السر في كثرة أهل النار


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

ليس السبب في كثرة أهل النار هو عدم بلوغ الحق إلى البشر على اختلاف أزمانهم وأمكنتهم، فإن الله لا يؤاخذ العباد إذا لم تبلغهم دعوته، (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)[الإسراء: 15]، ولذلك فإن الله أرسل في كل أمة نذيراً، (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)(فاطر: 24).

ولكن السبب وراء ذلك يعود إلى قلة الذين استجابوا للرسل وكثرة الذين كفروا بهم، وكثير من الذين استجابوا لم يكن إيمانهم خالصاً نقياً.

وقد تعرض ابن رجب في كتابه "التخويف من النار" إلى السبب في قلة أهل الجنة، وكثرة أهل النار فقال: "فهذه الأحاديث وما في معناها تدل على أن أكثر بني آدم من أهل النار، وتدل أيضاً على أن أتباع الرسل قليل بالنسبة إلى غيرهم، وغير أتباع الرسل كلهم في النار إلا من لم تبلغه الدعوة أو لم يتمكن من فهمها على ما جاء فيه من الاختلاف، والمنتسبون إلى أتباع الرسل كثير منهم من تمسك بدين منسوخ، وكتاب مبدل، وهم أيضاً من أهل النار كما قال -تعالى-: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)(هود:17).

وأما المنتسبون إلى الكتاب المحكم والشريعة المؤيدة والدين الحق فكثير منهم من أهل النار أيضاً، وهم المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، وأما المنتسبون إليه ظاهراً وباطناً فكثير منهم فتن بالشبهات، وهم أهل البدع والضلال، وقد وردت الأحاديث على أن هذه الأمة ستفترق على بضع وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، وكثير منها أيضاً فتن بالشهوات المحرمة المتوعد عليها بالنار وإن لم يقتض ذلك الخلود فيها فلم ينج من الوعيد بالنار، ولم يستحق الوعد المطلق بالجنة من هذه الأمة إلا فرقة واحدة، وهو ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ظاهراً وباطناً، وسلم من فتنة الشهوات والشبهات، وهؤلاء قليل جداً لا سيما في الأزمان المتأخرة"(1).

ولعل السبب الأعظم هو إتباع الشهوات، ذلك أن حب الشهوات مغروس في أعماق النفس الإنسانية {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا}[آل عمران:14[.

وكثير من الناس يريد الوصول إلى هذه الشهوات عن الطريق التي تهواها نفسه ويحبها قلبه، ولا يراعي في ذلك شرع الله المنزل، أضف إلى هذا تمسك الأبناء بميراث الآباء المناقض لشرع الله (ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون)(الزخرف:23-24).

وإلف ما كان عليه الآباء وتقديسه داء ابتليت به الأمم، لا يقل أثره عن الشهوات المغروسة في أعماق الإنسان، إن لم يكن هو شهوة في ذاته.

وقد روى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما خلق الله النار، قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات، فقال: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، فلما رجع، قال: وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها".أخرجه الترمذي وأبو داود، وزاد النسائي: بعد قوله: "اذهب فانظر إليها"، "وإلى ما أعددت لأهلها فيها"(2).

وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره".أخرجه البخاري ومسلم، ولمسلم "حفت" بدل: "حجبت"(3).

قال صديق حسن خان: "والمراد بالشهوات مرادات النفوس ومستلذاتها وأهويتها"(4)، وقال القرطبي: "الشهوات كل ما يوافق النفس ويلائمها، وتدعو إليه، ويوافقها، وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به، الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتخطى"(5).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(1)             التخويف من النار، لابن رجب، ص 214.

(2)             جامع الأصول: (10/520)، ورقمه: 8068، وقال المحقق: قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(3)             المصدر السابق: (10/520)، ورقمه: 8069.

(4)             يقظة أو لي الاعتبار: ص 220.

(5)           المصدر السابق.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply