ظاهرة إنكار المعجزات وتأويلها إرضاءً للمنهج الغربيّ وباسم إعلاء نظرة العقل


بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذه الظاهرة واضحة تماماً في كتابات \"هيكل\" \"وطه حسين\" \"والعقاد\" وقد قامت عليها كتاباتهم في (حياة محمد وهامش السيرة والعبقريات) وكانت لها جذورٌ ممتدة في كتابات الشيخ \"محمد عبده\" وفريد وجدي\" وقد هاجمها الشَّيخُ\"مصطفى صبري\"شيخ الإسلام في الدولة العثمانية في كتابه الضخم (موقف العلم والعالم من رب العالمين).

وقد جرى الكتّاب الثلاثة هذا المجرى باسم (المنهجِ العلميِّ الغربيِّ).

والحقيقة أنَّ المنهجَ العلميَّ هو منهجٌ إسلاميٌّ الأصلِ والمصدر على خلاف دعوة بعض المتأثرين بالدراسات الغربيّة، ولقد كان من أبرز أهداف التغريب التأثير في أسلوب كتابة التاريخ الإسلاميّ وفي مقدمة ذلك (سيرة النَّبيِّ الأعظم) إيماناً منهم بأن هذه الصفحات الباهرة من شأنها إذا عرضت عرضاً صحيحاً أن تبعث الأحاسيس العميقة في قلوب شباب المسلمين, ومن هنا كانت محاولتهم المسمومة في إدخال أسلوب عصري له طابع براق، ولكنه يخفي من وراء ذلك إطفاء الأضواء التي يقدمها هذا التاريخ, من حيث الصلة بالله -تبارك وتعالى- والإعجاز الرباني الواضح في كل مواقف حياة النَّبيّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وفي تاريخ الإسلام وفتوحاته. ولما كان هذا العمل هو بمثابة هدف واضح الدلالة في مخطط الاحتواء الغربيّ الذي يرمي إلى التقليل من شأن البطولات الإسلاميّة ووضعها موضع المقارنة مع البطولات الإسلاميّة, ووضعها موضع المقارنة مع البطولات الغربيّة من خلال النواحي المادية وحدها, فقد حجبت هذه الدراسات جانباً كبيراً من أثرها المعنوي والروحي الذي يهز النفوس, ويملؤها بالثقة واليقين في عظمة هذا الدين الخاتم, وفي سعة العطاء الرباني لنبيه.

ومن هنا كان ذلك الأسلوب المسمَّى بالعلمي الذي اصطنعه كتّاب لهم أسماء لامعة, ولم تكن سابقة في الدراسات الإسلاميّة, بل كانوا غارقين في دراسات الغرب وبطولات رجاله (جان جاك روسو، فولتير، مونتسكيو، أرسطو... إلخ)في محاولة للتقليل من قدر أحداث السِّيرة النَّبَويَّة تحت اسم العقلانية, وإنكار المعجزات, والجوانب الغيبية, والإعراض عن الجوانب ذات الصلة بالإيمان والعقيدة, واليقين, والتقوى وغيرها.

ولقد استطال الدكتور \"هيكل\" في مقدمة كتابه بإعجابه وتبنيه للطريقة العلمية الحديثة, وأشار إلى ميزاتها وأفضليتها. ولكن الشَّيخ \"محمد مصطفى المراغي\" في مقدمته لكتاب \"حياة محمد\" لم يخف عليه هدف هذا فقال:\" أما أنّ هذه الطريقة حديثة فهذا ما يعتذر عنه وقد ساير الدكتور (هيكل) غيره من العلماء في هذا، ذلكº لأنها طريقة القرآن كما اعترف هو, ولأنها طريقة علماء سلف المسلمين. انظر كتب الكلام تراهم يقرِّرُون أن أول واجب على المكلف معرفة الله. فيقول آخرون: لا، إن أول واجب هو الشك، ثم إنه لا طريق للمعرفة إلا البرهان, وقد جرى \"الإمام الغزالي\" على الطريقة نفسها(1)، وقد قرَّر في أحد كتبه أنه جرّد نفسه  من جميع الآراء ثم فكّر وقدّر ورتّب ووازن وقرّب وباعد, ثم اهتدى بعد ذلك كله إلى أن الإسلام حق, وإلى ما اهتدى إليه من الآراء. وأنت واجد في كتب الكلام في مواضع كثيرة حكاية (تجريد النفس) عما ألفته من العقائد.ثم البحث والنظر فطريق التجريد طريق قديم وطريق التجربة والاستقراء طريق قديم، والتجربة والاستقراء التام وليدا الملاحظة, فليس هناك جديد عندنا. ولكن هذه الطريقة القديمة بعد أن نسيت في التطبيق العلمي والعملي في الشرق, وبعد أن فشا التقليد وأهدر العقل, وبعد أن أبرزها الغربيّون في ثوب ناصع. وأفادوا منها في العلم والعمل رجعنا نأخذها ونراها طريقاً في العلم جديدة). أ.هـ

وهكذا تبين للمدرسة الحديثة أن الإسلام هو واضع لهذا المنهج العلمي الذي أخذوا به، وإن لم يعطوه حقه من الأصالة الإسلاميّة بل قصروه على الجوانب المادية ففاتهم خير كثير، نظراًº لأن خلفياتهم مع الأسف كانت عربية ولم يكونوا قد قرأوا من التراث الإسلاميِّ ما يمكنهم من معرفة الحقيقة كاملة.

لقد كتبت هذه الدراسات بالرغم من حُسنِ النِّيَّةِ عند البعض بصورة قاصرة خالية من الإيمان اليقين تحت اسم العلم الذي لا يعترف للنَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- إلا بمعجزة واحدة هي القرآن، وكان من رأي فريد \"وجدي\" وهيكل\" الإعراض عن الخبر الصادق الذي ثبت في الكتاب والسنة إذا عارض طريق العلم(2) وبذلك حجبوا عن السِّيرة النَّبَويَّة أهم جوانبها وأخطرها على الإطلاق وهو (جانب معجزة الوحي الإلهي وعالم الغيب).

ولطالما ردد \"هيكل\" وطه حسين\" غيرهما كلمة العلم والمنهج العلمي. والحقيقة أنهم ما كانوا يقصدون العلم التجريبي، الذي يقوم في المعامل على أساس الأنابيب. وإما العلم الذي قصدوا إليه والذي لقن لهم هو الفلسفة المادية التي قدَّمها التلموديون, وكانت قد استفحلت في الغرب بعد القضاء على الفلسفة المثالة المسيحية، وهي فلسفة التنوير كما يقولون. قامت على إنكار جوانب الإنسان الروحية والمعنوية وتصويره بصورة الحيوان والحيوان الناطق والخاضع لشهوتي الطعام والجنس (ماركس وفرويد) وقد امتد هذا الأثر إلى علوم الاجتماع, والأخلاق, والتربية, والأدب, والسياسة جميعاً، ولم يكن هذا في الحقيقة العلم، وما كانت هذه الصيحات تساوي شيئاًº لأن هذه المفاهيم كانت سرعان ما تتعثر وتسقط أمام المتغيرات فضلاً عن أنه قد ثبت-من بعد-عجز العلم التجريبي عن أن يقول (كيف) وعجزت الدراسات المادية أن تكشف سرائر العلوم الإنسانية.

ولقد كانت هذه الدراسات مع الأسف خاضعة لفكرتين مسمومتين قائمتين في نفوس وعقول كتاب الغرب والتغريب هما:

1-  فكرة (إخضاع الدين لمقاييس العلم) في أفق الفكر الإسلاميّ كما فعل الغرب، وهي فكرة مردودة لعمق الفوارق بين الإسلام وبين المسيحية, وقد تبين من بعد أنه ليس في الإمكان إخضاع الدين لمقاييس العلم.

2-  تخليص الفكر الإسلاميّ من سائر الغيبيات التي لا تخضع لمقاييس العلم الحديث. ومن هنا كانت محاولة إخضاع السِّيرة النَّبَويَّة والتاريخ الإسلاميّ لهذا المفهوم، وهو ما جرى عليه كتاب التغريب من استبدال السند والرواية, وقواعد التحديث, وشروطه بأسلوب جديد (زائف), من الاستنتاج الشخصي المتصل بذوق ومزاج كل كاتب على حدة. فطه حسين تابعٌ لمذهب العلوم الاجتماعي. والعقاد تابع لمذهب العلوم النفسية، وهيكل تابعٌ لمذهب تين وبرونير... إلخ. هذا الأسلوب الذاتي خطير جداًº لأنه لا يقوم على قواعد أساسية علمية, وإنما يقوم على أساس (الظن وما تهوى الأنفس) هذا الأسلوب يتيح لأصحابه أن يقبلوا وقائع وأحداثاً وأن يغضوا عن غيرها ما يختلف مع وجهتهم المسبقة، من هنا كان خطورة هذا المذهب في (استبعاد ما يخالف المألوف مما يدخل في باب المعجزات والغيبات) في سيرة النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-.

كذلك فقد حاول دعاة التغريب الاستفادة من هذا الاتجاه ملحظاً خطيراً هو القول بأن الغاية منها هو ما أطلق عليه (فكرة الاندماج الكلي في الكمال الروحي), وأنها جميعاً وحدة متصلة تربط البشرية في فكرة واحدة.

وهذه محاولة مضللةº لأن الأديان مترابطة من حيث أن أولها يوصل إلى آخرها، ولكن رؤساء الأديان غيّروا وبدّلوا, وبذلك جاء الإسلام مرة أخرى يربط نفسه بدين إبراهيم ليعيد هذه الوحدة في مفهومها الصحيح.

 


 


1 - بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها ولسنا بصدد ذكر بطلان هذه الطريقة وتفنيدها وإنما بصدد الحكاية فقط.

2 - وذلك من وجهة نظرهم وإلا فالحقيقة أنه لا تعارض بين الخبر الصادق الذي ثبت في الكتاب والسنة وبين العلم وقد ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً كاملاً أسماه ( درء تعارض العقل والنقل).  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply