فوائد من درس دلائل الإعجاز 7


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف الأحد: 26 جمادى الأولى 1445هـ، 10 ديسمبر 2023م.

مِن أهمِّ ما ينفعُك ويفيدُك في قراءة كلام العلماء أنْ تُراجعَ طريقةَ عَرْض أفكارهم، أي: تُتابِع خَطَّ سَيْرِ الفكرة.

حديث عبد القاهر في (ما وإلَّا) يؤكد حقيقةً واحدة، بعيدًا عن أنَّ المخاطَبَ بها مُنكِرٌ أو شاكٌّ؛ هذه الحقيقة هي أن المقصور عليه هو ما بعد (إلَّا)، وليست غاية عبد القاهر أن يُحدِّثك عن هذا، وإنما غايتُه أن يقولَ لك إن (إنَّما) التي بمعنى (ما وإلَّا) المقصور عليه فيها هو المؤخَّر.

الفروق الخفية في اللُّغة يجب على أهل العلم في أيِّ بابٍ من الأبواب أنْ يُتقِنوها.

فَهْمُك المسألةَ فَهمًا جزئيًّا، وتَرْكُك خَطَّ سَيْرِها والحركةَ العقليةَ المُنتجةَ لها، هما ثقافةُ التخلُّف، ولا بُدَّ أن تَعيشَ مع عقل المؤلِّف أكثرَ ممَّا تَعيشُ مع فكرته؛ لأن المطلوبَ أنْ يكونَ لك عقلٌ كعقل المؤلف.

إذا عِشتَ مع الفكرة وأغمضتَ عينيك عن العقل المُنتِج للفكرة فلن تتعلَّم شيئًا إلا عِلْمَ المتخلِّفين، ولن تكون عالمًا إلا في زمن المتخلِّفين، وربما أيضًا كنت إمامًا ولكنْ على المتخلِّفين.

لا بُدَّ أن نَكْرَه التخلُّفَ كما نَكْرَه أن نُقذَفَ في النَّار.

تعقيبًا على قول الفرزدق:

أنا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمَارَ وإنَّما *** يُدافِعُ عن أحسَابِهم أنا أوْ مِثْلِي

قال شيخُنا: فرقٌ بين من يقول إنَّ في قومي مِثْلِي ومن يقول إنَّه ليس في قومي مِثْلِي، فكرةُ «ليس في قومي مِثْلِي» هي فكرةُ «أنا ومِن بعدي الفوضى»، وهذه فكرةُ الخراب؛ لأنَّ العالِم لا بُدَّ أن يُنْشِئَ لأمَّتِه مَن هم أفضلُ منه، والاقتصاديَّ لا بُدَّ أن يُنْشِئَ لأمَّتِه مَن هم أفضلُ منه، والسياسيَّ لا بُدَّ أن يُكوِّنَ لأمَّته مَن هم أفضلُ منه.. وهؤلاء هم الوطنيون الحقيقيون.

لا بُدَّ أن يكون هناك بدائل، وسيدُنا عمر بن الخطاب كان مُلْهَمًا مُحَدَّثًا؛ حين عَزَلَ خالد بن الوليد وهو ابنُ خالِه خشيةَ أنْ يُفتنَ به المسلمون، وحُدِّث في عَزْلِه، قال عمر: «هَبْهُ مَاتَ»؛ فيا من تقول: «أنا ومن بعدي الطوفان»، هَبْكَ مُتَّ.

خالد بن الوليد عجيبٌ عجيب، لم أعرف في تاريخ العرب فارسًا دخل حربًا في جاهليةٍ أو إسلامٍ وانتصر فيها إلا خالد بن الوليد.

يا سيدنا، إذا قلتَ: «أنا ومِنْ بعدي الخراب» فاعلم أنَّنا في الخراب.

إذا وجدتَ من يقول إنني ليس لي مِثْل، وإنني ليس لي بديل، فاعلم أننا في غَفلةٍ سَادِرُون.

ما دمتَ مبتهجًا لأنه ليس في قومك بديلٌ لك فاعلمْ أنك غُرابٌ تُنادِي على خرابنا.

أدهشني أن الحقَّ جلَّ وتقدَّس بَيَّنَ لنا أن الفرقَ بين الإيمان والكفر هو التدبُّر: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أم عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}؛ فمن لم يتدبَّرْ كأنه وضع بيده على قلبه قُفْلًا.

إذا كان التدبُّر واجبًا في القرآن فيجب أن يكون كذلك في الشِّعر، وإذا كان كذلك في الشِّعر فيجب أن يكون كذلك في النَّثْر، وإذا كان كذلك في البيان فيجب أن يكون كذلك في العِلْم.. التدبُّر هو سِرُّ النجاح في أيِّ بابٍ من أبواب المعرفة، والغفلةُ هي سِرُّ الضَّياع في أيِّ بابٍ من أبواب المعرفة.

لو تدبَّرتَ سترفض كلَّ باطل، ولذلك اللهُ سبحانه وتعالى الذي جعلك خليفةً في الأرض جعل لك عقلًا كمِصْفَاةٍ تُصفِّي كلَّ ما يدخل إلى قلبك ويَسْكُنُ في عقلك؛ فهي تنظر في كلِّ ما تَسمع وكلِّ ما يُقال لها غيرَ ناظرةٍ إلى أنَّ هذا كبيرٌ أو صغير، وإنما تنظر إلى الشيء بالعقل، والفَهْم، والتدبُّر، والفِطْنة.

قلتُ لكم في الدرس الماضي إن أخطاء الكبار من أهم أبواب العلم، وكأنَّ الله سبحانه وتعالى كما ساق لنا على أيديهم علمًا نافعًا ساق لنا على أيديهم خطًا نافعًا؛ لأنه يُنبِّهُك إلى ألا تَغترَّ، ويُنبِّهُك إلى ألا تقولَ إن كلامَ الكبيرِ كبيرُ الكلام.

«كلامُ الكبيرِ كبيرُ الكلام» قاعدةُ التخلُّف الأُمُّ، لا يا سيدنا، كلامُ الكبيرِ والصغيرِ يُعرَضُ على العقل، والعقلُ يَقبَلُه أو يَرفُضُه.

{أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} كلمةٌ قالها أوَّلُ نبيٍّ لأهل الأرض، وهذا يعني أنَّ حُريَّة التفكير، وحُريَّة العقل، وحُريَّة الفَهْم، وحُريَّة البصيرة، وحُريَّة الإيمان، وحُريَّة الكفر، شيءٌ مُقدَّسٌ عند الله.

لاحِظْ أنني أشرح أُمَّهاتِ الأفكار وأترك بَناتِ هذه الأُمَّهات، ولا بُدَّ لك أنتَ أن تُدرِكَ بَناتِ هذه الأُمَّهات، ولو انتظرتَ أن أشرحَ لك بَناتِ الأُمَّهات فاقعُدْ في بيتك وأَرِحْ نفسَك.

اللهُ أودعَ فيك العقل النافع وأنتَ الذي أَنَمْتَه، وربما كنت في زمانٍ نَومُ العقلِ فيه أفضلُ مِن يَقَظتِه، ولكنْ هذا خطأٌ أيضًا؛ لأن هذا الزَّمان لا يُغيِّره إلا يقظةُ العقل.

الزَّمانُ الذي نَوْمُ العقلِ فيه أفضلُ مِنْ يَقَظَتِه لا يُغيِّره إلا يَقَظَةُ العقل.

نحن لا نُفكِّر في لحظةِ انتقال العالِم من فكرةٍ إلى فكرةٍ مع أنها لحظةٌ سَخِيَّةٌ جدًّا: فيها عقلٌ عظيمٌ وجيدٌ ورائدٌ يَنتقل من باب إلى باب، ويُنبِّهك إلى أنه يَنتقل، وما دام عقلًا عظيمًا وجيدًا ومتميزًا فلا بُدَّ أنْ تَتْبَعَ حركتَه.

الجليلُ والأجلُّ مِن الجليل أنَّ الذي ذكره عبد القاهر في (إنَّما) لم يذكره أحدٌ قبلَه، وأن الذي سيذكرُه في (ما وإلَّا) لم يذكره أحدٌ قبلَه، وهناك حقيقةٌ ستُدرِك معها أنه ليس جليلًا ولا أجلَّ من الجليل؛ لأن كلَّ ما ذكره عبد القاهر ظاهرٌ في اللغة التي نطق بها العرب والأعراب، لم يذكرها العلماء وإنَّما هي قائمةٌ في اللسان العربي المُبِين، وعبد القاهر لم يقلْ كلمةً في (إنَّما) إلا وهي في اللسان العربي المُبِين، ولم يقلْ كلمةً في (ما وإلَّا) إلا وهي في اللسان العربي المُبِين.

استخراجُ أصولِ البيان من البيان عَمَلُ العلماء. العلماءُ ليس لهم شيءٌ إلا أنهم وجدوا أصولَ البيان في البيانِ فاستخرجوا أصولَ البيان من البيان.

ماذا فعل علماء الكَوْن؟! وجدوا في الكَوْن أشياء وخصائص فاستخرجوها من الكَوْن، ماذا فعل علماء الفَلَك؟! وجدوا في الفَلَك أشياء وخصائص فاستخرجوها من الفَلَك، ماذا فعل علماء الطِّب؟! وجدوا في الإنسان أشياء وخصائص فاستخرجوها من الإنسان، وهذا معنى قوله تعالى: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}

نحن نتلقَّى {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} على أن المراد بها «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، وليس الأمرُ كذلك، وإنما المراد كلُّ العلم؛ في الكَوْن، والفقه، والرياضيات، والهندسة، والطِّب.. وفي كلِّ شيء، هي ودائعُ أودعَها خالقُ الأشياءِ في الأشياء واستنهض عقولَ العلماء ليستخرجوها.

للذين يقولون: «إمَّا فلانٌ وإمَّا الطُّوفان»، لا تنتظروا الطُّوفان؛ لأنكم في قلب الطُّوفان.

يعجبني في صحابة سيدنا رسول الله أن كلَّ واحدٍ كان يُربِّي مَن هو أفضلُ منه.

حين تقرأ الشِّعرَ الجاهليَّ تَجِدُ حفاوةَ الفارس بناشئة الفرسانِ حفاوةً جيدة جدًّا، وحين يُغنِّي لصاحبته ويُدَنْدِنُ لها بفُروسيَّته يَذكُرُ أنه يُربِّي فرسانًا.

رَبُّوا للبلاد كفاءاتٍ تكونوا أهلًا لهذه البلاد وتكونوا جديرين بهذه البلاد.

حين تُعلِّمُ لا تُعلِّمْ كلَّ شيء، وإنما عَلِّمْ شيئًا واتركْ تلميذَك يُعلِّم شيئًا، وبهذا تُربِّيه، أمَّا أن تُعلِّمَه كلَّ شيء فكأنك تُنِيمُه.

شرحًا لقوله تعالى على لسان سيدنا عيسى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}، قال شيخُنا: سيدُنا عيسى يُنبِّهني ويُنبِّهك ويُنبِّه كلَّ المسلمين إلى أنَّ ما أمرَ اللهُ به لا يُتصرَّفُ فيه، ويجب أن يُؤدَّى على الوجه الذي أمرَ به بلا تحريفٍ أو تبديل، ولا زيادةٍ أو نُقصان، كما يُنبِّه مَن يَدْعُون إلى تجديد الخطاب الدِّيني إلى أن يُجدِّدوا ما شاءوا بشرط ألا يَخْرُجُوا عمَّا أمر الله به.

مَنْ يَدْعُونَ إلى تغيير الدِّين بدعوى أن الزَّمانَ يتغيَّر كأنهم يقولون إنَّ الذي أنزلَه كان لا يَعلَمُ أن الزَّمان سيتغيَّر، وهذه كبيرةٌ أكبرُ يُستغفَرُ اللهُ منها ويُستعاذُ بالله منها.

الجَهلُ بالدِّين شيءٌ مدهش؛ سَمعتُ من يقول: «لو كان الشافعيُّ في زماننا لكَتبَ فقهًا غير الذي كَتَبه»!!! هل كَتبَ الشافعيُّ فِقهَه مِن واقع الحياة أو من الكتاب والسُّنَّة؟! لو بُعِثَ الشافعيُّ في زماننا فلن يَكتبَ أكثرَ ممَّا كَتَب؛ لأنَّه في كل حُكمٍ مُستندٌ إلى القرآن والسُّنة.

كان يُعجبني في شيخٍ يتحدَّث في الفقه أنَّ كلَّ حُكمٍ فِقهيٍّ يقولُه يكونُ مُوثَّقًا بآيةٍ أو حديث.

لو أنك تتعلَّم البحث، وتريد أن تكون مُعلِّمًا، أو كاتبًا، أو ما شِئتَ، فممَّا يَنفعُك أنْ تَقِفَ عند قول عبد القاهر: «وههنا كلامٌ ينبغي أن تَعْلَمَه، إلَّا أني أكتبُ لك من قبله مسألة؛ لأنَّ فيها عَوْنًا عليه»، يعني: أنا أريد أن أقول لك مسألةً لكنك لن تُحْسِنَ فَهْمَ هذه المسألةَ إلا إذا قلتُ لك مسألةً أخرى غيرَها؛ فأنا أقولُ غيرَ الذي أريدُ لأُعِينَ على فَهْمِ الذي أُريد.

امرؤ القيس كان مَلِكًا في كلِّ بيتٍ قالَه.

كان الله في قلوب أهل الوثنية، كان الله في قلوب أهل الأصنام؛ لأنهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى}، ولكنْ كُفرُهم أنهم جعلوا بينهم وبين الله واسطةً؛ هي هذه الأصنام.

تحليلًا لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، قال شيخنا:

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}: إسنادُ الإخراج إلى نُون المتكلِّم جلَّ وتقدَّس، إعجازٌ؛ لأنني لم أقرأ في شِعرٍ ولا نَثرٍ أنَّ أحدًا قال: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ{؛ لأنه لا يقول: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} إلا الذي أخرج.

{ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}: هذا علم النبات، {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} هذا علم طبقات الأرض، {وَمِنَ النَّاسِ} هذا علم الطب، {وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ} هذا علم البَيْطَرة؛ أَفَيُظنُّ بعد ذلك أن العلماءَ في {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يُرادُ بهم علماءُ الفقه والتوحيد والحديث؟! أم علماء الكَونِ الذين درسوا صُنعَ الله في خَلْقِه، وبان لهم أمرُه، وبان لهم قَهْرُه، وبانتْ لهم حكمتُه؛ فكانوا أشدَّ خشية؟!

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}: العلماء جاءت على إطلاقها ليَدخُلَ فيهم كلُّ مَنْ عَلِمَ علمًا.

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}: انظر كيف يُربِّي القرآن الإنسانَ الرَّائعَ الذي هو خليفةُ الله في الأرض؛ لأن خشية الله إذا سَكنتْ في قلبك فلن يَبقى في قلبك خشيةٌ إلا له وحده - سبحانه وتعالى - ولا يمكن حينئذ أن تَخْشَى طاغيةً ولا مُتجبِّرًا ولا كذَّابًا؛ لأن الله فوق الجميع، ولأن خشية الله إذا سَكنتْ في قلبك ذَهبتْ منه كلُّ خشيةٍ لغيرِه.

القلبُ الذي ليس فيه إلا اللهُ هو القلبُ المُهيَّأ لخلافة الله في الأرض.

نَاهِيكَ عن شعبٍ ليس في قلبِه إلا الله: كيف تكون زراعتُه؟! وكيف تكون صناعتُه؟! وكيف تكون سياستُه؟! وكيف تكون قُوَّتُه؟!

كلُّ عِلمٍ فيه نَفعٌ للأمَّة فهو مِن عُلومِ الإسلام.

أعجبني ابنُ قتيبة حين قال في أوَّل كتابِه «عُيون الأخبار» إنَّ الطُّرقَ إلى الله كثيرة، وقد فتح الله لنا طُرقًا كثيرةً للوصول إليه فلا تُضيِّقُوها وتَحْصُرُوها في علم الشريعة؛ لأن كلَّ علمٍ يَنفعُ الأمَّةَ هو طريقٌ إلى الله، وحاجةُ الأمَّة إلى الطِّب كحاجتها إلى الفقه.

مِنْ قَتْلِ المعرفة أنْ تَقرأَ قولَه تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} ثم تَنْتَهِيَ المسألةُ مِن غير أن تُفكِّرَ في معرفة الإنسان الذي ليس في قلبِه إلا الله، وكيف يكون هذا الإنسانُ، وأنه لا يَخْلُفُ اللهَ في أرضِه إلا مَنْ كان ليس في قلبه إلا الله.

نحن نقرأُ الآية من القرآن ونَسْمَعُها ولكنْ لا نُعْمِلُها، أي: لا نَجعلُ لها عَمَلًا في قلوبِنا وفي أجيالِنا.

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، الأحد: 4 جمادى الآخرة 1445هـ = 17 ديسمبر 2023م.

قيمة الدِّراسة اللُّغوية أنك بها تُحدِّد المعانيَ، وتحديدُ المعاني ليس خاصًّا باللُّغويين ولا بالبلاغيين، وإنما تحديدُ دلالات المعاني؛ في الكتاب، وفي السًّنة، وفي الشِّعر، وفي كلام النَّاس هو من الواجب، ولذلك كان لا بُدَّ من الوعي باللُّغة.

من أخطائنا أننا جعلنا الوعيَ باللُّغة خاصًّا باللُّغويين، والأمرُ ليس كذلك.

اللُّغة تُبِينُ لك المعاني، وإذا كنتَ ستَعْجِز عن تَبيُّن المعاني فسوف تَحرِمُ نفسَك من خيرٍ كثير.

خشيةُ الله إذا سَكنتْ في القلب لا تَسكنُ معها خشيةٌ لغير الله، وهذا شيءٌ لا بُدَّ للمُسلم العاديِّ أنْ يَفْهمَه.

ناهيك عن حُريَّة الإنسان وسُموِّ الإنسان الذي لا يعرف قلبُه خشيةً إلا لله سبحانه وتعالى.

إذا حلَّلنا أسلوب القصر في قوله تعالى: {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} ومضينا فهذه غفلة، وإنما يجب أن أفهمَ ما في الآية من بِناء شخصية المؤمن، وأنَّ المؤمن الذي لا يخشى إلا اللهَ لا يخشى غيرَ الله مهما كان من جبروت الآخرين، ومن تَسلُّط الآخرين، ومن قَهْر الآخرين، ويلقى اللهَ وليس في قلبه خشيةٌ لغيره.

علماؤنا فسَّروا قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} بـ: «إلا من أتى الله بقلب ليس فيه إلا الله»؛ فالقلب السَّليم الذي تأتي به اللهَ هو القلبُ الذي ليس فيه إلا الله.

رسالةُ السَّماء هي بِناءُ إنسانٍ جديد.

تعقيبًا على قول الإمام عبدالقاهر «.. فليس هو الغرضَ في الآية، ولا اللَّفظُ بمُحْتَمِلٍ له البتةَ»، قال شيخُنا: معنى الآية هو الذي يَدلُّ عليه تركيبُ الآية، وهذا تحديدُ خَطِّ سَيْرِ عقلِك وفكرِك.

عبد القاهر كان عالمًا جليلًا مُلهَمًا حين كان يقول دائمًا: «ارجعْ إلى نفسِك»، وكأن كَنْزَك هو الذي بين جنبَيْك، وكأن العلمَ هو الذي بين جنبَيْك.

حين شرح عبد القاهر المسألةَ التي شَغلت العلماء ولم يُحدِّثوا فيها الحديثَ الكافيَ الشافي، والتي هي ترتيبُ الكلمات في الجملة؛ فلم يزيدوا على أن يقولوا إن الكلام لا يَحْسُنُ إلا إذا وضعنا الكلماتِ في موضعها؛ فنضع التقديمَ في موضعه والتأخيرَ في موضعه، والتعريفَ في موضعه والتنكيرَ في موضعه، من غير أن يُفْهِمُونا كيف نضع التقديمَ في موضعه والتنكيرَ في موضعه، فجاء عبدالقاهر بلَقَانةٍ عجيبة جدًّا، وبكرمٍ من الله، وبوحيٍ من الله، ويعود في فَهْمِ هذا كلِّه إلى صانع الكلام.

عبد القاهر ترك الكُتبَ، وترك كلَّ ما قِيلَ، ورجعَ إلى الإنسان وراقبَه حين يَنطِقُ وحين يُكوِّنُ كلامًا؛ فوجد في نفسه معنًى وهو يُحاول أن يختار لهذا المعنى من أحوال ألفاظ اللغة؛ من تعريف أو تنكير، ومن تقديم أو تأخير، ما يَفِي بمعناه؛ فبَيَّنَ لي بالطريقة العملية أنني أعرف موضعَ التقديم حين أقومُ بعملية بناء الكلام.. وهذا هو المهم.

دائمًا أُحبُّ أن أتعرَّف على حركة عقل المؤلف، ولا أقرأ في الكتاب مسائلَه فقط، وإنما أقرأ مسائلَه بشرط أن أقرأها في عقل كاتبه، وكيف جاءت الثانيةُ فيها بعد الأولى.. وهذه هي القضية.

نحن عَقَّدنا العلم، وخصوصًا علمَ اللغة؛ لأن علم اللغة في الفطرة، وحوَّلناه نحن إلى مصطلحات فصارت المصطلحات صعبةً علينا.. اترك المصطلحات، وارم بها، وعُدْ إلى وعيك باللغة، وسوف تجد وعيَك باللغة مطابقًا لِمَا في المصطلحات.

عَلِّموا أبناءنا اللغةَ التي في فِطْرتهم؛ لأنها لن تختلف عن اللغة التي في كُتُبهم، ولكن ابدأوا معهم من فِطْرتهم وستجدون سهولةً شديدةً جدًّا.

نشأتُ وأنا أَسمعُ عبارةَ: «اللغةُ العربيةُ صعبةٌ»، يا سيدي والله ما قال إن اللغةَ العربيةَ صعبةٌ إلا أعداءُ الإسلام الذين يريدون صَرْفَ النَّاسِ عن لغتهم، ورَبُّنا قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ}، وما دام يسَّر القرآن فلا بد أن يُيسِّرَ لُغتَه.

الله قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ}، أي: يسَّرناه للحديث والذِّكْر، والحديثُ والذِّكرُ يَكونان باللغة.

تعليقًا على عبارة عبد القاهر: «.. شيءٌ لو لم يَصْنَعْه لم يَصِحَّ له المعنى»، قال شيخنا: يا سلام، هذه كلمة جليلة جدًّا، أحسنُ من كل الشَّرح الذي شَرَحْتُه؛ لأن هؤلاء هُدُوا وشَرحُوا لغةً عاليةً فألهمهم اللهُ النُّطقَ بلُغةٍ عالية.

يُدهشك أن «سيبويه» الفارسي وظلَّ اسمُ «سيبويه» عالقًا به حتى تظلَّ الفارسيةُ عالقة به لطُولِ مُزاولتِه للعربية استشهد العلماءُ بنُطْقِه وليس بعلمِه فقط، مع أنه جاء بعد عصور الاحتجاج، وما بعد عصور الاحتجاج - ولو كان مِن وَلَدِ إسماعيل - لا يُحتجُّ بلغته!!

«سيبويه» زَاوَلَ اللُّغةَ عِلمًا فأكرمَ اللهُ لسانَه بأنْ أنطقَه بها فصاحةً وبيانًا.

حين أجد السودانيين يَقتُلُ بعضُهم بعضًا أتذكَّر قولَ الشاعر: «كأنَّا يَوْمَ قُرَّى إنَّما نَقْتُلُ إيَّانَا».

قديمًا حين قامت حربٌ بين قبائل اليمن، وكان قد أشعلها الثُّوَّار ربنا يسامح الجميع كان فيهم رجلٌ عالِمٌ شاعرٌ، فوجد القبائل اليمنية يَقْتُلُ بعضُها بعضًا، فقال لهم بيتًا من الشِّعر القديم؛ هو:

إِذَا احْتَرَبَتْ يَوْمًا فَفَاضَتْ دِمَاؤهَا *** تَذَكَّرَتِ القُرْبَى ففَاضَتْ دُمُوعُهَا

فألقى الكلُّ سِلاحَه.

ليس هناك سودانيٌّ يقول للسودانيين، ولا يَمَنِيٌّ يقول لليمنيين، ولا لِيبيٌّ يقول لليبيين: إِذَا احْتَرَبَتْ يَوْمًا فَفَاضَتْ دِمَاؤهَا.. تَذَكَّرَتِ القُرْبَى ففَاضَتْ دُمُوعُهَا!!

الكُتبُ قبلَ عبد القاهر لم تكن تشرحُ المسائلَ الشرحَ الذي يَشرحُه هو، إنما كانت تَفِيضُ بالشَّواهد؛ ككتاب الصناعتين لأبي هلالٍ العسكري؛ كان يذكر ثلاثة أو أربعة أسطر في القاعدة البلاغية وثلاث أو أربع صفحات في الشواهد من الشعر؛ فأحسستُ أن الرجلَ لا يُعلِّمُني القاعدة وإنما يُعلِّمُني كيف أذوق الكلام، وهذا مُهمٌّ جدًّا.

لو تعلَّمتَ القاعدةَ ولم تُربَّ ذائقتُك البيانيةُ فسوف تكون عاجزًا عن أن تقول كلامًا مُبِينًا، ولذلك كنتُ دائمًا أملأ الكُتبَ بالشَّواهد.

تَكرارُ الشَّواهد يُحْدِثُ في النَّفْسِ شيئًا آخر؛ هو أن تَأْلَفَ هذا الأسلوب، وأن تَبدأَ تَذوُّقَ المعاني التي تَرِدُك على هذا الأسلوب.

إذا اكتفيتَ بحفظِ القاعدة فستقرأُ الشِّعرَ وأنت غافل، أمَّا إذا تَواترتْ عليك هذه الشَّواهدُ فستُحِسُّ بها إذا قرأتَها في الشِّعر، وتُحِسُّ بها إذا قرأتَها في القرآن، والمطلوبُ من العِلمِ - يا سيدنا - أن تُحِسَّه وأنت تقرأ الشعر، وتُحِسَّه وأنت تقرأ القرآن، وتُحِسَّه وأنت تقرأ النثر.. إلخ.

أنا مِن هُواةِ المعاني الجليلة.. البلاغةُ ودَرْسِي للبلاغة حبَّبا إليَّ المعنى الأحلى، والمعنى الأحلى هو المعنى الإنسانيُّ الأنبلُ الذي تُحدِّث به النَّفسُ الإنسانيةُ في سُموِّها وسُؤددِها وشَرَفِها.

تعليقًا على قول السَّيِّد الحِمْيَرِيِّ:

لَوْ خُيِّرَ المِنْبَرُ فُرْسَانَهُ *** مَا اخْتَارَ إلَّا مِنْكُمُ فَارِسَا

قال شيخنا: يا سلام! لو وقفتَ عند معنى «ما وإلا» تكون قد أضعتَ المسألةَ، يا سيدي الشاعرُ يقول: «لَوْ خُيِّرَ المِنْبَرُ فُرْسَانَهُ»، يا صاحبي تَذوَّقْ أن ترى مِنبرًا يتخيَّر فارسًا!! يا صاحبي لا تُلْهِنِي عن الخيال البياني الرَّائع والخاطر الإنسانيِّ العالي الذي خطر في قلب الرجل فقال: «لَوْ خُيِّرَ المِنْبَرُ فُرْسَانَهُ».. لو أن الله أودع في المِنْبَر عقلًا ووعيًا واختيارًا ونبالةً وسؤددًا وشرفًا، وقال له: «اخترْ فارسًا» فلن يختار إلا منكم.. حرامٌ أن تقولَ لي مَوضِعُ الشَّاهد في بيت الحِمْيَرِيِّ كذا وتُغْفِلَ السُّقْيَا الأخرى لهذه النَّفس الإنسانية.

لو قال السَّيِّدُ الحِمْيَرِيُّ: «ما اختار إلا فارسًا منكم» لكان المعنى أنَّ فيهم الفارسَ وغيرَ الفارس، أمَّا «ما اختار إلا منكم فارسًا» فالمعنى أنَّ كلَّهم فُرسان؛ فإذا قرأتَ الشِّعرَ والتبسَ عليك الفرقُ بين هذا وذاك فقد هَدَمْتَ الشِّعرَ وغَشَشْتَ نفسَك؛ لأنك أطعمتَها البيانَ الفاسد.

تعليقًا على قول السَّيِّد الحِمْيَرِيِّ:

لَوْ خُيِّرَ المِنْبَرُ فُرْسَانَهُ *** مَا اخْتَارَ إلَّا مِنْكُمُ فَارِسَا

قال شيخنا: يا سلام يا سَيِّد يا حِمْيَرِي!! أين ذَهبتْ أيامُك!! لو عَرَفْتُ قبرَك يا حِمْيَرِيّ لزُرْتُك - والحَبِيبُ يُزارُ ولشَكَوْتُ لك الذي قومُك فيه.

لا يُحْيِي الأمةَ إلا أدبُها وتراثُها وشِعرُها، يا سيدي أنت تُريد أن تُحْيِيَ نُفوسَ الجيل؛ فهَاتِ من الشِّعر النُّفوسَ الحيَّةَ، وحَدِّثِ الجيلَ بحديث النُّفوسِ الحيَّة تَصْنَعْ جيلًا حيًّا، إنَّما بالموعظة لن تُفْلِحَ.

أسكِنُوا ثقافةَ الحياةِ والقوَّةِ والمَنَعَةِ والرُّجُولةِ والأنَفَة في نفوس أبنائكم، تجدوا أجيالًا.

استنباطًا من قول الله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ}، قال شيخنا: هنا دلالةٌ أخرى؛ هي أنك لستَ مطالبًا بأن تُحوِّل الناسَ من الشرِّ إلى الخير، وإنما عليك فقط أن تُبيِّن، والنَّاس هم الذين يختارون، والذي يختار الشرَّ دَعْه لاختياره، وإذا كان اختارَ الظُّلمَ والجَوْرَ والقَهْرَ والاستبدادَ فدَعْه حتَّى يَشْفِيَ الله غَليلَك منه وأنت تراه من حَطَبِ النَّار، ولكن ليس هذا المعنى الرَّبَّاني؛ المعنى الرَّبَّانيُّ أن أدعوَ له، وشيطاني يقول لي: «لا تَدْعُ له حتى تَشْفِيَ غليلك منه»، ولكنْ تَغْلِبُني وصيةُ سيدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حين قال: "واعْفُ عمَّنْ ظَلَمَك"؛ فكُنْ ضدَّ أهواءِ نفسِك.

لا تَترك الشَّاهدَ إلا إذا وضعتَه على لسانك، ثم تظلُّ تَضَعُه على لسانك حتى تذوقَ حلاوتَه؛ فإذا ذُقْتَ حلاوتَه تَجاوَزْتَه إلى غيره.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply