بعد مرور خمس سنوات من الهجمة العدوانية الأمريكية على أفغانستان لم تفلح الآلة العسكرية في الوفاء بتصريحاتها وبياناتها بشأن مزاعمها حول الإعمار، ونشر قيم الديمقراطية، وبث الأمن في ربوع البلاد، بحيث تبدو تلك الدولة التي انطلقت ضدها أول رصاصة في الحرب الأمريكية ضد ما يسمى بالإرهاب باتت مؤخراً وكأنها ستدشن أيضاً المسمار الأخير ليس فقط في نعش الإمبراطورية الأمريكية ولكن أيضاً في أفول نظامي 'مشرف' في باكستان، و'كرزاي' في أفغانستان، هذا فضلاً عن تصدع الحلف الأطلسي.
هذه المقدمة ليست خيالات أو أماني ولكنها حقائق عبرت عنها المقالات والتقارير التي خرجت بها الصحف الأمريكية والبريطانية مؤخراً، والتي جاءت تحت عناوين: 'طالبان تفضح حلف الأطلسي'، 'لنتحدث إلى الملا عمر إذا كان ذلك سينقذ حياة الجنود البريطانيين'، ' حان وقت الرحيل'، 'الجهاديون في تزايد كمي وتوسع جغرافي'.
نزيف بريطاني وتصدع إيساف:
لم يكن القدر رحيماً برئيس الوزراء البريطاني توني بلير عندما تمركزت قواته العسكرية في إقليم هلمند جنوبي أفغانستان حيث حركة طالبان أكثر نفوذاً وحضوراً في تلك المنطقة الجبلية الوعرة، الأمر الذي جعل الجيش البريطاني يدفع الفاتورة الأكبر خلال الشهور القليلة الأخيرة، فمنذ شهر مايو الماضي - حيث تسلمت بريطانيا قيادة قوة حلف الأطلسي في جنوب أفغانستان - قتل 33 جندياً بريطانياً من أصل 40 سقطوا منذ بدء العدوان الأمريكي في أواخر عام 2001.
هذا العدد الذي يعد كبيراً قياساً بخسائر القوات البريطانية في الشهور السابقةº دفع سايمون جينكينس في صحيفة جارديان إلى القول بأن مشاركة بلاده في حرب أفغانستان 'يعد من أحمق ما أقدمت عليه بريطانيا في تاريخها الحديث'.
الخسائر الفادحة دفعت الصحف البريطانية أيضاً إلى إفراد صفحات كبيرة تتحدث عن الأداء القتالي لمجاهدي طالبان، فصحيفة 'ذي إندبندنت' على سبيل المثال ذكرت في عددها الصادر بتاريخ 13 سبتمبر الماضي نقلاً عن أحد الجنود في قوات إيساف قوله: 'نحن نسوي بالأرض مناطق كنا قد سويناها بالأرض من قبل لكن الهجمات لا تتوقف, لقد قتلناهم بالعشرات لكن المزيد يبزغ لقتالنا، إما من داخل أفغانستان أو عبر الحدود'.
فيما توقع الجنرال 'إد بتلر' قائد القوات البريطانية في أفغانستان سقوط المزيد من القتلى في صفوف قواته في إطار الحرب الدائرة حالياً بين هذه القوات وعناصر حركة طالبان التي كانت تحكم البلاد حتى الإطاحة بها عام 2001.
الأداء القتالي العالي لطالبان صاحبه فتور ووهن في عمل القوات البريطانية وغيرها من قوات الاحتلال المتعددة الجنسيات في أفغانستان، ونورد هنا ما ذكرته صحيفة الجاراديان في عددها الصادر بتاريخ 23 سبتمبر 2006 نقلاً عن جنود بريطانيين: 'إن القوات البريطانية هناك منهكة ويائسة بسبب نقص المروحيات، وغياب أي أدلة على أن مستوى الأضرار بين أفرادها سيتراجع'.
هذه الصورة القاتمة للأوضاع في أفغانستان جعلت القادة العسكريين في بريطانيا أمام أحد أمرين:
الأول: طلب العون والمدد العسكري من قوات حلف شمال الأطلسي، لكن الرد والنتيجة كانت مخيبة لأمال القادة العسكريين البريطانيين، فمن بين الدول الـ 26 للحلف لم تستجب سوى بولندا التي أعلنت أنها سترسل ألف جندي في فبراير المقبل، في حين تعللت ألمانيا بأنها أرسلت 2900 جندي ولا يمكنها إرسال أكثر من 100 جندي إضافي, فيما رفضت تركيا إرسال المزيد، وذهبت إسبانيا إلى أن إرسال 690 جندياً إلى أفغانستان 'أكثر مما يلزمها', أما صربيا التي كان الناتو يعول عليها فأكدت أنها لن تساهم سوى بخمسة ضباط متخصصين في أمن المطارات.
أمام هذا التخاذل لم يكن أمام صحيفة جارديان إلا القول على لسان الصحفي سايمون تسدال بأن 'طالبان فضحت تصدعات حلف الأطلسي'، أما بقية الصحف البريطانية فقد صبت جام غضبها على الحلف، ففي عددها الصادر بتاريخ 25 سبتمبر 2006 وجهت صحيفة التايمز البريطانية انتقادات لاذعة لحلف الأطلسي مشيرة إلى أنه من غير المقبول أن يبدو أكبر تحالف عسكري - قوة وغنى - في تاريخ العالم عاجزاً بل غير مستعد لمواجهة التحديات التي تشهدها أفغانستان اليوم.
وفي ظل هذا العجز الأممي في أفغانستان طرح عدد من الصحفيين والخبراء في بريطانيا الخيار الثاني وهو التفاوض مباشرة مع مجاهدي طالبان، ففي مقال حمل عنوان 'لنتحدث إلى الملا عمر إذا كان ذلك سينقذ حياة الجنود البريطانيين' نشرته صحيفة الجارديان في 6 سبتمبر الماضي، دعا الصحفي سايمون جينكينس رئيس الوزراء البريطاني إلى التفاوض مباشرة مع مجاهدي طالبان الذين وصفهم بأنهم 'محاربو مليشيات متمرسون ومسلحون جيداً, فضلا عن كونهم يتمتعون بالتأييد الضمني لآلاف القوات المسلحة القبلية'.
أمريكا.. وهم القوة:
رغم سخونة الأجواء العسكرية التي تكسر صقيع الشتاء في أفغانستان إلا أن الأجواء السياسية في واشنطن لم تكن أقل سخونة من نظيرتها في كابول، فالإدارة الأمريكية التي لم تلملم جراحها بعد في العراق وجدت نفسها مؤخراً مشغولة بأزمة سياسية داخلية حول تنامي خطر القاعدة والجماعات الإسلامية بعد 5 سنوات من العدوان على أفغانستان.
حيث كشف تقرير استخباراتي أمريكي رفعت عنه السرية مؤخراً ونشر يوم الثلاثاء 26 سبتمبر 2006 إن ما أسماه بـ' الحركات الإرهابية' تتكيف مع جهود الإرهاب الدولية، وأن 'الحركة الجهادية' أصبحت أقل مركزية، وأنها 'تفرخ' تنظيمات فرعية بأجندة معاداة الولايات المتحدة على حد قول التقرير، وأضاف التقرير: أن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لغزو العراق شكلت حافزاً للجهاديين، كما أدت إلى تنامي مشاعر العداء المتأصلة للتورط الأمريكي في العالم الإسلامي، وتزايد أنصار الحركة الجهادية الدولية، أي أن النتيجة التي خرج بها التقرير أن الإدارة الأمريكية فشلت في حربها المزعومة ضد الإرهاب، بل الأخطر من ذلك هو ما ذهب إليه التقرير من أن الجهاديين الإسلاميين في تزايد 'كمي وتوسع جغرافي، وفي حال الاستمرار على هذا المنوال فإن التهديدات ضد المصالح الأمريكية - في الداخل والخارج - ستصبح أكثر تنوعاً مما سيؤدي إلى تصاعد الهجمات حول العالم'.
هذا التقرير كان قد سبقه جدل في الولايات المتحدة الأمريكية حول مفهوم القوة وحدودها، ففي مقال نشرته صحيفة 'كريستيان ساينس مونتور' بتاريخ 21 سبتمبر 2006 ذكر كارل روبيشو 'إن موجة الهجمات [الانتحارية] المدوية التي شهدتها أفغانستان هذا الشهر تذكير مروع بأن وزير الدفاع دونالد رمسفيلد الذي يواجه موجة من الانتقادات لدوره في حرب العراق كان المخطط لحربين خاسرتين، والمروج لنظرية خطيرة حول كيفية استخدام القوة الأمريكية'، وقد تساءل الكاتب عن سبب فشل الولايات المتحدة فأكد من جهته أن الأمر يعود إلى أخطاء رمسفيلد وفريقه التكتيكية, وإن كان مرجعها الحقيقي هو النظرة الساذجة الخطيرة لمدى القوة الأمريكية السائدة في واشنطن.
كرزاي ومشرف.. الهروب للأمام:
يبدو أن لعنة الحرب على أفغانستان لن تقتصر نتائجها على بوش وبلير، بل إن العدوى انتقلت سريعاً إلى القصور الرئاسية في كابول وإسلام أباد، فأمام تنامي قوة طالبان لم يجد الزعيمين حامد كرزاي وبرفيز مشرف غضاضة في التضحية كل منهما بالأخر محملاً إياه فشل الحملات العسكرية في القضاء على طالبان.
فالأول [كرزاي] اتهم باكستان صراحة بأنها المسؤولة عن تنامي ما أسماه بالإرهاب، وذلك من خلال مدارسها التي تغذي ' روح التشدد'، في المقابل كان رد مشرف أن الأمر برمته يرجع إلى أزمة الثقة بين الشعب الأفغاني وكرزاي الأمر الذي جعل جموع الناس تلتف حول حركة طالبان.
غير أن النقطة الجديرة بالملاحظة هنا أن هذه الاتهامات المتبادلة - وإن لم تكن جديدة - إلا أنها تؤشر في حقيقة الأمر إلى مدى خطورة الأوضاع الداخلية ليس فقط بالنسبة لكرزاي ولكن أيضاً للرئيس الباكستاني برفيز مشرف، بما يعني ذلك مخاطر كبيرة للمشروع الأمريكي في أفغانستان.
فكرزاي الذي اختار الطريق السهل لتفسير نجاحات حركة طالبان تناسى أو غض الطرف عن الأسباب الحقيقية التي تتجسد في فقده السيطرة، وتجليات الحكم الرئيسية التي لم يتبق منها سوى القصر الرئاسي، وطاقم الحرس الأمريكي، أما السيطرة الحقيقة داخل البلاد فهي لأمراء الحرب.
فرغم أن كرزاي لا يواجه معارضة داخلية تذكر إلا أن غياب هذه المعارضة لا يفسر على اعتبار أنها حالة رضا بقدر ما هي حالة لا مبالاة من قبل الزعماء المحليين تجاه الحكومة المركزية في كابول التي تعجز عن عزل أو تعيين أي مسؤول أو حاكم إقليم داخل البلاد، بحيث تحولت الأقاليم والولايات داخل أفغانستان إلى دول داخل دولة أفغانستان، لكل منها تجارتها ومكوسها، وحاكمها وبرلمانها.
أما عن الوضع الاقتصادي الداخلي فحدث ولا حرج، فشوارع كابول تعج بالمتسولين، فيما زادت رقعة الأراضي المزروعة بالخشخاش بحيث صارت أفغانستان 'دولة المخدرات' بحسب توصيف الأمم المتحدة.
أما الرئيس الباكستاني برفيز مشرف فهو الآخر يعاني من أزمة سياسية داخلية، وتخبط عسكري في إقليم بلوشستان والتي كانت أبرز مظاهره مقتل 'أكبر نواب جوبتي' الزعيم القبلي المدافع عن حقوق إقليم بلوشستان في ثرواته، وهو الأمر الذي قد يؤدي في نهاية الأمر إلى تمزيق وتفكيك باكستان.
وأمام الأوضاع الداخلية المتردية لكلا الرئيسين كرزاي ومشرف لم يكن أمامها سوى البحث عن نقطة الالتقاء الوحيدة التي يمكن أن تنقذ نظامهما وهي 'أمريكا' التي استضافت مساء الأربعاء 27 سبتمبر لقاءاً ثلاثياً جمع بوش ومشرف وكرزاي بهدف وضع حد للتلاسن الإعلامي بين الجانبين، والبحث عن استراتيجية جديدة يمكن من خلالها وضع حد لهجمات حركة طالبان التي باتت نيران مدافعها تقض مضاجع الرؤساء الثلاثة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد