في عام 1870 منحت فرنسا يهود الجزائر الجنسية الفرنسية، وهي ميزة لم يحصل عليها مسلمو الجزائر، وكانت الثورة الفرنسية عام 1789 قد أعطت اليهود حقوق المواطنة، في وقت كان هؤلاء يعانون من الاضطهاد ومعاداة السامية في كل العالم الغربي، - وفي أوروبا الشرقية على وجه الخصوص - حيث كان المثل الشعبي يقول: "سعيد مثل يهودي في فرنسا".
واندلاع قضية درايفوس الشهيرة في نهاية القرن التاسع عشر شكل ذريعة قوية لهرتزل في مشروعه لبناء الدولة اليهودية، وفي الحرب العالمية الثانية وإبان حكم فيشي تواطأ مسؤولون فرنسيون عديدون في الحملة النازية على اليهود، وقد اختفى هؤلاء بعد الحرب إما قتلاً أو سجناً، وبقيت محاكمات الذين عثر عليهم في المخابئ حتى الأمس القريب.
رغم ذلك تحتل عقدة الذنب حيال اليهود مكاناً راسخاً في السيكولوجيا الجماعية الفرنسية دأبت على فبركته وسائل الإعلام (صحافة، تلفزيون، سينما.. إلخ) التي تسيطر عليها نخبة موالية للصهيونية لا تنفكّ تذكر الفرنسيين - في مناسبة، ومن دونها - بعذابات اليهود خلال الحقبة النازية، وبالتواطؤ الفرنسي.
لا يهم أن فرنسا كانت من الذين سارعوا إلى الاعتراف بـ"إسرائيل" عام 1948، وبفضلها حصلت هذه الأخيرة على السلاح النووي (مفاعل ديمونة وغيره)، وعلى طيران عسكري متفوق، وقدرة على صناعة وتطوير الأسلحة، وفي عام 1956 اشتركت فرنسا و"إسرائيل" إلى جانب بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر.
منذ بداية الستينات من القرن المنصرم، وتحديداً مؤتمر "ايفيان" الذي قاد إلى استقلال الجزائر عام 1962 ثم العدوان "الإسرائيلي" في يونيو/حزيران 1967، والعدوان على مطار بيروت عام 1969، والذي على أثره قررت باريس حظر بيع السلاح إلى "إسرائيل" طرأ على السياسة العربية لفرنسا تحول في اتجاه أكثر توازناً حيال الصراع العربي - "الإسرائيلي"، هذا التحول الذي أطلقه الجنرال ديجول تبنّاه خلفاؤه الرؤساء بومبيدو وجيسكار ديستان وحتى الاشتراكي ميتران.
وقد أسهمت باريس في دفع المجموعة الاقتصادية الأوروبية إلى اتخاذ مواقف أكثر اقتراباً من الحقوق العربية، كان أبرزها على سبيل المثال إعلان البندقية في عام 1980 الذي يطالب بإنشاء وطن للفلسطينيين.
مع وصول شارون إلى السلطة بدأت العواصف تضرب العلاقة بين البلدين، وقد اضطر شيراك إلى استقباله في الاليزيه "اضطراراً" بعدما سربت أوساطه أن سفّاح صبرا وشاتيلا غير مرحب به في باريس، وبالتوازي مع تأزم العلاقة الفرنسية - الأمريكية على خلفية الأزمة العراقيةº سارت العلاقة الفرنسية - "الإسرائيلية" في طريق الأزمة المعلنة هي الأخرى. أسهم في ذلك بعض الاضطرابات التي حصلت ما بين المسلمين واليهود الفرنسيين تحت تأثير انتفاضة الأقصى منذ 28 سبتمبر/ أيلول 2000، واتهمت "إسرائيل" السلطات الفرنسية بأنها لا تفعل شيئاً لحماية اليهود من الاعتداءات.
وبعد تصريحات متفرقة خلال العامين المنصرمين وصفت فيها أوساط شارون الدولة الفرنسية تارة، والشعب الفرنسي تارة أخرى بالعنصرية، ومعاداة السامية، فجر شارون قنبلة حقيقية في 18 يوليو/ تموز الفائت عندما دعا اليهود الفرنسيين للهجرة إلى "إسرائيل"، الأمر الذي استدعى ردود فعل غاضبة من الطبقة السياسية الباريسية قبل أن يعلن شيراك أن شارون غير مرغوب به في فرنسا.
عم يبحث شارون؟
ربما عن زيادة الهجرة الفرنسية إلى "إسرائيل" حيث يشكل يهود فرنسا الستمائة ألف تقريباً الخزان الثاني بعد الولايات المتحدة لليهود المرشحين للهجرة، ويأتي ذلك بعد نضوب "خزانات" أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق والأرجنتين، وانخفاض عدد المهاجرين إلى "إسرائيل" في العام 2003 إلى ما دون رقم الثلاثين ألفاً بحسب الوكالة اليهودية، وما يزال عدد المهاجرين الفرنسيين إلى "إسرائيل" يدور حول الألفين سنوياً منذ وقت طويل.
الهدف الثاني لشارون هو السعي لإبقاء فرنسا خارج اللعبة الشرق أوسطية عشية مرحلة مهمة قد تشهد دخول حزب العمل في الحكومة، وتسريع عملية الانسحاب من غزة، ويمرر زعيم الليكود بذلك رسالة للمنظمات الصهيونية - الأمريكية مفادها أن الحل السياسي للصراع مع الفلسطينيين يبقى شأناً "إسرائيلياً" - أمريكياً صرفاً، أما أوروبا المنحازة للعرب فينبغي عليها أن تقبع في دور المصرفي الذي يحرر الشيكات.
وفي حمأة هذه الأزمة صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار يدين جدار الفصل، ويطالب "إسرائيل" بهدمه، وبتعويض الفلسطينيين الذين تضرروا جراء بنائه، طبعاً القرار غير ملزم، وهو تتمة لقرار محكمة العدل الدولية الصادر في 9 يوليو/ تموز الماضي، و"إسرائيل" أعلنت تحديها له رغم تصويت 150 دولة لمصلحته (فقط الولايات المتحدة وهندوراس وأستراليا صوّتت ضده)، لكن المفاجأة كانت في تصويت دول الاتحاد الأوروبي ال25 لمصلحته، وهي التي كانت قد امتنعت عن التصويت في المكان نفسه في فبراير/ شباط الماضي لقرار إحالة ملف الجدار إلى محكمة العدل في لاهاي.
سارع السفير "الإسرائيلي" في الأمم المتحدة دان غيلرمان إلى اتهام فرنسا بأنها "تصرفت بطريقة معيبة جداً عندما عملت لمصلحة أصدقائها الفلسطينيين على إقناع الدول الأوروبية الأخرى بتبني القرار"، وقد حيّت باريس صدور القرار، وهنأت نفسها بهذا الإجماع الأوروبي النادر، وقالت: إنها لم تفعل شيئاً جديداً عما قبل لأن إيجاد حل للصراع العربي -"الإسرائيلي" هو جزء من سياستها الثابتة، كذلك البحث عن إجماع أوروبي حيال الشؤون الدولية، بل إنها سعت إلى إدخال بند في القرار يندد بالإرهاب وبالعنف ضد المدنيين، ويحث الفلسطينيين و"الإسرائيليين" على تنفيذ التزاماتهم المنصوص عليها في خريطة الطريق.
والسؤال: هل يشكّل الإجماع الأوروبي هذا انعطافة في الدبلوماسية الأوروبية في الشرق الأوسط؟
ففيما يتعلق بالصراع العربي - "الإسرائيلي" اعتادت الدول الأوروبية أن تتخذ مواقف منفردة تقريباً إلا في بعض المناسبات، كما أن انضمام عشر دول جديدة إلى الاتحاد كان من شأنه أن يضعف إمكانية اتخاذ قرار موحد، وهي إمكانية كانت ضعيفة في الأصل، إنه لمن المفاجئ أن يبرهن الاتحاد الأوروبي الموسع على إجماع لا سابق له في أول امتحان له بعد التوسيع، والدبلوماسية الفرنسية التي كانت وراء هذه النتيجة تسعى منذ زمن إلى صياغة دبلوماسية أوروبية في الشرق الأوسط مستقلة عن الأمريكيين، وقد بدأت تتلقى دعماً في هذا الصدد من ألمانيا ومن بعض الدول الأوروبية الأخرى، ويأمل الفرنسيون أن يكون التصويت في الجمعية العامة مساء العشرين من يوليو/ تموز الماضي خطوة في هذا الطريق.
وإذا كانت أوروبا لا تملك وسائل فرض وجهات نظرها، إلا أنها بدعوة من باريس تحاول اليوم احتلال مكان غابت عنه واشنطن المنهمكة في العراق، وفي استحقاقها الرئاسي، لذلك تركز "إسرائيل" انتقاداتها على باريس، حيث الديجولي شيراك الذي يتهمه شارون بأنه منحاز للعرب والفلسطينيين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد