وفيه معنًى آخر هو: احذر مِن جَوْعَةِ الكريم؛ لأنه إذا جاع صال، ولا تعتقدوا أنه يمكن لكم أن تقهروهم بقوَّة القهر؛ لأن الكريم مهما قابلتَ صَوْلتَه بقوَّة القهر فلن تستطيع أن تُسكِتَها.

8- قول الجاحظ: «إنَّما الشِّعر صناعة، وضَرْبٌ من النَّسْج، وجِنسٌ من التصوير»: الجاحظ قال «إنَّما» ليَكْبحَ الأفكار التي حوله والتي أضلَّت الشعر، فهو لم يُنبئني بالحقيقة التي أسمعها فقط، وإنما أنبأني كذلك عن شيء في نفسه؛ هو أنه يريد أن يقول لمن حوله والذين اختلفوا في الشعر ومعانيه ومقاصده: «لا يجوز لأحدٍ أن يختلف في أن الشعر صياغةٌ وضربٌ من النَّسْج وجنسٌ من التصوير».

9- قول الله تعالى: }وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا{، كل الذي قبل: }مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا{ يُهيِّئ له، وكأن }مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا{ قيل قبل أن يُقال ما قبله.

10- قول سيدنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم وهو حديثٌ جليلٌ جدًّا لا أشبع من النظر فيه: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الماءَ فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أجادِبُ، أمْسَكَتِ الماءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا، وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلًَا، فَذلكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بذلكَ رَأْسًا ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الذي أُرْسِلْتُ بهِ": هذا الحديث يدهشني جدًّا جدًّا، وهو وحده الذي يُعلِّمك العلم: "مَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ" أي: الوحي، و"كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصابَ أرْضًا": تشبيه أول، والمراد به نحن، «نَقِيَّةٌ»: هي قلوبُ خيرِ من يَتلقَّوْن الوحي؛ قرآنًا وسُنَّة، «قَبِلَتِ الماءَ»: أي قبلت القرآن والسُّنة، "فأنْبَتَتِ الكَلَأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ": هذا أصله الماء فلمَّا قَبِلَتْه أنبتت شيئًا آخر هو الكلأ والعشب، والمراد به ما يُنتجه العقل الحُرُّ من التفكير والاستخراج والاستنباط من كلام الله وكلام رسوله؛ فقلوب الصالحين حين يقرأون القرآن والسنة لا يبقى القرآن والسُّنة في نفوسهم ألفاظًا يتلونها، وإنما تعمل الألفاظ عملها في القلوب والعقول والتفكير والتدبُّر فتنتج علمًا ليس نصًّا في الكتاب وإنما هو مستخرج من علم الكتاب، "وكانَتْ مِنْها أجادِبُ": كلمة «أجادب» هذه من لسان سيدنا رسول الله كلمة كبيرة معناها كبير، "أمْسَكَتِ الماءَ": أي حفظتْ الماء ولم تُنبت؛ فهي حَفِظَتْ ولم تَستخرِج؛ فإذا حَفِظْتَ العلم ولم تُضِفْ إليه فأنت من الأجَادِب، وإذا حَفِظْتَ العلمَ واستخرجتَ منه فأنت من النقيَّة، "فَنَفَعَ اللَّهُ بها النَّاسَ، فَشَرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعُوا": يا سلام!! صلَّى الله عليك يا رسول الله!! كأنها حين حَفِظَتْ ولم تُغيِّر ولم تَستنبِط أفادت فأخذ الناسُ عنها العلم، عَلَّمتُك وأنا أجدبُ وأنت نَقيَّة، وهذا فضلٌ من الله، فكل هذا الذي مضى دلَّني على الصِّنْف الثالث الذي جاءت به «إنَّما» في قوله: "وأَصابَتْ مِنْها طائِفَةً أُخْرَى إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلًَا".

11- «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ وَصَيَّرَتْ  ***  قِمَمَ المُلُوكِ مَوَاقِدَ النِّيرَانِ/   أَنْسَابُ فَخْرِهِمُ إِلَيْكَ وَإِنَّمَا  ***  أَنْسَابُ أَصْلِهِمُ إلى عَدْنَانِ»: إذا وقفتَ من هذين البيتين عند الشاهد: «وَإِنَّمَا أَنْسَابُ أَصْلِهِمُ إلى عَدْنَانِ» فقد أَضَعْتَ المعنى الجليل الذي هو: «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ».. يمكن أن تكون أنت من الذين تَرفع بهم العربُ العمادَ، وإذا لم تكن أنت فيمكن أن يكون ممَّن رَبَّيْتَ وعَلَّمْتَ مَن يَرفَعُ بهم العربُ العمادَ.

• أين مِنَ الناس من أقول له: «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ»؟! دُلَّني على واحدٍ يمكن أن أقولَ له – ولو كذبًا -: «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ»، ولو أن الكذبَ له حدود؛ فلا تأتِ على ميِّت وتَقُلْ له: «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ!!! ».

• الشعراء ليسوا كذَّابين؛ لأنهم وجدوا رجالًا فزادوا في أوصافهم ليكونوا رجالًا أفضل، ولو وُجد أبو تمام أو البحتري في زماننا لما قال: «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ»، مستحيل أن يُساعدَه لسانُه ويقولَ لـ«زيد بن عمرو»: «رَفَعَتْ بِكَ العَرَبُ العِمَادَ»، وكان شاعرٌ عظيمٌ مدح خليفةً من بني أمية، فراق الخليفةَ الشعرُ فقال: «ذهب الذين يُحسنون هذا الشعر»، فرد عليه الشاعر: «ذهب الذين يُقال فيهم هذا الشعر»؛ فغضب الخليفة!!

• الشِّعرُ له دِلالات، واللُّغة لها دلالات: وَصْف المجتمعات، أحوال الناس، رؤية الناس للحياة والأحياء.

• أحيانًا تجد الكلمة ليس لها دلالة في أصل المعنى، وإنما لها دلالة فيما يُحيط بالمعنى.

• قلت، وأقول، وسأظل أقول: العلم يُعلِّمني كيف أُحلِّل البيان، كلُّ علوم العربية من غاياتها الأساسية كيفية تحليل البيان؛ النحو يبدأ بالخطوة الأولى، ثم يأتي بعد ذلك كلُّ علوم العربية التي إنما تُعلِّمني كيف أفهم الكلام.

• الكلام له معانٍ كثيرة، وأحيانًا نأخذ معنًى واحدًا ونبيِّنه؛ فقول الشاعر: «وإنَّمَا صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أنْ يَتَكَلَّمَا» حين أعطيه حقَّه أجد فيه معنًى إنسانيًّا رائعًا جدًّا، يُبيِّن قيمة الناطقية في الإنسان، وأن منطق الإنسان ولسان الإنسان وكلام الإنسان هو حقيقة الإنسان، تكلَّمْ لأعرفَ من أنت، والمرء مخبوءٌ تحت لسانه.

• الوقوف عند موضع الشاهد ضَيَّع منا الكثير جدًّا، وأنا أُنبِّهكم وأنتم في مقتبل حياتكم إلى أنَّ الوقوف عند موضع الشاهد ضَيَّع منا الشاهد نفسَه، وضَيَّع منا دِلالتَه.

• كان علماؤنا يختارون الشواهد من خير الآداب ومن خير الحِكَم.

• احرص على أن يكون زَيْنُك في الذي بين جنبَيْك.

• الناس لم ينطقوا بـ «إنَّما» في الكلام الفارغ، وإنَّما نطقوا بها في المعاني الرائعة في نفوسهم التي يريدون أن يحفظها الناس عنهم.

• العلم ليس «إنما زيد قائم» و«إنما عمرو أخوك»، هذا عِلْمٌ نَعم، لكنْ من حكمة علمائنا أنهم جعلوا هذا العلم البسيط السهل يحمل دلالات إنسانية عالية؛ لأن تربية الجيل وإعداد الأجيال للمستقبل لم يَغِبْ عنهم.

• الكتب لا تُعلِّمني شيئًا مثلما تُعلِّمني التدبُّر.

• أهل الله حين يفكرون في كلام الله يقولون من كلام الله ما ليس نصًّا في كلام الله وهو من كلام الله، أي إنه لم يكن منه وإنما كان به، وهذه هي الحياة العلمية التي تفتح آفاقًا لا تنتهي.

• كما نزل القرآن على قلوبٍ نقيَّة في زمن النبوَّة نزل على قلوبٍ نقيَّة في غير زمن النبوَّة، وكانت قلوب الفقهاء من القلوب النقيَّة، ولا تزال قلوب العلماء تتلقَّى كلام الله، ولا يزال كلامُ الله يُنبت في قلوب العلماء الكلأ والعُشبَ الكثير، ولاحظْ أن الكلأ والعُشبَ هو ما به الحياة؛ فكأن القلوب الحيَّة تستنبط من كلام الله وكلام رسوله ما به تكون الحياة، وإن لم تكونوا ستفهمون بهذه الطريقة فليس للعلم قيمة، وهذا معنًى جليلٌ جدًّا جدًّا، ويقول لي إن الذي يَستخرج من كلام الله وكلام رسوله باقٍ إلى يوم القيامة، وإن كلَّ جيلٍ من أجيال الأرض يَستخرج من كلام الله ومن كلام رسوله ما يَسُدُّ به فراغَ زمانه، ثم يرجع القرآن إلى ربِّه يومَ القيامة بِكْرًا كأنه لم يؤخذ منه شيء.

• الكونُ آيات والقرآنُ آيات، فكأن الآياتِ الدَّالةَ على الله في القرآن هي ذاتُها الدَّالةُ على الله في الكون؛ لأن كلَّ ما لا يكون إلا من الله هو دالٌّ على الله؛ فالطير في السماء لا يكون إلا من الله، النبات في الأرض لا يكون إلا من الله، الرياح التي تشق السحاب لا تكون إلا من الله، وكذلك «الفاتحة» لا تكون إلا من الله، «البقرة» لا تكون إلا من الله، «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» لا تكون إلا من الله؛ فهذه آيات وهذه آيات.

• أعاد الشيخ - للمرة الثالثة - ذكر أبيات محمود الوراق:

إذا كان شُكْري نِعْمَةَ اللهِ نِعمَةً                عليَّ له في مِثْلِها يَجِبُ الشُّكرُ

فكيف بُلوغُ الشُّكرِ إلَّا بِفَضْلِه                وإنْ طَالَتِ الأيَّامُ واتَّصَلَ العُمْرُ

إذا مَسَّ بالسَّرَّاءِ عَمَّ سُرُورُها                   وإنْ مَسَّ بالضَّرَّاءِ أعْقَبَها الأَجْرُ

وما مِنْهُما إلَّا له فيه نِعْمَةٌ                     تَضِيقُ بها الأوهامُ والبَرُّ والبَحْرُ

ثم قال: رأيتُ أن أقولَ لكم: احفظوا ما جال في قلوب أهل الله؛ عسى الله أن يَبعثَ به في قلوبكم نظائرَ له.. احفظ هذه الأبيات وأنت تَعْقِلُ معناها، ومعناها يجري في قلبك وأنت لا تتكلَّم به، احفظها، وردِّدها، وأَكْثِرْ مِن تَرْدَادِها؛ عسى الله أن يبعث بها في قلبك نظائر لها.

• وقف شيخُنا مع قول الله تعالى: }إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{، فقال: }إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{ أي: ليس عليك إلا أن تُذكِّر.. يخاطب اللهُ خاتمَ الأنبياء والمرسلين وخيرَ خلقه صلوات الله وسلامه عليه بأنه ليس عليه شيء أكثر من أن يُذكِّر. تَنبَّهْ إلى علاقة الله بخلقه، وكيف يخاطب خير خلقه، يا محمد، أنت خير الخلق وخاتم الأنبياء وما عليك إلا أن تُبيِّن وتُذكِّر. وتأتي «إنَّما» للإشارة إلى أنك يا محمد لا بد أن تكون - بمعرفتك بربك وبمعرفتك بخلق ربك - لا تَجْهَلُ هذا ولا تُنكِرُه، لم تدهشني }إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{، الذي أدهشني }لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{، وأن الله - سبحانه وتعالى - ينهى خير خلقه عن أن يُسيطر على أيِّ عبدٍ من عباده مهما كانت منزلتُه؛ لأن رحمة الله وإكرام الله لبني آدم تَمْنعُ وتحول بين أي كائنٍ مَن كان وبين أن يُسيطرَ على من خلقهم اللهُ وكرَّمهم، وأنت يا محمد خير الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين ليس لك سلطان.. أرأيت مكانة ابن آدم عند الله؟!، أرأيت حرية ابن آدم عند الله واحترام ابن آدم عند الله؟!

}إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{ فيها معنى }لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{، لكن الله نصَّ على }لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{ لأنه يَعلَمُ أنَّ مِن أشرار عباده من يَرُوم السيطرة على خلقه، والله – سبحانه وتعالى – تأبى قدرتُه وتأبى مكانتُه أن يُسيطرَ أحدٌ من البشر على عبدٍ من عباد الله مهما كان هذا العبد؛ فهل هناك حرية إنسان وكرامة إنسان وحقوق إنسان واحترام آدمية إنسان أكثر من هذا؟! دُلَّني على حق من حقوق الإنسان أفضلَ من أن يقول خالق الإنسان لخير من خلق: }لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ.{

• الغريب أن الاستبداد في العالم تِسْعةُ أعشاره في أرض المسلمين، وهذا مُخالفٌ مخالفةً ظاهرةً لدِين الله، والمدهش يا سيدنا أن }لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{ قرآنٌ يُتلى!!!

• كُنْ مَنْ شئت: كُنْ يساريًّا، كُنْ ليبراليًّا، كُنْ علمانيًّا، كُنْ مسيحيًّا، ما دام الحق قد بدا لك، لكن كُنْ إنسانًا؛ لأن الإنسانية هي العلاقة التي بيننا، الإنسانية هي الروابط التي بيننا؛ فلا تَقتلِ الناس ولا تَهْدِمْ بيوت الناس وتَدَّعِي أنك مثقف، وأنك مُفكِّر، وأنك كذا وكذا وكذا.

• لن أتعامل معك بدينك وإنما أتعامل معك بإنسانيتك، ودينُك هذا بينك وبين الله، لن أتعامل معك بمذهبك السياسي وإنما أتعامل معك بالقدر المشترك الذي هو فِيَّ وفِيك، وهو إنسانية الإنسان.

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف الأحد: غُرَّة شعبان 1445هـ = 11 فبراير 2024م:

• هناك آيات قرآنيةٌ يجب الوقوفُ عندها ويجب الوَعْيُ بها؛ منها قول الله تعالى لنبيِّه: }إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ{، ومنها قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: }أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.{

• ليس مِن شَرْع الله أن نَقْهرَ العقلَ الإنسانيَّ على شيءٍ هو كارهٌ له. خالقُ الكونِ يَرفُضُ أن يَقْهرَ عقلًا على شيءٍ هو كارهٌ له؛ فلا يجوز لكائنٍ مَن كان أن يَقهرَ العقلَ الإنسانيَّ، أو يُكْرِهَ العقلَ الإنسانيَّ على شيءٍ يَكرَهُه هذا العقل، ولو كان حقًّا مِن مَحْضِ الحقِّ ولكنه عُمِّيَ عليه.

• الله – عزَّ وجلَّ – حَرَّم عِرْضَ الكافر، وحَرَّم مالَ الكافر، وحرَّم دمَ الكافر، وحرَّم ظُلمَ الكافر، وحرَّم قَهْرَ الكافر، وحرَّم الاستبداد بالكافر.. اسمعوا وعُوا، وحدِّثوا الناسَ عن هذا الدِّين، وتَعلَّمُوه أنتم أولًا لتستطيعوا أنْ تُعلِّموه الناس.

• فَرقٌ بين من يتعلَّم القاعدة – وهي ضرورةٌ – ومن يتعلَّم الطريقة التي تُوصِّلَ بها إلى القاعدة، الذي يتعلَّم الطريقةَ هو الذي يتعلَّم الطريقَ الذي يَمضِي فيه حتى يكونَ مِن أَشْبَاهِ العلماء.

• المُهمُّ أن يَفتحَ الله علينا جميعًا لكي نَفْهَمَ عَقلَ العلماء وهم يُفكِّرون في العلم.

• لن تَفهمَ العلمَ حقَّ الفَهْم إلا إذا وَعَيْتَ طريقةَ تفكير العالِم في العلم، وطريقةَ استخراج العالِم مسائلَ العلم، وطريقةَ عرض العالِم مسائلَ العلم؛ لأن هذا كلَّه نَبَعَ من شيء واحد؛ هو وَعْي العالِم.

• القضيَّة ليست تحصيلَ العلم فحسب، وإن كان هذا من الضَّرورات، إنَّما القضية تكوين المَلَكَة العلميَّة وبناء العقل الإنساني.

• العلمُ كلُّه - على اختلاف فروعه - أصلُه وفَصْلُه، ومَبدؤه ومُنتهاه = هو تكوينُ العقل الإنساني.

• إذا لم تكن العلومُ ستَبنِي لنا إنسانًا آخر فهي سِلعةٌ نأكل بها الخُبز.

• فرقٌ بين ما يَبنِي الإنسانَ ويُكوِّن إنسانًا جديدًا وعقلًا جديدًا وفكرًا جديدًا وبين سِلعةٍ نأكل بها الخُبز.

• تعليقًا على الفقرة رقم (421) التي قال فيها عبد القاهر إن النَّحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم عن انضمام (ما) إلى (إنَّ) على أنَّها «كافَّة»، قال شيخنا: معلومٌ أن عبد القاهر نَحْويٌّ بلَحْمِه ودَمِه، وأنه من كبار شيوخ النَّحو، وما توصَّل إليه النَّحويون جيِّد، لكنَّ هذا المفكِّر الجليلَ أضاف شيئًا فقال: إنَّ (ما) نَعَمْ تُبطِل عملَ (إنَّ)، لكنها أيضًا تُغيِّر المعنى، وإنَّ شُيوخَ النُّحاة عُنُوا بإبطال العمل وسكتوا عن إضافة معنًى جديد.

• هناك شيءٌ مهمٌّ جدًّا قُلتُه لكم، ولكنْ يجب أن أُذكِّرَكم به في كلِّ درس؛ هو أنَّ قراءة علمٍ كهذا العلم هي في جَوْهرها تُعلِّمني علمَ تحليل الكلام؛ علمَ استخراج معاني الكلام، وليس هناك مِن علوم اللغة ولا مِن علوم الشِّعر أفضلُ من العلم الذي يُعِينُك على فَهْم البيان.

• كلُّ ما يُقال في الشِّعر إنَّما المرادُ به كيف تَفْهَمُ الشِّعر، كلُّ ما يُقال في البيان ليس المرادُ به إلا كيف تَفْهَمُ البيان.

• تحليل الشواهد البسيطة في البيان يَضَعُ قدمَك على السُّلَّم العالي الرَّائع الذي إذا ارتقيتَ عليه تكون قد ارتقيتَ إلى المرتبة الأعلى، وهي حُسْنُ فَهْمِ البيان.

• في دراستك للشِّعر، ادرس مذاهب كلِّ أهل الأرض واترك معنى (إنَّما)، ومعنى (إنَّ)، ومعنى التعريف، ومعنى التنكير = تَكُنْ بمَعْزِلٍ عن دراسة الشِّعر.

• ادرس ديوان امرئ القيس وانْسَ دلالة (إنَّما)، انْسَ دلالة (إنَّ)، انْسَ دلالة التقديم، انْسَ دلالة «الواو»، انْسَ دلالة «الفاء»، إذا أهملتَ معانِيَ المباني فقد أهملتَ فَهْمَ الشِّعر ولو طبَّقتَ عليه مذاهب أهل الأرض.

• تريد أن تَفهمَ امرأ القيس؟ حَلِّلْ لُغةَ امرئ القيس، تريد أن تَفهمَ النَّابغة؟ حَلِّلْ لُغةَ النَّابغة، تريد أن تَفهمَ كلام الله؟ حَلِّلْ لُغةَ كلام الله.. وبدون ذلك أنت بعيدٌ عن السَّاحة وإن قُلتَ ما قُلتَ.

• حسبي أن أقولَ لكم أفضلَ ما عندي وبأقصى القُدرة التي عندي، ويفعل الله بكم ما يشاء.

• تعقيبًا على قول الإمام عبد القاهر في الفقرة رقم (422): «ثم اعلم أنَّك إذا استقريْتَ وجدتَها أقوى ما تكونُ وأَعْلَقَ ما تَرى بالقلب إذا كان لا يُراد بالكلام بعدها نفسُ معناه..»، قال شيخُنا: أرأيتَ يا ولد كلام عبد القاهر!!!، نصف هذا السَّطر يستغرق ساعةً منَّا لشرحه؛ «استقريْتَ» معناها «تَتَبَّعْتَ» مواقع (إنَّما) في كلامٍ كثير، فإذا لم تَسْتَقْرِ فلا كلام لي معك، فمن الذي يُعلِّم هنا: المُعلِّم أم الطالب؟!!

• أنا أُحدِّثُك عن (إنَّما)؛ فخُذْ حديثي وارجع أنت إلى لغة العرب، واسْتَقْرِ أنت مواقعَ (إنَّما)، وفَكِّرْ أنت في مواقع (إنَّما)، واستخرج أنت دلالات (إنَّما).

• لا أفهم لماذا وَقَفْنَا عند مَنْ يُعلِّمُنا، يا سيدي مَنْ يُعلِّمك هو مُرشِدٌ أرشدك إلى الطريق، ليس ثَمَّ أكثرُ من هذا، مَنْ يُعلِّمك لن يَحْمِلَك على كتفه ويَصِلَ بك إلى الغاية إلا إذا كنتَ من ذوي الحاجات.

• عبد القاهر يقول لك: أفضل مواقع (إنَّما) ليس هو الذي حدَّثتُك عنه، ماذا تقول يا سيدنا الشيخ؟!! بعد أن أتعبتني وأفنيتَ يومي تقول لي إنَّ (إنَّما) لها دلالاتٌ أفضلُ من كلِّ الذي قُلتُه لك، وإنَّ هذه الدِّلالات لن أُعلِّمَك إيَّاها، وإنما أنت الذي تستقصي كلام العرب حتى تقع عليها؟!!!

• عبد القاهر لا يَحْمِلُك على كَتِفِه ليُعلِّمَك العلم، وإنما يُوقِفُك أمامَه ويقول لك: «قلتُ لك ما هو واضحٌ وما هو غامض، وما فيه إشكالٌ وما ليس فيه إشكال، ولكنْ بَقِيَتْ جوهرةٌ رائعةٌ، بَقِيَتْ لؤلؤةُ اللآلئ»، ما هي يا سيدنا؟!!، يقول لي: «لن تَعرِفَها إلا إذا استقريتَ كلام العرب؛ فاسْتَقْصِ وستجد أنَّ (إنَّما) ليس فيها معنى النفي والاستثناء ولا كلُّ ما قلتُه، وإنَّما ما تفيده من التَّعريض».

• (إنَّما) إذا كان معناها التَّعريض فهي أقوى ما تكون وأَعْلَقُ ما تَرَى بالقلب، لماذا؛ لأنها لم تَدُلَّ على التَّعريض بنَصِّها ولفظها، وإنما جاء التَّعريض في جانبٍ من جوانبها.

• لا تَفْهَمِ النصَّ بصريحِ دلالاته فحسب، نَعَمْ صريحُ الدِّلالات شيءٌ جليلٌ جدًّا، ولكنْ اعْلَمَنْ أنَّ ما حول النَّصِّ ممَّا تَرمِي إليه إشاراتُ النَّص، وممَّا تُوحِي به رموزُ النَّص، وممَّا تومئ به إيماءاتُ النَّص = أفضلُ مِن معنى النَّص.

• شرحًا لكلام عبد القاهر في إفادة (إنَّما) التَّعريض، قال شيخنا: أنا أمامَ بابٍ جديد؛ عالِمٌ يقول لي: ليس معنى الكلام ما يدلُّ ظاهرُه عليه، وإنما هناك حواشٍ وأوديةٌ تترامى إليها إشاراتٌ من الكلام، إشاراتٌ وليس دلالات، إشاراتٌ هي وَحْيٌ ورمزٌ وإيماء؛ فإذا تتبَّعتَ هذه الإشارات التي هي وَحْيٌ ورمزٌ وإيماء = وَقَعْتَ على معنًى أَعْلَقَ بقلبِك من معنى ما يدلُّ عليه الكلام.

• بدأتُ أَفْهَمُ الشِّعرَ ليس بلُغة الشِّعر التي قال بها ونَصَّ عليها؛ لأن هذه ضرورةٌ لا مُفاصلةَ فيها، وإنَّما هناك جوانبُ وإشاراتٌ وإيماءاتٌ بعيدةٌ في الشِّعر؛ فحَدِّثْ عنها وأنت تُحدِّثُ عن الشِّعر، ولا تُهْمِلْها؛ لأنَّها أَوْقَعُ في القلوب ممَّا نطق به الشاعر.

• كلامُ عبد القاهر عَلَّمَنِي أن أفتحَ باب معنى النَّصِّ إلى أبعد الحدود، لكنْ في القرآن الكريم يجب أنْ تَحْكُمَنِي ضوابطُ الشريعة، وتَحْكُمَني رواياتُ السُّنة؛ فلا أذهب في دلالة الكلمة القرآنية حيث تذهب؛ لأن الكلمة القرآنية قُيِّدَ مُطْلقُها وبُيِّنَ مُبهَمُها؛ فأنا في القرآن الكريم مُلتزمٌ بمقاصد الشَّريعة وبالحلال والحرام وبكلام رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبالنَّاسخ والمنسوخ، إنما في الشِّعر أنا حُرٌّ.

• أعجبني أبو العلاء المَعَرِيُّ الذي لا تعرفونه، وربما يَعرِفُ بعضُكم أنه رجلٌ مُلْحِد!!! أعجبني حين جعل ابنَ القارِح – الشخصيةَ الخياليةَ التي صنعها أبو العلاء – يَجُوب في الجنَّة ويَجُوب في النَّار ويَجُوب في المكان الذي بينهما ليَرى قِممَ الشعراء وقِممَ العلماء؛ ما كان منها في النَّار وما كان منها في الجنَّة، ويسألهم سؤالاتٍ عن خلافاتِ الناس في شِعْرهم وعِلمِهم.

• ابنُ القارح عَرضَ على امرئ القيس فُهُومًا متعارضةً ومتناقضةً لطوائفَ من العلماء في بيتِ شِعرٍ له، فيُجيبه امرؤ القيس وهو في سلاسله وأغلاله: كلُّهم على صواب!! يا سلام!!، الذي يَفْهَمُ الشيءَ على صواب والذي يَفْهَمُ ضِدَّه على صواب!!؛ فمِن هنا فَتح الشِّعرُ أمامي آفاقًا لا حدود لها؛ لأن قدوة الشعراء قال لمن يفهمون الشيءَ وضدَّه مِن لفظِه: كلُّهم على صواب.

• يا ناس، أنا لا أشرح كتابًا، أنا أتعلَّم فِقْه صاحِبِ الكتاب.

• حين يقول لي عبد القاهر: «ثم اعلم» وأقرؤها وأنا مُغفَّلٌ فلن «أَعْلَمَ»، حين يقول لي: «ثم اعلم» - التي أقرؤها ولا ألتفت إليها – فإنَّما يقول: إنَّ أمرًا آخر خَطَرَ لي، وهو جليلٌ جدًّا؛ فاستيقظْ وتَنبَّهْ واعلمْ أني سأُحدِّثُك عنه.

• عَوْدٌ إلى قول عبد القاهر: «ثم اعلم أنَّك إذا استقريْتَ وجدتَها أقوى ما تكونُ وأَعْلَقَ ما تَرى بالقلب إذا كان لا يُراد بالكلام بعدها نفسُ معناه..»، قال شيخُنا: ما هذا يا مولانا؟!! (إنَّما) أفضلُ ما تكون إذا لم يُرَدْ بما بعدها نفسُ معناه؟!! أين نحن؟!!، هل نحن مستيقظون أو نائمون؟!!

• إذا كان لا يُراد بالكلام بعد (إنَّما) نفسُ معناه فيمكن أن أطوِيَ صفحة (إنَّما) وصفحة الكلام الذي بعد (إنَّما)، ولكنْ عبد القاهر يقول لي: إذا طويتَ صفحتَها وطويتَ ما بعدها ومعنى ما بعدها فاعلم أنها رَمَتْ رَمْيةً بعيدةً، وأشارت إشارةً بعيدةً، وأومأت إيماءةً بعيدة = إلى معنًى جليل جدًّا هو أَعْلَقُ ما تَرَى بالقلب.

• يا سيدنا أنا لا أشرح كتابًا، يا سيدنا أنا أقرأ معكم طريقة قراءتي لكلام العلماء.

• تعبيرًا عن نفاسة عبارة الإمام عبد القاهر: «ثم اعلم أنَّك إذا استقريْتَ وجدتَها أقوى ما تكونُ وأَعْلَقَ ما تَرى بالقلب إذا كان لا يُراد بالكلام بعدها نفسُ معناه..»، وما تحتاج إليه من يَقَظَةٍ وتنبُّه لإدراك مغزاها، قال شيخُنا وهو يَقْطُرُ أَسًى: «يا خسارة يا ولاد!!، يا خسارة يا ولاد!!، العلم مُحتاجٌ إلى عُشَّاق معرفة لا إلى طُلَّاب معرفة».

• شرحًا لقول الله تعالى: }إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ{، الذي ساقه الإمام عبد القاهر شاهدًا على إفادة (إنَّما) التعريض، قال شيخُنا: المسألة الأولى في القرآن الكريم، المسألة الأُمُّ في الكتاب العزيز، هي الإيمان بالغيب؛ ذلك أنَّ أهلَ الصِّراط المستقيم في قوله تعالى في سورة الفاتحة: }صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ{ هم الذين ورد ذِكْرُهم في أوَّل سورة البقرة: }الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.{

• اسمُ الإشارة الموضوعُ للبعيد في قوله تعالى: }أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ وقع موقعًا مذهلًا لا يُمكِنُ أن يُوجدَ أبدًا في شِعرٍ ولا نثر؛ لأنه قال: }أُولَئِكَ{ فمَيَّزهم أكملَ تَمييز، وحَسْبُهم هذا، وحَسْبُهم أن كلامَ الله يُميِّزهم أكملَ تَمييز، ليس هناك فَضْلٌ فوقَ هذا الفَضْل، ثم إن }أُولَئِكَ{ تشير إلى أنَّ ما قبلها مُستحِقٌّ لما بعدها؛ لاتصافه بما قبلها، وهذا كلامٌ حفظناه عن العلماء؛ لأننا لم نجد أصدقَ منه، ولا أحلى منه، ولا أفضلَ منه.

• لو حَذَفْتَ البسملةَ وجدتَ «البقرة» مُتصلةً بـ«الفاتحة»، وقد وجدتُ ذلك في كثير من سُوَر القرآن؛ لو حَذَفْتَ البسملةَ وجدتَ رأس هذه السُّورة امتدادًا لآخرِ ما كان قبلها من السُّورة.

• قراءةُ كُتُبِ العلماء تُعلِّمني كيف أقرأ القرآن.

• تعليقًا على الشطر الأول من قول العبَّاس بن الأحنف:

أَنَا لَمْ أُرْزَقْ مَحَبَّتَهَا   ***    إنَّمَا لِلْعَبْدِ مَا رُزِقَا

 قال شيخُنا: حين أقرأ الغَزَلَ في تاريخ العرب، وفي تاريخ المسلمين، أشعرُ أن هذه الشُّعوب كانت هنيئة، لا تبحث عن لقمة العيش، لم يكن الطعامُ والشَّرابُ ولوازمُ الحياة هُمومًا عندهم، فلما كانت هذه الأشياء هُمومًا غَلَبتْ كلَّ الهُموم صِرْنَا لا نقول: «أَنَا لَمْ أُرْزَقْ مَحَبَّتَهَا»؛ إذ كيف أُحدِّثُك عن أنني لم أُرْزَقْ مَحبَّتَها وأنا لا أجدُ لقمةَ عَيْشٍ يا مولانا؟!! كيف أشكو لك أنني لم أُرْزَقْ مَحبَّتَها ولا أشكو لك أنني لم أُرْزَقْ رَغِيفَ العَيْش؟!؛ فأنا أقرأ الغَزَلَ في تاريخ العرب لأفهمَ تاريخ العرب.. مَن يقول: «أَنَا لَمْ أُرْزَقْ مَحَبَّتَهَا» أَكَلَ وشَرِبَ، وليس في خاطره شاغلٌ لطعامِه وشرابِه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply