بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
حديثنا متواصل عن المنهج الوقائي في الإسلام - وبالتحديد عن حماية حياض الدين وسلامة العقيدة - رأينا إغلاق باب التلاعب بالدين بتحريم الزندقة وحكم الردة، ووقفنا أيضاً مع باب آخر يتغير به الدين وتنقض عراه وتغير أصوله بالابتداع والاختراع في دين الله - عز وجل -، وثالثة وقفنا فيها مع ما يمنع من التميع والذوبان و الانسلاخ من الدين والتبعية لغير أهل الإيمان والإسلام في شأن الولاء و البراء.
وحديثنا اليوم عن الغلو الذي نهى عنه الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أيضاً باب من الأبواب التي يقع بها من الخطر والضرر شيء عظيم، ويقع بها تغيير في أصل الدين، ويقع بها ما يكون محاربة أو معارضة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والغلو في لغة العرب \" مجاوزة الحد \" فمن غلا في الشيء أي أنه تجاوز الحد المطلوب أو الحد المرغوب فيه، ومثل كلمة الغلو كلمات أخرى نسمعها: كالتطرف أو التشدد أو التنطع أو نحو ذلك، وبعضها ورد في لسان الشرع كالتنطع في حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)، والتنطع في لغة العرب: \" التشدق بالكلام لخروجه من نطع الفم \" أي من أعمقه وداخله، فالتنطع في دلالته هو التعمق والمقصود به مجاوزة الحد أيضاً إلى ما ليس مطلوباًº فإذن المفهوم اللغوي يقودنا إلى المفهوم الشرعي لأن مثل هذه الألفاظ غدا التلاعب بها اليوم مثاراً للشبهات ولاختلاف الآراء فليس الغلو ما تحكم به العادات، ولا ما تؤدي إليه التقاليد، وليس الغلو هو الذي تراه العقول أو تحكم به الأهواء، وليس التطرف هو التزام شرع الله - عز وجل - كما يوصف كل مسلم اليوم يؤدي صلاته، ويخرج زكاته و يعلن إسلامه بأنه متطرف.
كل ذلك ليس من هذا الذي نتحدث عنه، وإنما نتحدث بلسان الشرع آيات من كتاب الله تتلى، وأحاديث من أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تروى.. فللنظر إلى هذا الغلو الذي ذكر أهل العلم أنه أحد طرفي النقيض وهذا أمر مهم.
مهم أن نعرف أن دين الإسلام هو دين التوسط والاعتدال {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}، وفي معنى هذه الوسطية قال أهل العلم: \" إنها العدل والاعتدال \"، وقال ابن جرير الطبري- رحمه الله - في تفسيره: \" وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدينº فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقولهم في عيسى - عليه السلام - ما قالوا فيه، ولا هم أي المسلمون من أهل التقصير فيه أي في الدين تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا لأنبيائهم، وكذبوا على ربهم.. ولكنهم - أي أهل الإسلام - أهل توسط واعتدال فيه، فلا تفريط بترك الأوامر والواجبات وتميع في استمساك بالدين، ولا مغالاة في زيادة عن الحد المشروع أو إيجاب ما ليس بواجب أو التحكم والحكم على الناس بما لا دليل عليه في شرع الله تكفيراً أو تفسيقاً أو تبديعاً \".
وإن هذا الباب الخطير باب عظيم حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما بدت بوادره وظهرت أوائله في حياته - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه، واعتراضاً على فعله - عليه الصلاة والسلام - ذلكم في الحادثة المشهورة المعروفة بعد غزوة حنين عندما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم من مسلمة الفتح وزادهم، وضاعف لهم حتى وجد بعض الناس من الأنصار في نفوسهم شيئاً، فتحدث إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأزال ما في النفوس وأجرى دمع العيون، ورضوا بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وجاء رجل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \" هذه قسمة ما أريد بها وجه الله - عز وجل -! \" يقول إن قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمة ظالمة لم يرد بها وجه الله!
لا شك أن هذا اعتراض هو الكفر بعينهº لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينطق عن الهوى، وفعله تشريع ولا يقوم بأمر إلا وهو من أمر الله - عز وجل -، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضباً شديداً، وقال: (ويحك من يعدل إن لم أعدل)، ثم أخبر فقال: (يخرج من ضئضئ هذا أقوام يرددون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم صلاته إلى جنب صلاته وصيامه إلى جنب صيامه يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).. لهم تعبد ولهم تنسك، لكنهم يخرجون من الدين بما تشددوا فيه وبما أضافوا عليه وبما حكموا به على الناس من الكفر والعياذ بالله.
وأشار بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الخوارج الذين كان لهم ما كان في تاريخ أمة الإسلام، وما يظل بعض آثاره إلى يوم الناس هذا.
إذن فقضية الغلو قضية سابقة موجودة آثارها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فتئ النبي - عليه الصلاة والسلام - يوضح توسط الإسلام واعتداله يبين سيره وسماحته فيقول - عليه الصلاة والسلام -: (بعثت بالحنيفية السمحة) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً ووصله في الأدب وغيره.
ويقول - عليه الصلاة والسلام -: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)
ويقول في الصحيح أيضاً: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) تأكيد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على يسر الإسلام وسماحته، وذلك منصوص عليه في القرآن الكريم {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}.
ويقول - جل وعلا -: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ليس فيه ضيق ولا تشديد ولا عسر، لكن أي شيء هذا هو مقياس الشرع؟ لأن بعض الناس قد يرى في صلاة الفجر مشقة وعسر، فيقول لك كما تسمع من بعض الناس: إن الدين يسر لماذا نصلي الفجر في ذلك الوقت؟! أو لماذا نصليه في المسجد؟! فنقول ذلك التيسير الذي تظنه تيسيراً هو تفلت من الدين وتفريط، وهكذا ننتبه إلى هذه المعانيº فنرى وندرك ونوقن أن الإسلام دين وسط وسماحة وسير لكن بموجب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا بموجب ضعف الضعفاء ولا خور العاجزين، ولا بموجب أيضاً أهواء ذوي الشهوات والمتميعين.
وننتبه أيضاً إلى بعض التنبيهات والتحذيرات الواردة في الآيات، وفي الأحاديث من هذا الباب الخطير الذي يفضي فيما يفضي إليه إلى الخروج من الدين والانسلاخ من الملة.. نسأل الله - عز وجل - السلامة.
حذر الله - عز وجل - أهل الإيمان والإسلام مما وقعت فيه الأمم السابقة، قال - جل وعلا - في نداءه أهل الإيمان: {لا تغلوا في دينكم}، وإن كان النداء أو السياق في سياق حديث أهل الكتاب {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق}º فإن سياق الآيات إنما هي للمسلمين لينبههم ويحذرهم مما وقعت فيه الأمم السابقة من قبلهم من مثل هذا الغلو، وننتبه فنرى أن طرفي الأمور ذميم، وأن الوسط والاعتدال هو المستقيم.
وننتبه إلى التحذيرات أيضاً في أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول مكرراً ثلاثاً: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) أي المتشددون تشدداً غير مشروع.
ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) المنبت هو المسافر الذي يواصل سفره ليلاً ونهاراً من غير راحة ولا توقف.. لماذا يصنع ذلك؟ قال: أريد أن أجد وأن أجتهد وأن أواصل حتى أبلغ الغاية، ونسي طاقته! ونسي حاجته! فما الذي يحصل؟! قال - عليه الصلاة والسلام -: (إن المنبت لا أرضاً قطع) لم يقطع الأرض التي يريد، ولم يصل المبتغى الذي يريد.. (ولا ظهراً أبقى) لأنه سوف تهلك دابته وتفنى، أو تموت أو يتعب هو ويمرض فلا يصل إلى المبتغى! وذلك غاية كل تشددº لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - حكم في الحديث الصحيح قال: (لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) يعني كانت نهايته أنه يغلب فلا يستطيع أن يكون مواصلاً في هذا التشددº لأن دين الله - عز وجل - هو الكمال المطلق، وهو الملائم للفطر السليمة، وهو الموافق للعقول الراشدة، وهو الموافق لحاجات الناس في كل الأحوال، والمناسب لأوضاعهم كما قال الحق - جل وعلا -: {ألا من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، وكما بيّن فقال: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} و {لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها}.
هذا هو تشريع الله - عز وجل -، فمن زاد فيه ما ليس منه فإنه يخرج عن حد الاعتدال ويقع في ما لا تحمد عقباه ومن قصر فيه وفرط ولم يأخذ به، فكذلك هو الذم كما يقولون في استواء الصف المتقدم عن الصف كالمتأخر عنه.. كلاهما ينقض الاستواءº لأن بعض الناس يتوجهون إلى بعض هذه الصور المتشددة من باب العاطفة، وقد وقع ذلك في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فلنمضي إلى بعض النماذج الواقعة في حياته - عليه الصلاة والسلام -º ولنرى توجيهه وبيانه.. هناك تشديد مع النفس يقع من بعض الناس في شأن العبادات والتقرب إلى الله - عز وجل - بالطاعات:
في الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة فقال (من هذه؟ )، قالت هذه فلانة تذكر من صلاتها وصيامها كذا وكذا - أي أنها تكثر إكثاراً ليس مشرعاً - فقال - عليه الصلاة والسلام -: (مه! عليكم ما تطيقونº فإن الله لا يمل حتى تملوا) قالت عائشة: وكان أحب الدين إليه ما كان أيسر.
تأمل هذا الحديث وهو يقول: (فإن الله لا يمل حتى تملوا).
قال أهل العلم: إن من آثار التشديد السآمة والضجرº لأن الإنسان قد يندفع في أول الأمر فيقول سأفعل وأفعل ثم بعد يومين أو ثلاثة أو بعد أسبوعين أو ثلاثة أو نحو ذلك يتسرب الملل إلى نفسه، فلا يترك الزيادة بل يترك الأصل كله وهذا الذي يقع من كثير من الناس عندما نرى أحوالهم كيف يبدأون مندفعين، وكيف ينتهون منقطعين نسأل الله - عز وجل - السلامة.
وكل خارج عن أمر الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - عاقبته غير محمودة، حتى وإن كان بظنه مريداً للخير.
ودخل النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى مسجده فرأى حبلاً متدل، قال: ما هذا؟ قالوا حبل لزينب - رضي الله عنها - أم المؤمنين تصلي، فإذا تعبت تعلقت به، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، وفي رواية في هذا الحديث: (ليصلي أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد) رد إلى الاعتدال والتوسط.
وهذا قد وقع في حياته من خلص أصحابه رضوان الله عليهم من هؤلاء ومنهم أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي قال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: (ألم أخبر أنك تصلي فلا تنام، وتصوم فلا تفطر -أي الأيام كلها - وتقرأ القرآن في كل ليلة)، قال: بلى يا رسول الله! فرده النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى الاعتدال أن يصلي وأن ينام وأن يصوم يوم ويفطر يوم وأن لا يختم في أقل من ثلاث، وأخذ عبد الله ابن عمرو بهدي النبي صلى الله عيه وسلم فلما كبر سنه قال الحمد لله الذي ردني إلى موافقة رسوله - عليه الصلاة والسلام -º لأن الاستمرار ليس بهين ولا سهل.
ثم أيضاً قصة النفر الثلاثة مشهورة لما جاءوا إلى بيوت النبي صلى الله عيه وسلم يسألون عن عبادته فأخبروا بها إنه كان يصلي، وكان ينام، وكان يلاعب أهله، وكان يمزح مع أحفاده ونحو ذلك فكأنهم تقالوها - يعني رأوها قليلة - فقال بعضهم لبعض: هو رسول الله صلى الله عيه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنحن نحتاج إلى الزيادة، قال أحدهم أما أنا فأصلي فلا أنام، وقال الآخر: وأما أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء، فسمع النبي صلى الله عيه وسلم بخبرهم فقام خطيباً في الناس: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.. أما إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)º لأن الزيادة على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كأن فاعلها يظن أنه خيراً منه - عليه الصلاة والسلام - والأعظم من ذلك أنه يخرج عما شرعه الله وبينه رسول الله صلى الله عيه وسلم كأنه لم يقنع به ولم يكتفي به وهذه هي المسائل الخطيرة.
ومن الوجوه أيضاً: تحريم الطيبات كما وقع من هؤلاء قال لا أتزوج النساء يحرم الطيبات {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} فبعض الناس أيضاً بنزعة من رغبة الخير يحرم ما لم يحرمه الله - سبحانه وتعالى- وهذا خطير جداًº لأن التحليل والتحريم حق لله - عز وجل - وحده لا يحل لأحد أن يقول عن شيء إنه حرام حتى يكون عليه دليل من كتاب أو سنة وبعض الناس نراهم اليوم وهم يطلقون التحريم كأنما هو شيء عابر لا تفعل كذا هذا حرام لا تقل كذا هذا حرام لا تلبس هذا هذا حرام وكثير من ذلك ليس عليه دليل وإنما هو نزعة من التشدد ورغبة في بعض الأمور أو قياس غير صحيح ونحو ذلك من هذه الأمثلة التي نراها في حياة الناس.
وقد وقع وحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك وبينه كما في حديثه - عليه الصلاة والسلام - قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم في كتابه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن ينسى شيئا وما كان ربك نسيا) رواه الحاكم بإسناد صحيح.
ولذلك لابد أن ننتبه إلى هذاº فإن بعض الناس كما قلت من باب رغبته في الالتزام أو رغبته في التورع يحرم أو يحلل تركك للشيء تورعاً من غير تحريمه هذا أمر يرجع إليك لا تريد مثلاً أن تركب من السيارات أنواعاً معينة أو لا تريد أن يكون في بيتك أثاثاُ معيناً نعم لك ذلك إن أردته زهداً أو إن أردته تورعاً لكن أن تقول إنه حرام فلا يصح التحريم إلا لما كان محرماً في أصل الشرع، وهذا كثير يقع فيه من الناس نوع من الخصام والنزاع.. نسأل الله - عز وجل - أن حذر وأن نبتعد عن مثل هذا.
وأيضاً صور أخرى نراها في كثير من الجوانب التي يقع بها مثير من الخطأ والتشديد في غير محله ومن ذلك صور التعامل مع الناس المخطأين والعاصيين فإن بعض الناس ممن منطلق يظنه غيرة لله وحمية في دين الله ونوع من الإنكار لهذه المحرمات أو لتلك المعاصي يخرج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: \" يخرج عن حد الاعتدال فيتجاوز في الإنكار حد المنكر فيكون هو واقع في منكر \".
ولذلك ننظر إلى بعض مواقف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم الصحابة وينبه الأمة إلى ما ينبغي أن تساس به النفوس، وأن تستجلب به القلوب من اللين والرفق فقد قال كما في حديث عائشة: (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا زانه)، فالرفق واللين هو الأصل والحزم أو العقاب إنما يكون متأخرا وإنما يكون بحسب ضوابطه الشرعية، وإنما يكون لمن له الولاية الصحيحة في إقامة هذه العقوبة أو ذلك الحد وليس الأمر فوضى في شرع الله - عز وجل -.
ننتبه إلى أحداث أو نذكر أحداثاً كثيرة معلومة في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصة الأعرابي الذي دخل إلى المسجد فبال فيه - قصة مشهورة - فعمد الصحابة إليه لينهوه أو ليزجروه - وهم في شدة الغضب من فعله - فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: (دعوه)، وفي بعض الروايات: (لا تزرموه)، وفي أخرى: (لا تقطعوا على الأعرابي بولته) ثم لما قضى الأعرابي حاجته.. ماذا فعل النبي - عليه الصلاة والسلام -؟
أمر الصحابة الذين كانوا منكرين وغاضبين قال: (صبوا على بول الأعرابي سدلاً من الماء) أنتم خذوا الماء وطهروا ما فعله من النجاسةº حتى يعلمهم كيف يضبطون مشاعرهم، وكيف يحسنون التوجيه فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - للرجل بعد ذلك: (إن هذه المساجد بيوت الله لا يصح فيها شيء من الأذى).
وقصة معاوية بن الحكم الأسلمي - رضي الله عنه - عند البخاري، قصة مشهورة - وكان من الأعراب في البادية - فجاء إلى المدينة ودخل في الصلاة وهو لا يعلم كثيراً من الأحكام التي قد نزلت في غيابه، فلما صلى عطس في الصلاة فقال بصوت عالٍ,: \" الحمد لله \" وهو لا يعلم النهي عن الكلام في الصلاة، قال: فجعلوا يحدون النظر إليّ - يعني بعض الصحابة ينظرون إليه - قال بعض أهل العلم لم يكن قد نهي عن الالتفات في الصلاة، أو كان الذين بجواره ينظرون إليه، قال فجعلوا يحدون النظر إلي فقلت: واثكل أماه! مالكم تنظرون إليّ - وهو في الصلاة - قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، قال: فلما قضيت الصلاة دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده خيراً منه قط، فوالله ما نهرني ولا كهرني ولكن قال: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس).
ومن لطائف استشهادات أهل العلم من القرآن الكريم ما ورد في قصة موسى وفرعون لما أمر الله موسى وهارون أن يبلغا دعوة الله إلى فرعون - أكثر أهل الأرض وأبغاهم وأطغاهم - قال له: {فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى} أي فقولا له قولاً لينا.. حتى قال من قال من أهل العلم عندما جاءه من ينكر على بعض الناس، قال: يا هذا ليس من تنكر عليه أكفر من فرعون، ولا أنت بأفضل من موسى - عليه السلام -، وقد أمره الله أن يلين وهو نبي إلى فرعون وهو أكفر الكافرين.
وهكذا نتنبه أن بعض الناس يكون متشددا في غير الموضع بحكم اندفاع في غيرته وليس ذلك في كل المواضع فينبغي أن نفرق بين ما هو في دين الله وما هو أحياناً انتصاراً للنفس.
وأيضاً أن نفرق بين مآلات الأمورº فإن غلب على الظن أن الحزم قد يؤدي إلى ترك المنكر فهو الحزم المطلوب وإن غلب على الظن أنه يؤدي إلى النفرة، ويثير البلبلة، ويعظم المشكلةº فإنه حينئذ ليس هو المطلوب وهذا مما ينبغي التنبه إليه.
ومن أمور التشدد أيضاً والغلو التي قد نراها في حياة الناس، وتبدأ تنتشر في بعض المجتمعات ويحصل بها خلاف بين الآباء والأبناء: النظرة إلى الدنيا فمن تارك لها تركاً يشبه تحريمه لطيباتها، وينكر على من أخذ على مما يحل فيها، ومن غارق في بحر شهواته قد علّق بها قلبه وشغل بها فكره، وقضى فيها وقته ونسي لأجلها آخرته - والعياذ بالله - وهذا حال كله منكراً والتوسط هو المطلوب.
وللنظر كيف علمنا القرآن التحذير من حال أهل الكتاب في طرفي نقيض، وكيف دعانا إلى الوسط، قال الله - عز وجل - في شأن اليهود واصفاً إياهم بتعلقهم في الدنيا، ورغبتهم فيها وتقديسهم لها وعبادتهم لها، وبيعهم وتضحيتهم لأجلها، قال: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} هم أحرص الناس على الدنيا وإن باعوا دينهم، وإن غيروا أخلاقهم، وإن نكثوا عهودهم فالدنيا هي عبادتهم، فمن كانت الدنيا عنده بهذه المنزلة فهو على شبه من اليهود في أصل ما هو عليه.
في جانب آخر ذم الله - عز وجل - النصارى أي قسسهم و رهبانهم في دينهم وملتهم قال: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} والرهبانية هي الانقطاع والانعزال والخلوة في الصوامع والكهوف والجبال التي خرجوا إليها وتركوا الدنيا بزعمهم.
وأما القرآن الذي دعانا فقد قال الله - عز وجل - فيه: {وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدٌّنيَا وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ} انظر إلى هذا التوجيه الإيماني الذي يجعل المؤمن متميزاً بوسطيته، فلا غلو ولا تفريط، وهذا أمر مهم قال الغاية هي الآخرة.
{وَابتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدٌّنيَا}º خذ من حلالها ومن خيرها ما يعينك على طاعة الله - عز وجل -، ولا حرام إلا ما حرمه الله - سبحانه وتعالى- {وَأَحسِن كَمَا أَحسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ} وهكذا نجد أن بعض الناس قد يتخفف كما قلنا من الدنيا فذلك زهد قد يختاره لنفسه لكنه كما نرى أحياناً من بعض الأبناء مع آبائهم ينكر عليهم أن يستخدموا مكيفات الهواء! أو ينكر عليهم أن يناموا على السرير! أو ينكر عليهم أن يستخدموا الإضاءة أو نحو ذلك مما قد يأتي ونرى له صور قد تكون موجودة بين فينة وأخرى أو عند نفر من هؤلاء أو أولئك.
وهكذا نرى هذه الصور التي نحتاج إلى التنبه والحذر منها ومعالجتها بما عالج به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو علاج التوسط والاعتدال الثابت في القرآن والظاهر في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا نرى كثير من هذه الأبواب قلنا إنه يفضي إلى شيء من نقض الدين أو الإخلال به.
ومن أعظم هذا وأجله هو: أمر تكفير المسلمين - والعياذ بالله - وتكفير كل من ارتكب كبيرة من الكبائر أو وقع في معصية من المعاصي، وهذا هو ديدن الخوارج واعتقادهم وتجدد عند كثير أو عند بعض المسلمين في هذه الأعصر، فكلما رأى رجلاً مقصراً في جانب من الجوانب أو واقع في معصية من المعاصي وصموه بالكفر وحكموا عليه بالخلود في النار والعياذ بالله، وهم لا يشعرون أنهم يجترئون اجتراءً عظيما، ويقعون في محذور ومحظور أعظم مما يظنونه غيرة أو انتصاراً للدين و يناقضون صريح القرآن في قول الله - عز وجل -: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، وحديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - القدسي عن رب العزة والجلال: (يا ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).
وينسون ولا يدركون كثير من الآيات ودلالاتها: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} المتقاتلين سماهم الله - عز وجل - \" مؤمنين \" نعم هم مخطئون هم عاصون هم مستحقون للعقوبة من الله - عز وجل - إلا أن يتوب عليهم لكنهم مسلمين مؤمنين لم يخرجوا من الملة، فلم يستحقوا سمة الكفر التي تخلدهم في النار والعياذ بالله.
وبعض هؤلاء يأخذون أطرافاً من الآيات ونصوصاً من هنا وهناك متفرقات ويفهمون منها فهماً بعقولهم واجتهاداتهم وهم ليسوا من أهل العلم، ثم يخرجون على الناس - عياذاً بالله - بدين جديد و بأحكام خطيرة ينبغي أن نحذر منها ونسأل الله - عز وجل - لنا ولكم السلامة.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
إن من الغلو صور كثيرة ينبغي لنا أن ننتبه منها وأن نحذر منها وأمثلتها كثيرة.
وقضية التكفير والتفسيق والتبديع من أشدها خطراً ولابد للإنسان لكي يرتدع من ذلك أو لكي ينبه فيه أن يرى ما ورد من التحذير في نصوص الشارع وأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من التعدي في هذا الباب فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: (من قال لأخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقال في حديث آخر في رواية مسلم: (أنها تصعد إلى السماء حتى إذا لم تجد يستحقها صاحبها حارت ثم رجعت إليه) والعياذ بالله.
فالقضية ليست سهلة والله - عز وجل - قد استخرج أهل الإيمان والإسلام من الكفر و أنقذهم منه فكيف نوصمهم به؟
ومن هذا الباب يقع أيضاً شرا كبير و بلاء عظيم في تهور كثير من الناس وعجلتهم، وعدم تطبيقهم للنصوص ودلالاتها، وعدم تقديرهم للظروف و الأحوال ودعوتهم إلى نقض الطاعة ممن ولى الله - عز وجل - أمرهم، وإن كان فيه نقص وإن كان فيه ظلم وإن كان فيه عدوان وإن كانت فيه مخالفةº فإن الشارع الحكيم قد سد هذا الباب سداً محكما وحذر منه تحذيرا عظيماً وجعل الأمر فيه مستنداً إلى بينة واضحة وإلى برهان قاطع كما في حديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في والنشط والمكره والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان).
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة ذكر فيها عسف الأمراء وجورهم وظلمهم، وفي كثير من الروايات قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم قال: (لا! ما أقاموا فيكم الصلاة).
وكثيرة هي الأحاديث التي تنبه على خطر هذا أضف إلى ذلك ما قاله أهل العلمº من بقاء العصمة للدم فإن كثيراً من هذه الأحوال يفضي إلى الهرج والمرج وكثرة القتل وسيلان الدماء و ذهاب حرمة المسلم نسأل الله - عز وجل - السلامة.
وتقع بها فتن عظيمة وشر مستطير وأمر الجهاد له ميادينه وله أحكامه ليست القضية قضية رأي شخصي ولا هوىً نفسي، بل قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين أن الدوافع النفسية قد تدفع إلى شيء من ذلك وتتلبس بالدين، فحذر النبي - عليه الصلاة والسلام - من ذلك وأمر بالصبر والاعتصام بالكتاب والسنة والتزام الجماعة والنظر في مصالح الأمة عندما جاء في حديثه: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).
وفي حديث آخر أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشأن الأمراء الظلمة قال وإن (جلد ظهرك وأخذ مالك)º لأنه حين إذن سينتصر لظهره المجلود ولماله المسلوب ويلبس ذلك لباس الدين والانتصار لله دون أن يلفت إلى ذلك.
وهذا باب نرى ما وقع فيه من البلاء في بعض ديار الإسلام اليوم وينبغي أن نحذر منه، وأن ننتبه له وأن نعرف الحدود الشرعية في هذا، وليس مثل هذا المقام مقام تفصيل فيهº ولكننا نرى صوراً من العجلة التي تؤدي إلى كثير من البلاء والمشكلات والمصائب.. نسأل الله - عز وجل - أن يعصمنا وإياكم منها.
وما أود الإشارة إليه هو أيضاً ما سبق ذكره من أن قضية الغلو أو التشديد التي يتحدث بها أعداء الإسلام مرفوضة لا نقبلها، والتي يتحدث بها غلاة من المسلمين أرادوا لأنفسهم أن يتحللوا من الأوامر والنواهي ليست عندنا بمقبولة ما هو تشدد أو ما هو غلو هو ما كان بلسان الشرع.
كذلك فإن كثيراً من الناس اليوم إذا التزم الإسلام في أحواله وفي أقواله وفي أفعاله قالوا هذا متشدد وهذا من أهوان الناس ومن خلل عقولهم.. فنسأل الله - عز وجل - أن يبصرنا بالحق، وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل ويرزقنا اجتنابه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يجعلنا بالحق مستمسكين وله متبعين وإليه داعين وعنه مدافعين..ونسأله - سبحانه وتعالى- أن يجعلنا بكتابه مستمسكين، ولهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - متبعين، ولآثار الصحابة السلف الصالح مقتفين..نسأل - سبحانه وتعالى- أن يعصمنا بالإيمان وأن يحصننا باليقين، ونسأله - عز وجل - أن يحفظ إيماننا ويزيد يقيننا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد