قطوف تربوية حول قصة المجادلة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شاهدة على عصرها:

عَن خَولَةَ بِنتِ ثَعلَبَةَ قَالَت: وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوسِ بنِ صَامِتٍ, أَنزَلَ اللَّهُ - عز وجل - صَدرَ سُورَةِ المُجَادَلَةِ. قَالَت: كُنتُ عِندَهُ وَكَانَ شَيخاً كَبِيراً قَد سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ. قَالَت: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوماً فَرَاجَعتُهُ بِشَيءٍ, فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنتِ عَلَيَّ كَظَهرِ أُمِّي. قَالَت: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَومِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّº فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفسِي. قَالَت: فَقُلتُ: كَـلاº وَالَّـذِي نَفـسُ خُوَيلَـةَ بِيَدِهِ لا تَخلُصُ إِلَيَّ وَقَد قُلتَ مَا قُلتَ حَتَّى يَحكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكمِهِ. قَالَت: فَوَاثَبَنِي، وَامتَنَعتُ مِنهُ، فَغَلَبتُهُ بِمَا تَغلِبُ بِهِ المَرأَةُ الشَّيخَ الضَّعِيفَ، فَأَلقَيتُهُ عَنِّي. قَالَت: ثُمَّ خَرَجتُ إِلَى بَعضِ جَارَاتِي فَاستَعَرتُ مِنهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجتُ حَتَّى جِئتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَلَستُ بَينَ يَدَيهِ، فَذَكَرتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنهُ، فَجَعَلتُ أَشكُو إِلَيهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَلقَى مِن سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَت: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: يَا خُوَيلَةُ! ابنُ عَمِّكِ شَيخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ. قَالَت: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ القُرآنُ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيلَةُ قَد أَنزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَــرَأَ عَلَـيَّ: {قَد سَمِـعَ اللَّـهُ قَـولَ الَّتِـي تُـجَادِلُكَ فِـي زَوجِـهَا وَتَشـتَكِـي إلَى اللَّهِ وَاللَّـهُ يَسمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَولِهِ: {وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مُرِيهِ فَليُعتِق رَقَبَةً. قَالَت: فَقُلتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِندَهُ مَا يُعتِقُ. قَالَ: فَليَصُم شَهرَينِ مُتَتَابِعَينِ. قَالَت: فَقُلتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِن صِيَامٍ,. قَالَ: فَليُطعِم سِتِّينَ مِسكِيناً وَسقاً مِن تَمرٍ,. قَالَت: قُلتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَاكَ عِندَهُ. قَالَت: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ, مِن تَمرٍ,. قَالَت: فَقُلتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ, آخَرَ. قَال: قَد أَصَبتِ وَأَحسَنتِ، فَاذهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنهُ، ثُمَّ استَوصِي بِابنِ عَمِّكِ خَيراً. قَالَت: فَفَعَلتُ. قَالَ سَعدٌ: العَرَقُ: الصَّنٌّ»(1).

 

وردت هذه القصة، في مطلع (سورة المجادلة)، وهي أول سورة في الجزء الثامن والعشرين، من القرآن الكريم.

 

وسور هذا الجزء تركز على البعد الداخليº والمشاكل الداخلية للمجتمع الوليد في المدينة، خاصة المشاكل الحياتية اليومية العادية، مع عدم إهمال البعد الخارجي للواقع المحيط وما يوجد به من أعداء للدعوة مثل اليهود والمنافقين.

 

وهو عبارة عن جولة (مع الجماعة المسلمة الناشئةº حيث تُربى وتُقوَّم، وتُعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدّره الله لها في دورة هذا الكون ومقدّراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل للحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك … وهو دور ضخم إذن يقتضي إعداداً كاملاً.

 

وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئةº وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه.

 

هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشريةº فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة.

 

فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها)(1).

 

وعندما نتأمل هذه السورة نجد أنها تدور حول عدة قضايا أو موضوعات رئيسة:

 

(أ) قصة المجادلة.

(ب) تهديد الذين يُحادّون، أي يخالفون ويعادون الله ورسوله.

 

(ج) التذكير بعلم الله - سبحانه - المحيط بكل نجوى، وتهديد من يتناجى بالإثم والعدوان والكيد والتآمر ضد المسلمين.

 

(د) التذكرة بأدب السماحة والطاعة للقيادة، وأدب مجالس العلم.

 

(هـ) كشف بعض كيد المنافقين الذين يتآمرون مع أعداء الدعوة من اليهود.

 

(و) بيان الصورة الربانية العظيمة لحزب اللهº والممثل بالسابقين من المهاجرين والأنصار.

 

ولكن عندما نتدبر هذه القضايا المهمة والعظيمة، ونجد أن السورة قد بدأت بقضية المجادلة، بل إن اسم السورة التوقيفي نجده على نفس القضية، وهذا ما يُلقي في الروعº كيف أن الحق - سبحانه - يُولي أهمية خاصة بتلك القضية، وتكون في مقدمة سلم أولويات قضايا السورة بل والجزء كله.

 

وعندما نتأمل كيف أن التربية القرآنية الربانية ـ والممثلة في تلاوة وتدبر القرآن الكريم يومياً ـ تقوم بدور عظيم في عملية البناء الفكري والسلوكي لعقل الأمة الباطن، وتذكره بأهمية مثل تلك القضية.

 

لأن البداية في عملية التغيير الحضاري إنما تنبع من فكرة عظيمة في قلب رجل عظيم.

 

ثم تنشئ هذه الفكرة تحولاً نفسياً في نفوس البشرº وهذا التحول ينشئ دافعاً داخلياًº ثم يفرز هذا الدافع سلوكاً عملياً، فينتج تغييراً فردياًº ثم تحولاً حضارياً بأشكاله المنوعةº سواء الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي.

 

{إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11].

 

إذن: أي تغيير فردي أو جماعي أو أممي إنما ينطلق من تغيير فكري.

 

والتغيير الفكري هو الذي يحدد نوعية هذا التغيير الحضاري.

 

إذن: مقياس جودة أي تغيير فردي أو حضاري هو المنطلق الفكري لهذا التحولº أو القاعدة الفكرية لهذا التغيير.

 

فما أحوجنا لتأمل ذلك، وما أحوجنا لتدبر الأساليب التربوية القرآنية.

 

وكذلك ما أحوجنا لفقه دور القصة في تشكيل وإعادة صياغة عقل الأمة، في مواجهة التحديات الحضارية.

 

تلك التحديات التي تشمل صوراً منوعة من التدافعاتº وأهمها التدافع الفكري والآرائي.

 

وبتدبر آيات هذه القصة، نجد أن لها بعدين:

 

الأول: وهو البعد الظاهر القريبº إذ تقص علينا أحداث خلاف حياتي عادي وملابساته، وقع في إحدى البيوتات الإسلامية، بين رجل وامرأته، فحدث بينهما ما يشبه الطلاق، ثم أراد الرجل أن يجامعها فأبت، وذهبت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فشكت إليه، وحاورته، في رأيه في القضية، ولم تقتنع برأيه - صلى الله عليه وسلم -، حتى نزل الوحي بآيات الظهار، في مطلع سورة المجادلةº لتقدم الحل الرباني الشامل الكامل الخالد لهذه القضية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply