صناعة الحياة والأوهام السبعة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عندما تحاور كثيراً ممن تتوقع أن يكون لهم دور ريادي في هذه الحياة إذ بك تسمع أسباباً عديدة ومبررات كثيرة زعموا أنها السبب وراء تخلفهم عن ركب صُناع التأثير ومهندسي الحياة، ولعل أهم هذه الأسباب والمبررات سبعة هي:

 

1. أن صناعة التأثير تحتاج إلى مال كثير وإلى إمكانيات مادية كبيرة، وأنا فقير لا أملك شيئاً من ذلك.

 

2. إن التأثير يستطيعه أصحاب الوجاهات والمناصب السامية والمراكز العالية والمستويات الاجتماعية الراقية، أما الذين إذا حضروا لم يُعرفوا، وإذا غابوا لم يُفتقدوا فهؤلاء في سلة المهملات وليس لهم الحق أن يخلدوا في يوم من الأيام في ذاكرة التاريخ، أو أن يكون لهم شرف صناعة الحياة والتأثير فيها.

 

3. أن أقدر الناس على صناعة التأثير هم أصحاب الشهادات الأكاديمية العليا، فهؤلاء أكثر الناس علماً ووعياً ومعرفة وفهماً وثقافةً، كما أن كلمتهم مسموعة، ورأيهم مُقدر، وأمرهم مطاع.

 

4. إن من أهم سمات صناع التأثير أنهم كبار في السن وأصحاب تجربة طويلة في هذه الحياة، إذ كيف لشاب لا خبرة له ولا تجربة عنده أن يكون مؤثراً في الحياة وقادراً على التغيير فيها، لا سيما في زمن تعقدت أوضاعه وكثرت مشكلاته وأصبح الحليم فيه حيراناً.

 

5. إن صناع التأثير هم الشباب الذي امتلأت قلوبهم حيوية، ونفوسهم همة، وجوارحهم نشاطاً، أما كبار السن فقد أكل عليهم الدهر وشرب، وفاتهم القطار وليس لهم إلا انتظار ملك الموت، ولذا كثيراً ما تسمعهم يرددون في حسرة قول الشاعر:

 

  ألا ليت الشباب يعود يوماً *** فأخبره بما فعل المشيب

 

أو قولاً آخر:

 

ذهب الشباب فما له من عودة *** وأتى المشيب فأين منه المهرب

6. إن أكثر الناس تأثيراً هم ذوو الأجسام القوية الصحيحة، والوجوه الوسيمة الجميلة، والأشكال الجاذبة الكاريزمية، أما من سواهم فهم تبع لهم.

 

7. أن الرجال وحدهم هم صنّاع التأثير، ومن بأيديهم عمل كل شيء، وهم الذين بإمكانهم اجتياز الصعاب وعمل المستحيل، وأن النساء دون هذه المرتبة بكثير. هذه هي المبررات السبعة التي أقنع كثير من الناس أنفسهم بها أو ببعضها، فحالت بينهم وبين التأثير النافع في دنيا الناس.

 

إنني أعتقد رغم أهمية المال والوجاهة والخبرة والشهاة الأكاديمية- أنها ليست مبررات سبعة وإنما هي أوهام سبعة عشعشت في عقول أولئك المتقاعسين عن ركب التأثير فجعلتهم أسرى لها، ودفعت بعضهم ليلهثوا وراء سراب بقيعة يحسبونه ماء حتى إذا جاؤوه لم يجدوه شيئاً.

 

إن أولئك الذين زين لهم الشيطان تخاذلهم لو قرأوا التاريخ أو تأملوا في واقع الناس لعرفوا الحقيقة ولبان لهم الأمر، ولعلموا أنهم إنما يعيشون في أوهام لن تسلمهم إلا إلى مزيد من الذل والتأخر، ولذا فهم بحاجة إلى تأمل قول القائل:

 

أقول من التعب ليت شعري *** أأيقاظ أمية أم نــــيام

 

 فإن كانوا لحينهم نيـــاما *** فقل قوموا فقد حان القيام

 

بإمكان الإنسان أن يصنع التأثير، ويهندس الحياة حتى لو لم يكن ذا مال، أو جاه، أو خبرة، أو شهادة عليا، أو جسد قوي ووجه وسيم، وإليك الأدلة والشواهد على ذلك.

 

الوهم الأول: الدرهم والدولار

كم سمعنا عن أناس كانوا لا يملكون شيئاً ثم أصبحوا بعد سنوات من كبار الأغنياء أو من سادة الناس، وكم رأينا من وزراء ومسؤولين كبار كانوا قبل سنوات خدماً في بيت، أو موظفين صغار في مؤسسة لا يكاد راتب أحدهم يفي بحاجاته الضرورية، وهذا الأمر حدث عبر التاريخ وهو اليوم واقع يعيشه الناس ويعرفون أصحابه.

 

يذكر لنا التاريخ أن محمد المهلبي كان فقيراً معدماً لا يملك قوت يومه حتى أنه سافر ذات مرة فأخذ يتمنى الموت من شدة فقره ويقول:

 

ألا موت يباع فأشتريـه *** فهذا العيش مما لا خير فيـه

 

 ألا موت لذيذ الطعم يأتي *** يخلصني من العيش الكريـه

 

 إذا أبصرت قبراً من بعيد *** وددت أنني مما يـــليـه

 

 ألا رحم المهيمن نفس حر *** تصدق بالوفاة على أخيــه

 

فقام صاحب له ورثى لحاله وأعطاه درهما. ثم تمر الأيام ويعتنى المهلبي بنفسه، ويجتهد ويترقى في المنصب، حتى أصبح وزيراً، وضاق الحال بصاحبه (الذي أعطاه درهماً) فأرسل رقعة إلى محمد المهلبي كتب فيها:

 

 ألا قل للوزير فدته نفسـي *** مقالاً مذكراً ما قد نسيه

 

 أتذكر إذ تقول لضنك عيش *** ألا موت يباع فأشتريه؟

 

 فلما قرأ محمد المهلبي الرقعة أمر له بسبعمائة درهم، ثم كتب تحت رقعته قوله - تعالى -: \" مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم\". (البقرة: الآية 261). ثم قلده عملاً يسترزق منه، ترى هل ركن المهلبي إلى فقره ورضخ إلى حاله البائس؟.

 

 أم أن نفسه التائقة إلى السمو دفعته كي يكون شيئاً مؤثراً له قيمة ووزن في هذه الحياة. إن فقره وضيق حاله لم يمنعاه من المساهمة في هندسة الحياة وإحداث التأثير الذي أراده هو لنفسه.

 

 وانظر إلى \" سين وستكون\" الذي كان فقيراً معدماً مشرداً في غابات \" أيوغين\" بولاية أوريغون، حيث أنه في عام 1999 م كان يعيش في هذه الغابة مع زوجته دون أن يكون لهما مصدر رزق واضح ومحدد، وقد اضطر أن ينتقل إلى دار للمشردين

 

إذ ضاق به العيش، واشتد به الحال. وذات يوم ممطر اضطر \" سين\" أن يقف في محطة مظلمة للحافلات، فجاءت إحدى الحافلات ولكنها انطلقت سريعاً إذ لم يره سائق الحافلة، وكانت هذه الحافلة هي الحافلة الأخيرة في تلك الليلة، والمسافة طويلة بين موقف الحافلة وبين بيته.

 

 وهنا فكر\" سين\" بفكرة نفع بها الناس وغيرت حاله من الفقر والتشرد إلى الرخاء والغنى، هذه الفكرة هي وضع لمبة(مصباح) صغيرة زرقاء على قمة عمود محطة الحافلات وبطارية تعمل بالليثيوم داخل العمود، وهي على ارتفاع أربعة أقدام، فعندما يشاهد أحد الركاب الحافلة قادمة نحو المحطة يقوم بالضغط على النور فتضيء اللمبة لمدة دقيقة أو أكثر فيستطيع السائق رؤيتها في الظلام أو وسط الضباب على بعد أكثر من كيلومتر.

 

 ولكن يجدر بنا التنويه إلى كلامنا هذا لا نعنى به عدم أهمية المال، ولكن نريد منه الإشارة إلى أن المال ليس هو كل شيء، ولا هو العنصر الحاسم في صناعة التأثير وهندسة الحياة، وإنما هو أحد العناصر المهمة، ويمكن الاستعاضة عنه بعناصر أخرى.

 

 (كالعلم، ومهارة الإقناع، وذكاء الطبع، وغيرها من العناصر)

 

 وفي مقال لا حق سأواصل معكم الأوهام الستة المتبقية بإذن الله - تعالى -.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply