بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، الأحد: 15 شعبان 1445هـ = 25 فبراير 2024 م.
• القراءةُ ليست تحصيلَ العلم فحسب، وإنما هي سبيلٌ لتكوين العقل الصَّالح للكلام في العلم.
• العقل العلميُّ هو العقلُ المُتماهِي مع العلم، هو العقلُ المُتشاكِلُ مع العلم، هو العقلُ المُتشاغِبُ مع العلم؛ يَعْلمُ ما ظهر ويَعْلمُ ما خَفِيَ.
• شرحًا لقول العبَّاس بن الأحنف:
أنا لم أُرْزَقْ مَحبَّتَه *** إنَّما للعَبدِ ما رُزِقَا
قال شيخنا: البيت جملتان، ولا بد أن يكون عقلُك واعيًا لإدراك علاقة الجملة بالجملة، أو لإدراك علاقة الشطر الثاني بالشطر الأول؛ «أنا لم أُرْزَقْ مَحبَّتَها» تهيئةٌ لقوله: «إنَّما للعَبدِ ما رُزِقَا»، ولو وقفنا عند صريح قوله: «إنَّما للعَبدِ ما رُزِقَا» نكون قد وقفنا على سَطْحٍ يَعقِلُه كلُّ مَنْ له لسانٌ ينطق، إنما لا بد أن نتغلغل، وأن نقول: ما دام العبدُ ليس له إلا ما رُزق، والشاعر قاطعٌ بأنه لم يُرزق محبَّتَها، فلا بد أن أنتقل من هذا إلى شيء آخر غيرِ مذكور، وهو اليأسُ من مَحبَّتِها.
• الكلامُ يَسْقِي بعضُه بعضًا.
• لن أملَّ مِن أن أُكرِّرَ لك أن القراءة تُعلِّم عقلَك القدرةَ على التغلغل، القدرةَ على الدخول في باطن الكلام؛ لأنك لن تَفهمَ الشِّعر إلا إذا تغلغلتَ إلى باطن الشِّعر.
• إذا عَقلْتَ القاعدة من كلام المُصنِّف ولم تَرجِعْ بها إلى الأصل الذي استخرجها منه المُصنِّف -كانت قراءتُك قراءةً فاسدةً وباطلةً وليس لها قيمة.
• قراءتُك للكتاب تُعلِّمُك كيف تُحلِّل الشِّعر: أنت تقرأ كتابًا في البلاغة، أو تقرأ كتابًا في النَّحو؛ فلو عَقلْتَ تحليلَ العلماء للعلم، ثم نقلتَه أنت إلى تحليلك للشِّعر ظَفرْتَ بشيءٍ جليلٍ جدًّا.
• يا سيِّدنا، الكتابُ يُحاور عقلَك؛ فإذا حَفِظْتَ مادَّتَه ولم تَعقِلْ طريقةَ حواره الذي يديره الكتابُ مع عقلِك- فكأنَّك لم تقرأ.
• أهمُّ ما في قراءة الكتب ليس تحصيلَ العلم الذي فيها فحَسْب، وإن كان هذا جليلًا جدًّا، وإنما تكوينُ العقل، بناءُ العقل، بناءُ الإنسان، صناعةُ إنسانٍ تَعْمُرُ به الأرض.
• بناءُ الإنسان ليس شيئًا هيِّنًا؛ لأن الله خلق أباك وجعله خليفةً في الأرض، والخلافةُ في الأرض لن تكون إلا مِن إنسانٍ بُنِيَ بناءً إنسانيًّا عاليًا... والهَمَلُ المُهمَلُ الغافلُ ليس له قيمةٌ في خلافة الأرض.
• اللهُ علَّم آدمَ الأسماءَ، أيْ: عَلَّمه اللغةَ التي هي بوابةُ العلم.
• تعقيبًا على قول العبَّاس بن الأحنف: «وإنَّما يَعْذِرُ العُشَّاقَ مَنْ عَشِقَا»، قال شيخنا: قلتُ لكم كثيرًا إنني من الذين يكرهون التوقُّف عند الدلالة الظاهرة للشِّعر؛ لأنه لو تُوقِّف عند الدلالة الظاهرة للشِّعر ما نُقِل إلينا هذا الشِّعر من عصورٍ خَلَتْ؛ لأن العبَّاس ذَهَب، والصَّاحبةَ ذَهَبتْ، والعُذَّالَ ذهبوا وذهب زمانُهم، وتبقى في الشِّعر دلالةٌ أوسع: العشقُ شيءٌ إذا خَلتْ منه الحياة تكون قد خَلتْ من كلِّ خير، وليس العشقُ عشقَ الصاحبة فحسب، وإنما عِشقُ مكارم الأخلاق، عِشقُ المعرفة، أنت تعيشُ عاشقًا ولو لم يكن لك صاحبة؛ لأنك تعشق العمل، تعشق الجِد، أنت هائمٌ بباب من أبواب العمل وعاشقٌ له، يَنسحِبُ عليك قولُه: «وإنَّما يَعْذِرُ العُشَّاقَ مَنْ عَشِقَا»؛ فإذا وقفتَ بالعشق عند الصاحبة تكون قد قتلتَ الشِّعر وأطفأت ضياءه.
• تعليقًا على قول الشاعر:
ما أنتَ بالسَّببِ الضَّعيفِ وإنَّما *** نُجْحُ الأمورِ بقوَّة الأسبابِ
فاليومَ حاجتُنا إليكَ وإنَّما ***يُدْعَى الطَّبِيبُ لِسَاعَةِ الأوصَابِ
قال شيخنا: كلام حلو، جيد جدًّا؛ «ما أنتَ بالسَّببِ الضَّعيفِ» كلامٌ كغيره من الكلام، ولكنه مَهَّد به لهذا المعنى الرائع، وهو: «وإنَّما نُجْحُ الأمورِ بقوَّة الأسبابِ»، ولو أخذت هذا الشطر ضياءً في حياتك ستفعل أشياء جليلة جدًّا جدًّا، والأسبابُ هي: العمل، والجِدّ، وبَذْل أقصى الطاقة؛ فمن أجل أن تنجح لا بد أن تعمل وأن تبذل أقصى الطاقة، وبحكمةٍ وببصيرةٍ وبجِدٍّ.
• «وإنَّما نُجْحُ الأمورِ بقوَّة الأسبابِ» لو لم نُعلِّم الجِيلَ إلا هي لصنعتْ منه جيلًا جديدًا.
• لو أنَّ جيلًا من الأجيال بذل أقصى الطاقة في عمله، وبذل أقصى الإخلاص، وبذل أقصى الصدق - لتقدَّمت البلاد.
• يا سيدنا، الإسلام نقل العرب من جاهلية هادمة ومُهدَّمة إلى خير أجيال الأرض في عشر سنوات، صنع طبقة من البشر هم خير أجيال الأرض إلى أن تقوم السَّاعة في عشر سنوات.
• الإنسان إذا تغيَّر أحدثَ المعجزات، خَلْقُ الإنسان نفسُه معجزة؛ فإذا ما اجتهدتَ وبذلتَ أقصى الطاقة صَنعْتَ المعجزات.
• تعليقًا على قول الشاعر:
ما أنتَ بالسَّببِ الضَّعيفِ وإنَّما *** نُجْحُ الأمورِ بقوَّة الأسبابِ
فاليومَ حاجتُنا إليكَ وإنَّما *** يُدْعَى الطَّبِيبُ لِسَاعَةِ الأوصَابِ
قال شيخنا: أكثر من نصف عملي في تحليل البيان، وألاحظ روابط بين الشطر الثاني والشطر الأول؛ روابط تؤكد لك أن الشطر الثاني ابن الشطر الأول؛ تأمل: «يُدْعَى الطَّبِيبُ لِسَاعَةِ الأوصَابِ» وعلاقتها بـ «نُجْحُ الأمورِ بقوَّة الأسبابِ»، وأنه ما دامت قوَّةُ الأسباب تحتاج إلى معرفةِ مَنْ هو قادرٌ على قضاء هذا الأمر؛ فيُدعى الطبيبُ لساعة الأوصاب، ولو دعوتَ فقيهًا لساعة الأوصابِ لن تُفلح؛ لأن كلَّ واحدٍ له رسالةٌ: يُدعى الفقيهُ للفقه، ويُدعى الطبيبُ لساعة الأوصاب، ويُدعى السِّياسيُّ للسياسة، ويُدعى المجاهدُ للجهاد؛ فإذا اختلَّت الأمور ودَعَوْنا الفقيهَ لساعة الأوصاب فعلى الدنيا السَّلام، وإذا دَعَوْنا غيرَ السِّياسي لساعة السِّياسة فعلى الدنيا السَّلام، ولو دَعَوْنا غيرَ المجاهد لساعة الجهاد فعلى الدنيا السَّلام... انظر إلى تصحيح المسار؛ نحن نتكلم في البلاغة ثم نجدنا قد تركنا البلاغة وقد أصبحتْ ورقةً مِن غُصنٍ كبير، ودَخَلْنا في تكوين العقل الإنساني وبناء الحياة الأفضل.
• لا يبني الحياةَ الأفضلَ إلا الإنسانُ؛ فإذا أهملتَه فقد بَنيْتَ حياةً مُهمَلة، وإذا أحسنتَ تكوينَه وإعدادَه فقد بَنيْتَ الحياةَ الأفضل؛ فبمقدار إصابتِك في بناء الإنسان تكون إصابتُك في عمارة الأرض وبناء الأوطان.
• بناءُ الأوطان المُغْفِلُ لبناء الإنسان وَهْمٌ مِن الوَهْم؛ ابنِ الإنسانَ أولًا وهو يَبْنِي الأوطان.
• لا تتصوَّرْ أنك أنت الذي سيَبْنِي الأوطان يا سيدنا، لأنك لن تستطيع ولم يَخْلُقْكَ الله لهذه الاستطاعة، وإنما ابنِ ابنَ الأرض لِيَبْنِيَ.
• في الشِّعر لا تقف عند السطحيات البارزة التي يقف عندها التلاميذ المبتدئون، لا، حرِّك المعرفةَ بعقلِك تُحرَّكِ المعرفةُ عقلَك، عِشْ في المعرفةِ لتعيشَ فيك المعرفة، ولن يَبلغَ إنسانٌ في علمٍ أيَّ مبلغٍ ما لم ينقطعْ له انقطاعًا كاملًا.
• قلتُ لكم قديمًا كلمةَ الآمديِّ - وهؤلاء تكلموا عن تجارِب لا عن معلومات من الكتب - لمَّا قال لك: لا بد أن تنقطع للعلم حتى تُحِبَّ العلم وتُكبَّ عليه وتعيش في غوامضه... أعجبتني كلمةُ الآمديِّ وأفدتُ منها أكثرَ من إفادتي ممَّا كتبه في «الموازنة».
• إذا عشتَ مع العلم في ظواهره تكون قد فسَّرتَ الماءَ بعد الجَهْدِ بالماء.
• أبو تمام له روائعُ في الشِّعر حَسناتٌ تغفر له كبائر السيئات، والله قال لنا هذا: }إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ{؛ فلا تقف عند السيئات، وما دمت قد وجدت حسناتٍ فتأكد أن هذه الحسناتِ سيغفر الله بها السيئات.
• البحتريُّ كان صادقًا ورائعًا حين قال عن أبي تمام: «جَيِّدُه خيرٌ مِن جَيِّدي، ورديئي خيرٌ من رديئه»، نعم، نعم، ولو لم تَقُلْها لقلناها نحن يا أبا عُبَادة، ولو لم تَقُلْها لقالها شِعرُه.
• كلامُ الآمديِّ عن تجربةِ نفسِه دفعني إلى أن أبحث كيف كان العلماءُ علماءَ!! كيف كان النَّابِهُ نابهًا!! أيُّ شيءٍ جعل النَّابِهَ نابهًا!! أيَّ شيءٍ جعل الشَّافعيَّ فقيهًا!!
• الشافعيُّ كان شاعرًا غَلَبَ عليه الفقهُ فعُرِفَ به، وعكسُه تمامًا أبو نواس؛ كان من علماء القراءات فغَلَبَ عليه الشِّعرُ فعُرِفَ به، وأنا لا أعرف كيف غابت القراءاتُ عنه وهو يُولَعُ بالخمر ويستمتع بالمعصية، وأين القراءاتُ منك يا أبا نواس وأنت تقول:
وإنْ قَالُوا حَرامٌ قُلْ حَرَامٌ ***ولكِنَّ اللَّذَاذَة في الحَرامِ
ويلٌ لك!!! ولذلك في آخر أيَّامه تاب توبةً نصوحًا، وله شِعرٌ في الضَّراعة والرجوع إلى الله والنَّدم على ما كان، لمَّا قرأتُه قلتُ في نفسي: رَجَعَتْ لك القراءاتُ يا أبا نواس!
• مسألةُ أبي نواس هذه ذكَّرتني مقالًا كتبه أحمد حسين -رحمه الله، وكان من رجالات مصر الكرام- في ذكرى طه حسين في مجلة الثقافة، فجعله رئيس التحرير عبد العزيز الدسوقي أولَ مقالٍ في المجلة؛ لأن أحمد حسين لا يتقدَّم عليه أحد... ذكرَ أحمد حسين أن طه حسين دخل النَّصرانية، وأن الذي اتَّهمه بذلك هو سكرتيره النصرانيُّ الذي عاش معه، ثم خاصمه في آخر أيامه، وقال إنه دخل النَّصرانية بتاريخ كذا، وفي كنيسة كذا، وصدَّق أحمد حسين على كلام هذا السكرتير مستدلًا بأن هذا التاريخ كتب فيه طه حسين كتابات تعارض الإسلام... ثم إن القرآن غَلَبَ على عقل طه حسين فصار قبل أن يموت لا يسمع إلا القرآن... حفظ القرآن أولًا وذَهبتْ به المذاهبُ ما ذَهبتْ حتى دخل النَّصرانية ثم عَصَمه الله بما حَفِظَ من القرآن في أول حياته.
• حرَّم الله علينا أن نَحكم على رجلٍ من أهل الإسلام بالنَّار لكثرة معصيته، أو أن نَحكم لرجلٍ من أهل الإسلام بالجنَّة لكثرة طاعته، وذلك لحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... فإنَّ الرجلَ منكم لَيعملُ حتى ما يكون بينه وبين الجنَّة إلا ذراعٌ فيَسْبق عليه كتابُه فيَعملُ بعمل أهل النَّار، ويَعملُ حتى ما يكون بينه وبين النَّار إلا ذراعٌ فيَسْبق عليه الكتابُ فيَعملُ بعمل أهل الجنَّة"... أرأيت ما في هذا الحديث الشريف من سلامة المجتمع، وعدم انشغال أحدٍ بالحكم على الآخرين، وتَرْك ذلك لربِّ الناس.
• عبدالقاهر كان يُحذِّرنا من أن نَفهمَ معنًى من كتاب الله إلا إذا وَعَيْنا اللفظَ الدَّالَّ على هذا المعنى والذي خرج منه هذا المعنى، حتى نُبعِدَ عن القرآن كلَّ معنًى لا يَخرجُ مِن لفظِ القرآن... وهذا هو منهج التحليل في القرآن، ومنهج التحليل في البلاغة، ومنهج التحليل في الشِّعر، ومنهج التحليل في التفسير... إلخ.
• تعليقًا على قول عبدالقاهر: «... وطَلَبِ الشيء من مَعْدِنه»، قال شيخنا: لو أننا عِشْنا نطلب الشيءَ من مَعدِنِه لما ظَلَمْنا مظلومًا، ولا أهنَّا كريمًا؛ لأن المعرفة الصحيحة والدقيقة التي تَهدِيك إلى مَعدِن الأشياء هي الطريقُ المستقيمُ الذي ندعو الله في كل صلاة أن يَهدِيَنا إليه.
• تعليقًا على إثبات الشيخ محمود شاكر حاشيةً من كلام الإمام عبدالقاهر، قال شيخُنا: هذه الحاشية التي هي من كلام عبدالقاهر تدلُّ على أنه بعدما ألَّف الكتاب هَمَّ بأن يَزِيدَ بعض المسائل توضيحًا، فكتب تعليقاتٍ على مسائلَ فيها جزءٌ من الذي في الكتاب وزيادةُ بيانٍ للذي في الكتاب، ثم شاء الله أن يأتيَه الأجلُ قبل أن يُدخِلَ هذه الحَواشِيَ في مواضعها من الكتاب، ولذلك تجد المؤلفَ يَكتب مُسوَّدةَ كتابٍ ثم يأتيه الموتُ فلا يُراجِعُ هذا الكتاب، ومنهم محمود شاكر نفسُه، وإن كانت قد نُشرت هذه المسوَّدات.
• لـ }إنَّما{ في القرآن مواقعُ جليلةٌ جدًّا؛ فالجملة التي بعدها يقول لنا الحقُّ إنه لا ينبغي أن يُجادِلَ فيها مُجادِل أو يُنكرَها مُنكِر، وراقني قولُه سبحانه وتعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{، المسألةُ هنا ليست الإخبارَ بأن المؤمنين إخوة، المسألةُ أن الله يقول لنا إن أُخوَّة المؤمن للمؤمن ممَّا لا يجوز أن تختلفوا فيه، وإنها ليست مجالًا للجدال ولا المناقشة ولا المنازعة، وإنما هي حقائقُ ينبغي للجميع أن يُسلِّم بها، ينبغي أن تُسلِّم بأنك وأنت في أقصى جنوب الأرض أخٌ للمؤمن في أقصى شمالها، ولو لم تعرف جِنسَه ولا اسمَه ولا شيئًا من ذلك، ينبغي أن تُسلِّم بأنك وأنت في أقصى شرق الأرض أخٌ للمؤمن في أقصى غربها.
• أُخوَّةُ المؤمن للمؤمن صُنْعُ الإله المُعْجِز؛ لأنه هو الذي قال: }وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ{، وليس أنت بهواك وعواطفِك وحُبِّك ورغبتِك وثقافتِك وتَدَيُّنِك الذي ستُحِبُّ المؤمنَ الذي في أقصى الأرض، إنَّما الذي فعل هذا الأمرَ المعجزَ هو الذي خَلقَك وهَداك إلى «لا إله إلا الله مُحمَّدٌ رسول الله».
• يُدهشني جدًّا أن يتعاطفَ قلبي مع ما يُصيب المسلمين من مَكارِهَ في أقاصي الدنيا وأنا لا أعرف أرضَهم، ولا أعرف أسماءهم، ولا أعرف أجناسَهم، قلبي هكذا لأن الله صَنَعَ فيه هذا.
• قولُه تعالى: }لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ{ يشمل ما في الأرض من ثروة، ما في الأرض من ثقافة، ما في الأرض من فلسفة، ما في الأرض من علوم، ما في الأرض من معارف... كلُّ هذا لا يؤلِّف بين القلوب، وإنما الله هو الذي يؤلِّف بينها.
• التأليفُ الحَقُّ بين قلوب أهل الإيمان مِن أمارات الألوهية؛ لأنه ليس أحدٌ يستطيع ذلك: الفلاسفة لم يَقْدِروا على جَمْعِ الناس في إقليم واحد، ولا المفكِّرون، ولا المذاهب الليبرالية أو الفلسفية أو السياسية... إلخ، إنَّما الذي خَلَقَ هو الذي صَنَعَ، هو الذي يقول للشيء: كُنْ فيكون.
• تحليلًا لقول قَتَبِ بنِ حِصْنٍ:
ألَا أيُّها النَّاهِي فَزَارَةَ بعدَمَا *** أَجَدَّتْ لِغَزوٍ إنَّما أنتَ حَالِمُ
قال شيخُنا: إذا وقفتَ فقط عند «إنَّما» التي هي موطن الشاهد تكون قد أضعتَ الشِّعر، وإنما قِفْ عند «ألَا» التي لا يأتي بها العربيُّ إلا مُقدِّمةً لكلامٍ له خطرٌ وله بال، ثم قِفْ عند النِّداء بـ «أيْ» وهاء التَّنبيه في «أيُّها»، ثم أين «فَزَارة» هذه الآن!!! هل تعرفون قبور أهل «فَزَارة» لكي تُنهِضُوهم وتُخرِجُوهم من قبورهم؛ لأنهم هم القوم الذين إذا نهضوا لغزوٍ لا يستطيع أحدٌ أن يرجع بهم عنه!!! ألا نستطيع أن نُوقِظَهم من قبورهم ونُرسِلَهم إلى «غزة»!!!
• الوَلَعُ بالأدب القديم ليس ضَياعًا للوقت، وإنما هو أن تُقدِّم للجيل الحيِّ سِيرةَ آبائه الأوَّلين فيأخذ منها ما هو في حاجةٍ إليه ويَدَعُ منها ما ليس في حاجة إليه؛ سأُقدِّم له قولَ أبي نواس:
وإنْ قَالُوا حَرامٌ قُلْ حَرَامٌ *** ولكِنَّ اللَّذَاذَة في الحَرامِ
وسأُقدِّم له قول قَتَبِ بنِ حِصْنٍ:
ألَا أيُّها النَّاهِي فَزَارَةَ بعدَمَا *** أَجَدَّتْ لِغَزوٍ إنَّما أنتَ حَالِمُ
وهو سيترك أبا نواس ويتشبَّث بهذه النَّخوة وهذه الرُّجولة وهذه العزيمة وهذا الجِد.
• من إعجاز القرآن أن الله حدَّث عن اليهود زمنَ نزول القرآن، والحديثُ عن اليهود الذي كان زمنَ نزول القرآن هو مُنطبِقٌ تمام الانطباق على يهود زماننا؛ فإذا قيل لهم: }لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ{ يَكذِبون ويُناوِرون ويَحتجُّون ويأتون بعكس ما اتُّهِموا به ويقولون: }إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ.{
• لمَّا قرأتُ قول الله تعالى: }ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ{ قلتُ في نفسي: لا يمكن لإنسانٍ أن يَقبلَ أن يَهدِمَ الدَّار على مَنْ فيها من رجالٍ ونساءٍ وأطفالٍ وفي قلبه ذرَّةٌ من الدِّين، لأني على يقينٍ أن هؤلاء ليسوا يهودًا؛ لأن اليهودية والتوراة نور وهدى، وإذا أردت أن تتأكَّد من وجود القلوب التي هي كالحجارة أو أشدَّ قسوة فانظر إلى ما يحدث الآن، فأنت بذلك تَجِدُ بُرهانَ القرآن ودلالتَه على أنه من عند الله تُوافِيك من كلِّ جهة.
• حين أجد شواهدَ من الشِّعر وشواهدَ من القرآن في بابٍ واحدٍ يَرُوقُني هذا جدًّا، وأشرحُ مَوضِعَ الشَّاهد، ولكني أنظر في مضمون الآية وفي مضمون الشِّعر فأجد فرقَ ما بين الخالق والمخلوق.
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، الأحد: 19 شوال 1445هـ = 28 إبريل 2024 م.
• في «دلائل الإعجاز» خصوصًا أبوابٌ من العلم سكت عنها المتأخرون ولم يُدخلوها في الدرس البلاغي؛ لأنها كانت غالبًا تدقيقاتٍ علمية لدفع شُبَه واهية، والمتأخرون كانوا يَقصدون من علم عبدالقاهر إلى ما يُحقِّق ويُقِيم أبواب علم البلاغة ومباحثَه، وهذه المناقشات التي تستهدف دَفْعَ شُبَهٍ واهية كانوا يعتقدون أن مَن يُحْكِمُ العِلمَ لا يَقَع فيها... [كرَّر شيخنا هذه الفائدة لأهميتها].
• البلاغيون المتأخِّرون كانوا يرون أن مَن يُحْكِم ما أخذوه من علم عبدالقاهر لا يحتاج إلى ما تركوه من علمه.
• المسألة في أَخْذِ المتأخرين وتَرْكِهم من علم عبدالقاهر ليست مسألة أبوابٍ أُخِذَتْ أو أبوابٍ تُرِكَتْ، المسألةُ مسألةُ فِكْر: لماذا أُخِذَ ما أُخِذَ؟ ولماذا تُرِكَ ما تُرِكَ؟ العقل العلميُّ لا بد أن يقف عند هذه الأشياء، وأن يبحث فيها.
• لن تستطيع أن تدرك قيمة الكتاب الذي تقرأ - مهما كان ذكاؤك - إلا إذا قرأتَ كتبًا قبله في بابه وقرأتَ كُتبًا بعده في بابه؛ لأن قراءتك للكتب قبلَه في بابه ستُبيِّن لك إلى أي مدًى أضاف، وستُبيِّن لك إلى أي مدًى كان فكرُه ترديدًا لفكر من سبقوه أو كان فكرُه فكرًا مستقلًا، وستُبيِّن لك هل تسمع صوتًا طالما سمعتَه أو ستسمع صوتًا لم تسمعه... أما قراءتك للكتب بعده في بابه فلِتتبيَّنَ إلى أي مدًى تأثَّر به من بعده: هل أهملوا عِلمَه، أو أخذوا عِلمَه، أو أخذوا بعضَ علمه وتركوا بعضَه؟! وهذه كلها أشياء لا بد منها في فَهْم المعرفة، ولا بد أن تدركها وإلَّا كان عِلمُك علمًا فارغًا لا قيمة له.
• إذا كانت المسألة أن أَدْرُسَ باب التشبيه وباب التقديم وعلم المعاني وعلم البيان وكفى الله المؤمنين القتال، فليس هذا علمًا، وإنما هو سطحية لا تُذْكَرُ في باب العلم، إنَّما العلمُ معرفةُ حقائقَ ودقائق... وهذا الذي قُلتُه لكم لا بد أن يُزرعَ في القلب لا أن يُكتبَ في صفحةٍ إلا صفحةَ العقل الذي تريد أن تُربِّيَه.
• لمَّا تبيَّن لي وأنا مبتدئ أن في كتاب «دلائل الإعجاز» مباحثَ وأبوابًا أهملها المتأخرون - وليس في «أسرار البلاغة»؛ لأن كل ما في «الأسرار» أُخِذَ غالبًا، ما عدا أشياء تتعلق بالتذوق والتحليل... إلخ - فكرتُ أن أكتب كتابًا فيما تركه البلاغيون من علم عبدالقاهر، وبدأتُ الكتاب، ولكنْ وأنا أعمل فيه غلبتني أشياءُ وجدتُ أنها أهمُّ فخرج كتابي «مدخل إلى كتابَيْ عبدالقاهر»، وهذا حدث لي كثيرًا: أريد بابًا من أبواب العلم، وحين أشرع في الكتابة تفتح الكتابةُ لي آفاقًا أخرى فأراها أفضل.
• الزمخشريُّ أخذ من «دلائل الإعجاز» ما يحتاجُه في تحليل القرآن الكريم وتفسيره.
• لو جَعلتَ السكاكيَّ قبل الرازيِّ لم تكن مخطئًا؛ لأن السكاكيَّ قيمةٌ علميةٌ جليلةٌ جدًّا.
• لما قرأتُ كتب البلاغة قبل عبدالقاهر وجدت أشياء عجيبة جدًّا؛ وجدت أن حديث عبدالقاهر عن بلاغة اللِّسان البشري لا بلاغة اللِّسان العربي حديثٌ قديمٌ جدًّا وشائعٌ جدًّا؛ لأنهم حين بدأوا يُعرِّفون البلاغة ذكروا حَدَّ البلاغة عند الفارسي، وحَدَّ البلاغة عند اليوناني، وحَدَّ البلاغة عند الهندي، وحَدَّ البلاغة عند الرومي؛ فدلَّ ذلك على أن الحديث عن الإنسان وليس عن جنسٍ من أجناس الإنسان، وأن البلاغة فطرةُ النفس البشرية وليست فطرةَ النفس العربية، وكأن البلاغة شيءٌ واحدٌ في الأمم، ولكنْ لكل أمة مذهبٌ في بناء بلاغتها.
• حين تتأمَّلُ تعريف الفارسيِّ للبلاغة، الذي هو: «معرفة الفصل من الوصل»، تراه مهتمًّا جدًّا جدًّا بوحدة الفكرة وبوحدة معاني البيان، وأن هذه الوحدة هي التي تعطيه صفة البلاغة؛ لأن الفصل والوصل مقاطعُ الكلام، والبليغ هو الذي يَعرف هذه المقاطع؛ فكأن أهم عنصر في بلاغة الإنسان هو أن يكون كلامُه آخذًا برقاب بعض، وأن يكون كلامُه مُتآلفًا أولُه مع آخره، وأن تكون أجزاءُ الكلام مرتبطًا بعضُها ببعض، وألا تتنافرَ المعاني وألا تتباعد... فهذه هي رؤية الفارسي، وهي رؤيةٌ جيدةٌ جدًّا، وداخلةٌ في صميم البلاغة العربية وفي صميم البلاغة الإنسانية.
• اليوناني عرَّف البلاغة بأنها «تصحيح الأقسام»، وتصحيح الأقسام هذا بابٌ من أبواب البديع، أي: مُتَّفقٌ عليه، والرومي قال: «البلاغةُ أن تُجيبَ فلا تبطئ وتقولَ فلا تخطئ»... [هذا تعريفُ صُحارٍ العَبْديِّ للبلاغة حين سأله عنه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، أما تعريف الرُّوميِّ للبلاغة – كما أورده الجاحظ – فهو: حُسْنُ الاقتضاب عند البداهة، والغزارة يوم الإطالة].
• المُراجَعةُ تقول إن الفارسيَّ وهو يتكلم عن البلاغة تحدَّث عن الكلام البليغ، وإن اليونانيَّ وهو يتكلم عن البلاغة تحدَّث أيضًا عن الكلام البليغ، وإن الرُّوميَّ وهو يتكلم عن البلاغة تحدَّث عن المتكلم البليغ، ثم تجد بعد ذلك كلامًا عن اللفظ المتخيَّر، واللفظ الذي له ماءٌ ورونق، والمعاني المختلجة في الصدور، والمعاني المتمثِّلة في القلوب... وكلُّ ذلك كلامٌ في البلاغة؛ إمَّا في الكلام وإمَّا في المتكلم، وليس فيه شيءٌ عن: كيف يكون الكلام بليغًا؟ وكيف يكون المتكلم بليغًا؟
• القضية في البلاغة ليست الكلام وليست المتكلم، وإنما القضية هي: كيف يصنع المتكلم الكلام البليغَ؟
• لم أجد أحدًا بدأ يُحدِّث عن كيف يصنع المتكلم الكلامَ إلا عبدالقاهر، وهذا شيءٌ عجيبٌ جدًّا، ولو وجدتَ خلافَ ما أقول نبِّهْني وعرِّفني كما عرَّفتُك.
• الجاحظ وأبو هلال وابن سنان كلُّهم كرَّر ما قِيل في معنى البلاغة، وجاءت عقليةُ عبدالقاهر المتفرِّدة ولم تذكر لي شيئًا من هذا الكلام؛ فلم أجد في «أسرار البلاغة» ولا في «دلائل الإعجاز» حدَّ البلاغة عند الفارسي ولا شيئًا من ذلك، وإنما ابتدأ في «الأسرار» بتحليل البيان، وانتقل في «الدلائل» إلى الحديث عن كيفية صناعة المتكلم للكلام.
• هناك مرحلتان في الدرس البلاغي عند عبدالقاهر؛ المرحلة الأولى تحليل البيان: تحليل الشعر، والشعر بين أيدينا، وتحليل النثر، والنثر بين أيدينا، وجاء في «دلائل الإعجاز» وبدأ يتحدَّث عن كيف يصنع المتكلمُ الكلامُ.
• المتأخرون - وهم علماء وأئمة كبار - وهم يضعون البلاغة في صورتها النهائية لم يقولوا: قال الفارسي كذا، ولا قال اليوناني كذا، ولا قال الرومي كذا، وإنما ركَّزوا على عبدالقاهر، فأدركتُ هذه الحقيقة الجليلة: أن عبدالقاهر عوَّل على فِكْرِه وأصاب، وأنه سُبِقَ بأئمةٍ ولكنهم لم يُقنعوه بما قالوه؛ لأن كلامهم انحصر في وصف الكلام البليغ أو في وصف المتكلم البليغ، وإنما الذي يُرضِيه هو البحث في الذي يَعْمَلُه الإنسانُ حتى يُنتجَ كلامًا بليغًا، وهذا هو ما وقف عنده البلاغيون المتأخرون.
• في بحثه عن الذي يَعْمَلُه الإنسانُ لكي يُنتج كلامًا بليغًا عاد عبدالقاهر إلى نفسه، ووصف حالَه وهو يتكلَّم، فوجد أن حاله وهو يتكلَّم لا يخرج من حالتين؛ الأولى وجود معنى في صدره، والثانية أن يتخيَّر من خصائص اللغة ومعاني النحو ما يُبِينُ عن هذا الذي وجده في صدره، وهذه اللَّحظة التي فيها هذا القَدْرُ من التوفيق هي التي وقف عندها الأئمة المتأخرون.
• تأخُّرُ الزمن أو تَقدُّمُه لا صلة له بالحكم على العقل والفكر، إلا في الشعر الجاهلي والسليقة العربية قبل أن تخالطها الأمم؛ فهذه قضية خاصَّة، إنما العقل الرائع هو عقلٌ رائعٌ، جاء في زمن متقدِّم أو جاء في زمن متأخِّر.
• لو حكَّمْنا الزمنَ في وصف العقول لكنا نخطئ خطأ وبيلًا؛ لأنا نحكم على المستقبل بأنه لا يظهر فيه عقل جيد، وأن الزمن كلما تأخر ضعفت العقليات، وهذا خطأ؛ لأن سيدنا رسول الله نهانا عن هذا وأخبرنا أن الخير في أمته إلى يوم القيامة، ولأن الأمة ستظل تلد علماء، ولأنه سيظل علماؤها أولياءَ الله - كما قال الشافعي - إلى يوم يُنفخ في الصور.
• لا يَضِيرُ السكاكيَّ أنه وُلِدَ في القرن السادس، ولا يَعْلُو بأبي هلال العسكري أنه وُلِدَ في القرن الرابع؛ لأن المسألةَ مسألةُ عقلٍ ومسألةُ فكر.
• الأزمنة أحيانًا تُعِينُ على العمل؛ فإذا كَثُر العلماء في شَعْبٍ كَثُرَ فيه العلمُ وازدهر طلابُ العلم وشُغِلَ الناسُ بالعلم، وإذا كَثُرَ الاستبدادُ والقهرُ والظلمُ شُغِلَ الناسُ بما هم فيه من غَمٍّ وكَرْبٍ وانتقالٍ من يُسْرٍ إلى عُسْر ومن رخاءٍ إلى شدَّة، ومِن ثمَّ يَضْعُف العلمُ.
• إذا كان العلم متقدمًا في زمان ومتأخرًا في زمان فليس للزمان صلة بهذا، وإنما ما يحدث في الزمان: هناك رجالٌ عُنُوا بالعلم والعلماء؛ لأنهم ذاقوا العلم وكانوا من العلماء وعرفوا قدر العلم؛ فازدهر العلم في زمانهم، وهناك من لا يعرف إلا العصا والتهديد والوعيد ولا صلة له بالعلم ولا بالعلماء؛ فضَعُفَ العلم في زمانه.
• قلت إن عبدالقاهر فتح فتحًا، و«أسرار البلاغة» حين تقرؤه بتأمُّل و«دلائل الإعجاز» حين تقرؤه بتأمُّل تجد «أسرار البلاغة» يشرح البلاغة التي قالها الناس، و«دلائل الإعجاز» يُبيِّن كيف يصنع الناسُ البلاغةَ، ثم هُدِيَ بطريقة فذَّةٍ جدًّا إلى أن صناعة البلاغة شيءٌ واحدٌ عند كل الأجناس وكل الأمم وفي كل اللغات؛ لأنك- ببساطة شديدة جدًّا -تجد معنى في قلبك فتفكر في اللغة حتى تجد من أحوال اللغة؛ تعريفها وتنكيرها، وتقديمها وتأخيرها... إلخ، ما يُعينك على الإبانة عن هذا الذي اختلج في صدرك؛ فإذا تكلم العربُ لن يكون كلامُهم إلا هذا، وإذا تكلم العَجَمُ لن يكون كلامُهم إلا هذا، ولو كان الجِنُّ يتكلمون فلن يكون كلامُهم إلا هذا.
• تَوخِّي معاني النحو على وَفْق الأغراض من أعجب ما يمكن، ومن أصدق ما يمكن، ومن أصحِّ ما يمكن.
• صدِّقوني، ليس هناك أحلى ولا أمتع من المعرفة، المعرفة شيء جليل جدًّا تهفو الرُّوحُ إليه.
• أضرُّ ما في العلم تحصيلُه من غير مراجعة ومن غير تدبُّر، كأنك قَتلتَ العلم الذي تريد أن تحيا به، فلم تَحْيَ به ولم تتركْه هو حيًّا.
• العالِم حين يقول لك: «اعْلَمْ» فإنه يقولها مقدمةَ كلامٍ لا بد لك أن تتنبَّه إليه؛ لأنك إذا لم تَعْلَمْه ولم تتنبَّه إليه ستقع في أوهام وفي أخطاء، والعلماء تعلَّموا كلمة «اعْلَمْ» من القرآن: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»؛ فانظر كيف نبَّهتْ كلمةُ «اعْلَمْ» إلى شأنِ ما يأتي بعدها.
• «النظم والترتيب» هما عمل العقل في اللغة حتى يُبِينَ عن الذي وُجِدَ في الصدر، وكلنا متفقٌ في ذلك؛ أنا وأنت والروماني والطلياني، لكنْ هناك نقطة فارقة مهمة جدًّا، مرجِعُها إلى طبيعة اللغة.
• عبدالقاهر دائمًا يُكرِّر كلمة «معاني النحو»، ومعاني النحو أنت تعلمها ولكنك لا تعلم أنها هي التي تُسمَّى «معاني النحو»، لأنها هي الفرق بين دلالة التعريف والتنكير، الفرق بين دلالة التقديم والتأخير، الفرق بين دلالة الفصل والوصل، الفروق التي بحثها علم المعاني، وهي أجلُّ ما في اللغة.
• عبدالقاهر نَحْوِيٌّ من رأسه إلى قدمه، ولكنه كان يرى أن معاني النحو هي عُيونُ النحو، أي أفضلُ ما في النحو.
• شرحًا لبداية الفقرة رقم (426) قال شيخنا: التبس على كثيرين فغاب عنهم أن توخِّيَ معاني النحو لا يكون في الألفاظ وإنَّما في معاني الألفاظ؛ فأنا لا أُنكِّر لفظ «رَجُل» لذات لفظ «رَجُل»، وإنما لمعنى لفظ «رَجُل»، ولا أُعرِّف لذات اللفظ الذي أُعرِّفه وإنما للمعنى الذي يدل عليه هذا اللفظ؛ فأنا أتوخَّى معانيَ النحو في معاني اللغة، وهذا هو النظم الذي لا يمكن أن تكون الحكايةُ فيه، يعني: حين أحكي «قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزلِ» أو ما شئتَ من الشعر فأنا أحكي الألفاظ المسموعة، والترتيب الذي عليه الألفاظ المسموعة، إنما الذي دار في عقل امرئ القيس وهو يقول:
أَلَا عِمْ صَبَاحًا أيُّها الطَّلَلُ البَالِي *** وهَلْ يَعِمَنْ مَن كانَ في العُصُرِ الخَالِي
فذلك لا سبيل لي إلى حكايته، ولا سبيل لأحد إلى حكايته؛ فالحكاية حكايةٌ للألفاظ وأجراس الحروف ولا تقترب من توخِّي معاني النحو في معاني اللغة على وَفْق الأغراض.
• قد تَجِدُ جهلًا لا تَعْجَبُ منه وإنما تَعْجَبُ من العقل الذي قَبِلَه، وهذا كثيرٌ في الحياة: أحيانًا تجد شيئًا عجيبًا جدًّا في جهله، وأعجبُ من العجب فيه أن فاعلَه يُزيِّفه ويَصِفُه بعكس ما فيه.
• كلُّكم يدخل الجنة إلا مَنْ أبى، وكلُّكم يكون عالِمًا إلا مَنْ أبى.
• حين تعيش في قلوب الأئمة الذين علَّموا الناسَ العلمَ تقتنع جدًّا جدًّا بكلمة الشافعي التي قال فيها إنه إذا لم يكن العلماءُ أولياءَ الله فليس لله وَلِي.
• عبدالقاهر حين يجد خطأ فاضحًا كان يعالجه بود وبلطف، ولا يُدِينه ولا يَلْعنُ صاحبَه، وإنما يُصحِّحه ثم يُحدِّث عن السبب الذي أوقعه فيه، أي: لا تعاقب المخطئ فقط، وإنما رُدَّ خطأه، ثم بَيِّنْ سببَه حتى لا يقعَ فيه أحد.
• أحيانًا وأنت تقرأ، أو وأنت في الحياة العامة، تجد سُخفًا يضايقك؛ فعبدالقاهر يقول لك: لا، لا يُضايِقْكَ السُّخفُ، وإنما ابحث عن السبب الذي كان له هذا السُّخف، تجد كذَّابين فيضايقك كلامهم؛ فعبدالقاهر يقول لك: لا، هذا الكذَّاب لو لم يجد مِن ورائه مَن اصطنعه ما كان كذَّابًا ولوُجِدَ إنسانًا آخر.
• البحث عن الأسباب والعلل شأنُ الإنسان الأرقى، البحث عن الأسباب والعلل شأنُ الإنسان الأفضل، وإذا كنت تريد أن تُربِّيَ جيلًا أفضلَ فرَبِّه على هذا الوجه، وقل له: إذا وجدتَ خطًا فلا تُبادِرْ بالسَّبِّ واللَّعْن والغضب؛ لأن السبَّ واللَّعنَ والغضب لن تنتج علمًا، وإنما بَادِرْ بالبحث عن الذي أوجد هذا الخطأ.
• ذكر الشيخ قول النابغة: «كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ»، ثم قال: يا سلام!! يا سلام!! كنت سأقول: اللهم ارحم النابغة، ولكنِّي تذكَّرتُ أنه مات في الجاهلية، يا سَيِّدي هم في الجاهلية، ماتوا فيها؛ في النار أو في الجنة هذا أمرُ الله لا دَخْلَ لنا فيه، ولكنهم تركوا لنا كلامًا مضيئًا، يا سلام على كلمة «كِلِينِي»!! ويا سلام لو تُكرِّر «كِلِينِي» حتى تَجِدَ «كِلِينِي» في نفسك!!
• مَنْ قال إنني حين أُكرِّر «كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ» أكون قد عِشتُ اللحظةَ التي قالها النَّابغةُ وهو يُداوِرُ لُغتَه ليتخيَّر منها الكلماتِ التي نَسَقَها نَسَقًا خاصًّا فأبان عن هذا المعنى الجليل؟! مَنْ قال هذا حتى تفتحَ أنت يا شيخ عبدالقاهر بابًا لتُبيِّن فيه أن الحاكِيَ للشعر لا يحكي نظم الشعر.
• »العربيَّةُ» التعريفُ فيها له معنى، والتنكيرُ فيها له معنى، والحذفُ فيها له معنى، هناك مقامٌ يقتضي الذِّكر ومقامٌ يقتضي الحذف، مقامٌ يُوجِبُ الواوَ ومقامٌ يَوجِبُ تَرْك الواو... هذه كلها مَعانٍ نَمَتْ في اللغة مِنْ أول مَنْ تكلَّم بها.
• »العربيَّةُ» أقدمُ من سيدنا إسماعيل جَدِّ العدنانيين، والعروبة أقدمُ من إسماعيل عليه السلام، ولذلك عُدَّ العدنانيون من العرب المستعربة لا العرب العاربة، واقرأوا أبا الفتح بن جني.
• القرآن معجز ولغته معجزة، وعلماؤنا قَصَرُوا كلمة (الإعجاز) على القرآن، حتى إنه لم يَقُلْ أحدٌ إن كلامَ رسول الله مُعجِز، بعضُهم قال هذا مندفعًا، إنَّما الحقيقة أن الإعجاز هو الشيء الذي لا يَدخُلُ في قدرة البشر، وكلامُ سيدنا رسول الله مِن كلام البشر؛ فليس فيه إعجاز، فيه عُلُوٌّ، فيه سُمُوٌّ، ولكنْ ليس فيه إعجاز.
• ابن خلدون قال إن صُحُفَ إبراهيم كلامُ الله، وإن التوراة كلامُ الله، وإن الإنجيل كلامُ الله، فلماذا لم تكن هذه الكتب معجزةً وكان القرآن وحده هو المعجز؟، فأجاب بأن كل اللغات التي نزلت بها كُتبُ الله -جلَّ وتقدَّس- ليس فيها هذه الطاقة البيانية التي أعانت على بيانِ مُعجزٍ بها، وهذه الطاقات هي المعاني التي في التعريف والمعاني التي في الواو والمعاني التي في الفاء، التي هي علم المعاني.
• علمُ المعاني من أجلِّ العلوم، وحين تتعلَّمُه فكأنَّ الله قد أكرمك بمعرفةِ عِلمٍ من أجلِّ العلوم.
• كل الأجناس تتتبَّع معانِيَ النحو في لغاتها، لكنَّ تتبُّعَ معاني النحو عند الفارسي غيرُه عند العربي؛ لأن مستويات اللغات مختلفة، والعربية أُعدِّت إعدادًا خاصًّا لنزول الكتاب بها.
• مخاطبًا حضور الدرس قال شيخنا: هل تفهمون كلامي؟!، لا أستطيع أن أشرح أكثر من ذلك، مع أنني أعلم أن قدرة المتكلم على حُسْنِ الكلام راجعةٌ إلى قُدرة المستمع على استماع الكلام.
• تعقيبًا على حديث عبدالقاهر عن الإبداع في صنعة الخاتم وتوخِّي ضروب من النَّقْش والوَشْي في الأصباغ المختلفة، قال شيخنا: حين أرى ذلك عند عبدالقاهر أَعُدُّ ثقافتي ناقصة؛ لأن عبدالقاهر يتكلَّم عن التصوير كأنه رسَّام، ويتكلم عن النَّقش كأنه صاحب نَقْش... إلخ؛ فالفهم الواعي لفنون الحياة يُعِينُ على زيادة البصيرة بالفنِّ الذي أنت فيه، ولو جَمعتَ إلى هذا كلامَ عبدالقاهر عن النَّحْتِ والصياغة والنَّقْش لأخرجتَ كتابًا صغيرًا تحت عنوان: «الفنونُ الجميلةُ عند عبدالقاهر».
• ثقافة عبدالقاهر كانت مُتَّسعِة، لكنه ليس اتِّساعًا شاذًّا، وإنما هي ثقافةٌ مُتَّسعِةٌ اتِّساعَ الحياة، وما دُمْتَ حيًّا فلا بد أن تَتَّسِعَ للحياة ولكلِّ ما فيها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد