النميمة مفتاح الفتن وباب للجريمة

187
6 دقائق
17 صفر 1447 (12-08-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فإن اللسان أخطر ما في الإنسان وهو كالأفعى له سُمٌ ومن سُمه الغيبة والقذف والنميمة وغيرها من السموم والنميمة هي نقل الخبر كما هو من شخص لآخر فإن تحدثوا عنه بسوء نقلت له ما قيل فيه وهذا هو أصلها وتكون بين الأحبة والأزواج والأصحاب والأقارب وهناك من يُفسد بينهم المودة وهذا العمل من أحب الأعمال إلى قلب إبليس وجنوده وهذا لقوله "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا؟ ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين إمرأته فيُدنيه منه ويقول نِعم أنت" رواه مسلم.

والتفريق بين الأحبة أصله الأول هي النميمة التي يتغنى بها البعض ويرونها في مرتبة الهواية والله المستعان، وقد قيل أن أبوا بكر رضي الله عنه كان يُمسك بلسانه ويقول: (هذا أوردني الموارد) رواه أحمد في الزهد، فانظر يرحمك الله إلى السلف كيف كانوا يخافون من الزلة والخطأ وأما اليوم فأكثر الناس يُرسل لسانه فيما لا يُعنيه ويُدخل أنفه فيما لا يُغنيه وإن الخوف من شخص ما أحيانا قد يزرع الحسد في قلب صاحبه بسبب الضُعف في الإيمان فيتسرع إلى باب النميمة حتى يفتحه في وجه من يخاف منه لأن الحسد حينها قد سيطر عليه من كل الجوانب وقد أعماه عن الصواب فالحسد هو أشد فتكا بالعقل من المخدرات فالحسد يُأثر على القلب فيكون سببا في الجريمة وباب الحسد هي النميمة فيخرجُ من القلب كالرصاصة للتفريق بين الأحبة ولهذا كان في السابق يقال: (عدوك ليس من قال فيك عدوك الحقيقي هو من بلغك).

فإن النمام هو العدو الثاني بعد الشيطان فقد فرقوا بين الإخوة والأزواج والأصحاب بل فرقوا بين الآباء وأبنائهم والله المستعان فهناك من يدعوا إلى الشر من باب الخير فيأتي إليك بوجه الناصح الأمين وبقلب الشيطان اللعين فينقل لك القيل والقال وينتظر النتائج بفارغ الصبر وكأنه ليس من ذوي البشر وقد رُوي عن النبي أنه قال فيهم "... وشرُ عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العنت" رواه أحمد وغيره.

وقال عليه الصلاة والسلام: "آلا أنبئكم ما العضة هي النميمة القالة بين الناس" رواه مسلم، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله (من نم لك نم بك ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك) النوادر من حِكم الشافعي لمعوض عماشة ص (12)، وهذه قاعدة إجتماعية فالأولى تُطبق على كل نمام وأما الثانية فلا تُطبق على الجميع بل بعضهم فقط وهي بمعنى أن يمدحك بأكثر ما فيك أو يذمك بأسوأ ما فيك وهذه صفة توجد في الكثير من الناس وأما عن الأولى التي تُطبق في حق كل نمام فإن جاءك بما قيل فيك فاعلم أنه سيذهب ويقول ما قلته في بعضهم فهذا هو وصفهم الحقيقي فأسرارك إن علم بها أشاعها ونقلها فالذي ينقل الخبر لا يُؤتمن على السر إلا إن تاب واعتبر وقد قال القائل (إحذر من نقل حديث غيرك فإنه سينقل إلى غيرك حديثك).

وقد قال محمود السعيد (والفتنة نائمة تستيقظ بالإشاعة والإذاعة) تربية الأبناء له ص (37)، والفتنة نوعان فالأولى في الدين من بدع وضلالات ومعاصي يُروج لها في كل زمان ومكان فهذه لا تنام بل هي دوما بيننا وأما الثانية وهي فتنة الدنيا التي تتسبب في القتل والعنف والتخريب فهذه نائمة وتستيقظ بالنميمة وغيرها ومن أيقظها فله وزرها ووزر ما حدث فيها فيُلام عن كل قطرة دم تسبب فيها ويحاسب عليها يوم القيامة وقد قال تعالى {... وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ... } فاطر (43).

قال الشيخ السعدي رحمه الله (فعاد مكرهم في نحورهم ورد الله كيدهم في صدورهم فلم يبق لهم إلا إنتظار ما يحل بهم من العذاب الذي هو سُنة الله في الأولين التي لا تُبدل ولا تُغير أن كل من سار في الظلم والعناد والإستكبار على العباد أن يحل به نقمته وتُسلب عنه نعمته) تيسير الكريم الرحمان ص (659).

وهناك فرق بين النميمة والفتنة فالنميمة هي نقل الخبر كما هو فأن تخبرني بما قيل عني وأما الفتنة فأذهب أنا إلى القائل لأقول له ما قال هو عني فيتصارع حينئذ القائل مع الناقل للخبر ذاك فيما بينهما وقد تصل إلى الضرب أو القتل فإن الفتنة نار والنميمة هي حطبها والنميمة هي قائدة الفتن مهما كانت.

قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حِله) رواه البخاري، واعلم أن سفك الدماء ليس بالضرورة أن يكون القتل بذاته وإنما كل قطرة تسيل من مسلم ظلما فهي سفك للدماء وإن كانت متفاوتة في الإثم فالقاتل أعظم وزرا منهم جميعا والضرب المبرح إن تسبب في سيلان الدم فهو من مراتب سفك الدم وهكذا... والنميمة غالبا هي الطريق لهذه التصرفات العدوانية وقد قال بعضهم (ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن) جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم ص (437).

قال تعالى {... كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ... } المائدة (66)، والنار هنا هي الفتنة والنميمة أحد أسبابها وإن كانت الآية قد نزلت في حق النبي ودين الإسلام لكنها عامة لأهل الخير والصلاح من المسلمين، وهناك فرقٌ بين النمام والفتان في كيفية نقل الكلام فعمل النمام يكون بنقل الحقيقة بصدق وأما عمل الفتان فيكون كذّابا في أقواله لا حقيقة لها أو هناك بعض الحقائق لكنه يزيدها كذبا وتدليسا وإن كان الأول أقل وزرا من الثاني حسب نوع الذنب وما يصل إليه فهما في المعنى سواء وهو نقل الخبر وأما القصد فيختلف فالأول من باب الصدق والثاني من باب الكذب أو تدليس الصدق بالكذب أو يُخلط بينهما وأما عن الفرق بين النمام والقتات فقد قيل (أن النمام الذي يحضر فينقلها والقتات الذي يتسمع من حيث لا يُعلم به ثم ينقل ما سمعه) جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم ص (434)، وعمل القتات هو مثل التجسس قال تعالى {... إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} السجدة (22).

والنميمة هي التي تُمهد الطريق للإجرام فإن كان المُجرم سيدفع ثمن جرمه فالنمام أولى بذلك لأنه هو سبب الجريمة والمجرمون الذين ذُكروا في هذه الآية هم كل الظالمين سواء كانوا مشركين أو عصاة معاندين مُصرين على الذنب ولهذا قال "... ويل لأقماع القول ويل للمُصرين الذين يُصرون على ما فعلوا وهم يعلمون" رواه أحمد.

فالنمام إن لم يتب فهو منهم وقد ثبت أن النبي مرَّ على قبرين فقال: "أما إنهما ليُعذبان وما يُعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله" متفق عليه، فهذا عذابه في القبر وما أدراك ما القبر أصعب مكان في حياة الإنسان فكيف يكون عذابه يوم القيامة ولهذا يقال (أن من شب على شيء شاب عليه) أي من إعتاد على شيء يبقى عليه حتى يشيب شعره فيه مثل العاصي أو المستقيم إلا البعض منهم فهناك من يتوب وهناك من ينحرف فالنمام إن دامت النميمة على لسانه شاب عليها وقد يموت دون توبة منها وقد قال ﷺ: "تكفُ شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك" رواه الشيخان، فمن رأى من نفسه شرا خصوصا شر اللسان وبالأخص النميمة فعليه بوصية النبي عليه أفضل الصلاة والسلام وقد قال الإمام الغزالي رحمه الله (وكل من حُملت إليه نميمة وقيل له فلان يقول فيك....فعليه ستة أمور أن لا يُصدقه لأن النمام فاسق، الثاني أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويُقبح له فعله، الثالث أن يُبغضه في الله تعالى....الرابع أن لا يظن بأخيه الغائب السوء، الخامس أن لا يُحمله ما حُكي له على التجسس والبحث عن ذلك السادس أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته عنه فيقول فلان حكى كذا فيصير به نماما ويكون آتيا ما نهى عنه) جامع المهلكات للشيخ عرفان بن سليم ص (435)، كما أنه لا يجوز للشخص أن يقول لشخص آخر (هل فلان تكلم عني أو قال شيئا ما في ذاتي؟) لأن هذه وسوسة ويفتح بها باب الفتنة على نفسه فإن قال ما قيل فيك فحينها تُصبح نميمة وأما من وقع في مثل هذه الحالة فلا تُخبره بما قال أو قل له (لم يقل عنك شيئا) فهي ليست من الكذب في شيء لأنها من باب إصلاح البيِّن وترقيق القلوب لبعضها وهذا لقوله ﷺ: "ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس ويقول خيرا ويُنمي خيرا" رواه مسلم.

قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} القلم، وجاء في تفسير الجلالين في معنى قوله: {مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم) ص (564/565)، وقال الشيخ الفوزان حفظه الله (النميمة نوع من أنواع السحر لأنها تفعل ما يفعله السِحر من التفريق بين القلوب والإفساد بين الناس) شرح كتاب التوحيد ص (223)، فهذا آخر ما وفقني الله لكتابته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق