رؤية شاملة لدلالة النص


بسم الله الرحمن الرحيم 

\"... فمن أراد أن يناقش النص فليناقشه في سياقه الكامل الذي يشمل دلالته الشرعية المأخوذة من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، أما القفز إلى النص مباشرة وفهمه بمقدمات عقلية أو لغوية أو عرفية خاصة ببيئة المتكلم فهذا مما لا يقبل بحال.... \"

كثير من المشاكل الفكرية ترجع في الغالب إلى عدم وضوح المصطلحات محل النقاش، ومن هذا مصطلح (النص) الذي كثر الكلام عليه في أطروحات الحداثيين و (التنويريين) ومن قاربهم من (العقلانيين).

 

مفهوم آخر للنّص اصطلح على أن تطلق لفظة (النّص) على منطوق الوحيين الكتاب والسنة الصحيحة. وهذا الأمر فيه نظر. إذ أن منطوق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لا يمكن بحال أن ينفصل عن سياق عام يشمل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة رضوان الله عليهم، أو قل سبب نزول (النص) وكيفية امتثال النبي -ـ - صلى الله عليه وسلم - وصحابته (للنص).

فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا فقط منطوق القرآن الكريم - الذي يقال عنه النص في عرف القوم - وإنما بلغنا القرآن ومراد الله من كلامه، وهذا هو معنى البلاغ المبين المذكور في سبع مواضع من كتاب الله:

قال - تعالى -: (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحذَرُوا فَإِن تَوَلَّيتُم فَاعلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاَغُ المُبِينُ) (المائدة: 9).

وقال - تعالى -: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيتُم فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ) (التغابن: 1).

وقال - تعالى -: (قُل أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيكُم مَّا حُمِّلتُم وَإِن تُطِيعُوهُ تَهتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ) (النور: 54).

وقال - تعالى -: (وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَد كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبلِكُم وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ) (العنكبوت: 18).

وقال - تعالى -: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشرَكُوا لَو شَاء اللّهُ مَا عَبَدنَا مِن دُونِهِ مِن شَيءٍ, نَّحنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمنَا مِن دُونِهِ مِن شَيءٍ, كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَهَل عَلَى الرٌّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ) (النحل: 35).

وقال - تعالى -: ((فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيكَ البَلاَغُ المُبِينُ) (النحل: 8).

وقال - تعالى -: (وَمَا عَلَينَا إِلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ) (يس: 17).

 

والبلاغ المبين هو:

الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، أو هو الَّذِي يُبِين عن معناه لمن أَبلَغَهُ، ويفهمه من أُرسِلَ إليه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأتنا فقط بألفاظ القرآن بل بألفاظ القرآن وبمراد الله من هذه الألفاظ، والصحابة رضوان الله عليهم لم يتلقوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط منطوق القرآن الكريم ثم ذهبوا يفهمونها كما شاءوا. لا. بل كانوا يتعلمون الإيمان ثم يضبطون ما فهموه بالقرآن الكريم كما جاء في الحديث. عن جُندُبِ بن عبد الله قال: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن فتيان حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمنَا الإِيمَانَ قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا). وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أَبِي عبد الرحمن قال: (حدثنا من كان يُقرِئُنَا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يَقتَرِئُونَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَشرَ آيَاتٍ, فَلَا يَأخُذُونَ فِي العَشرِ الأُخرَى حَتَّى يَعلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِن العِلمِ وَالعَمَلِ قَالُوا فَعَلِمنَا العِلمَ وَالعَمَلَ).

والمراد: أن الصحابة رضوان الله عليهم تلقوا (نص) - منطوق - وتلقوا معنى، وهذا كله هو ما نحن ملزمين به - كتابعين لهؤلاء الكرام -، قال - تعالى -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا}. وقال - تعالى -: (فَإِن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ, فَسَيَكفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (البقرة: 137) فالصحابة هم من أراد الله بوصف المؤمنين في هذه الآيات ذلك أن الله - عز وجل - شهد لهم بالإيمان في آيات أخرى من كتابه قال - تعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ, - رضي الله عنهم - وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ} (التوبة: 1). وَقَالَ - تعالى -: {لَقَد رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤمِنِينَ إذ يُبَايِعُونَكَ تَحتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيهِم وَأَثَابَهُم فَتحًا قَرِيبًا}(الفتح: 18).

 

والخلاصة أنه لا بد - من وجهة نظري - من إعادة تعريف النص الشرعي على أنه: منطوق القرآن كما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم وأقرهم عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز لأحد أن يأخذ آية من كتاب الله ثم بعد ذلك يفهمها ويطبقها بغير الفهم والتطبيق الذي كان عليه صحابة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -º إذ أنه من المعروف أن (العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم حجة شرعية يجب إتباعها، وتلقيها بالقبول).

فمن أراد أن يناقش النص فليناقشه في سياقه الكامل الذي يشمل دلالته الشرعية المأخوذة من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، أما القفز إلى النص - منطوق القرآن أو السنة - مباشرة وفهمه بمقدمات عقلية أو لغوية أو عرفية خاصة ببيئة المتكلم فهذا مما لا يقبل بحال. ومن فعلَ هذا نرده بأننا تلقينا وحيين - كتابا وسنة -، وقد كان هناك قوم شاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعوا منه ورأوا من أحواله وأفعاله ما يجعلهم أكثر الناس دراية بمراد الله من خطابهº فليس السامع الغائب كالسامع الشاهد، ومات رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم وزكاهم ربهم وأمرنا بإتباع سبيلهم قال الله: (فَإِن آمَنُوا بِمِثلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا هُم فِي شِقَاقٍ, فَسَيَكفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (البقرة: 137) وقال الله (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءت مَصِيراً) (النساء: 115)، فنحن نرفض تماما التعامل مع منطوق القرآن والسنة بغير السياق العام الذي نزل فيه أعني التطبيق العملي المتمثل في فعل الصحابة رضوان الله عليهم ومعهم إمامهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وأضرب مثال أبين به قولي: آيات الحجاب - وهي مما يكثر حولها دندنة القوم - أعني قول الله - تعالى -: (... وَإِذَا سَأَلتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ,... الآية) (الأحزاب: 53) وقول الله - تعالى -: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ قُل لأزوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلا يُؤذَينَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب: 59) وقول الله - تعالى -: (وَقَرنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجنَ تَبَرٌّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأولى... ) (الأحزاب: 33) وقول الله - تعالى -: (وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ... الآية) (النور: 31) هذه الآيات لها سياق نزلت فيه وتفهم دلالتها من خلاله... المنافقون على نواصي الطرقات وبالأزقة يتحرشون بالسافرات من النساء حين يخرجن ليلا لقضاء الحاجة، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطالب بضرب الستر بين الرجال والنساء كي لا يرى الرجال أبدانهن ــ وهن العفيفات الطاهرات أمهات المؤمنين ونساء الصحابة رضي الله عنهن أجمعين - ولا يرى النساء أشخاص الرجال - وهم صحابة النبي الكرام - ونزلت الآيات فشق النساء مروطهن وتخمرن بها... وأصبحن كالغرابيب لا يُعرفن ولا يرى منهن شيء لا بوصف ولا بكشف، ولا تطمع فيهن عين لزينة في الثياب أو زينة تسمع أو ترى من تحت الثياب وقد فارقن بهذا الثياب الكافرات، فلم يكن الأمر اقتباس من عادات الجاهلية كما يدعي الجهلة من المثقفين اليوم، ولا سرقة من ثقافة اليهود بل تشريع من رب العالمين للصادق الأمين وصحابته الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أقول من المعلوم أن التشريع في الإسلام ارتبط بالحركةº وأن الوحي كان يتنزل بناء على الأحداث لتوجيهها أو لتصحيحها، ولم ينزل القرآن مرة واحدة، ولم يكن المراد من الوحي هو مجرد التلاوة والإقرار بما يحمله من أحكام دون الامتثال العملي، فكيف - مع هذا كله - يؤخذ منطوق القرآن والسنة النبوية بمعزل عن ملابسات أسباب النزول، وامتثال الصحابة للأمر والنهي؟!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply