على شُبّاك الأرقم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم يكن من حظّي أن أحظى بمقعد في الصف الأخير من مدرسة الأرقم.. ولكنَّ رحمة الله لم تحرمني من الوقوف عند أسوارها، على نافذة أطلّ منها على طلابها، وهم ينصتون إلى معلّمهم الأعظم..

كان يقف على منصّة شاهقة مباركة يلقّنهم أعظم دروس شهدتها الإنسانية في تاريخها المديد.. كان يكلمهم عن خالق الكون والإنسان.. ويحدّثهم عنه حديث التوحيد والإيمان.. وحديث الخوف والرجاء.. وحديث العبودية والحب.. كان شلالٌ من السناء يتدفّق من جبينه المبارك الكريم ليغمرَ المكان.. ويغمر الزمان.. وكان وجهُه قمرًا يتلألأ بالنور والجمال والحياء.. وكانت روحُه الكبيرة تضمّ أرواحَهم الظّمأى إلى الحقيقة.. وكانت كلماتُه جميلةً صادقة مباركةº تخاطب قلوبَ أصحابه بالرحمة والمحبة، وتخاطب عقولهم بالوعي والمعرفة، وتخاطب أرواحَهم بالخير والإيمان.. كانت كلماته تَنقل رسالةَ استجابةِ السماء لضراعة الأرض..

أرأيتَ العطر! ألا يُغنيك استنشاقُه في لحظةٍ, عن وصفه في كتاب؟! فإنك ما إن تسمع أحاديثه حتى يتصل بك تيار الروح العظيمة، فإذا بالقلب يزكو، وبالنفس تطيب، وإذا بأنوار النبوة تمحو عن النفس حجاب الظلمات! هكذا يخترق كلام النبوة حُجب النفس، ويخترق حجب الزمان..

أما الطلاب، فقد كانوا يصغون إلى معلمهم، تحفّهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، وتظلّلهم السكينة.. نظراتُهم لمّاحة.. أرواحُهم بالخير فوّاحة.. قلوبهم منفتحة على مجالي الكون.. ووعيهم متغلغل في أعماق النفس. أنا لست أشك في أنهم أذكى وأنقى من أصغى إلى معلّم.. كنت ألمح فيهم الأبيض والأسود.. والحر والعبد.. والغني والفقير.. والكبير والصغير.. والرجل والمرأة.. كان فيهم رجل هو أبو بكر.. وشاب هو عمار.. وطفل هو عليّ.. وامرأة هي سمية..

كان فيهم عثمان العربي.. وسلمان الفارسي.. وصهيب الرومي.. وبلال الحبشي.. فكيف اتّسعت هذه المدرسة لتضمّ كل ألوان الحضارة؟!

يا عجباً لهم!

إنهم - وهم القلة الضعفاء- كانوا يتحدّثون بتغيير خارطة العالم!

و يعتزمون بناء حضارة إنسانية مؤمنة لا مثيل لها في تاريخ الإنسان!

فكيف بلغ هؤلاء التلاميذ الضعفاء آمالهم كما أرادوا، فكانوا أساتذة العالم؟!

وكيف وسِعت هذه المدرسة الصغيرة أرجاء الدنيا؟!

أم كيف استحال الضعف إلى قوة.. والموت إلى حياة.. والجهل إلى حضارة؟!

وكيف استحال جدب الصحراء إلى خصب يغمر الدنيا؟

 

الحسنُ شعـــــــــاعٌ يأسِرُنا *** في الشرق تجـلّى لا الغربِ

 

في الأرقم، في غـــار حراء *** في السـجن قديمـًا في الجبِ

 

من وادٍ, ليـــــس بــذي زرعٍ, *** قد غُـــمِر العــالمُ بالخِـــصبِ

 

محظوظون أولئك الأصحاب الذين ارتقوا إلى عالم النبي فأحياهم، فالحياة في ظلال الرسول حياة.. وهل مثل أن نحيا في ظلال إنسان اجتمعت فيه نهايات الفضائل؟!

 

مـن تحتِ سنِّ القــــــلمِ ***أبصرتُ بعــــــث الأممِ

 

\"اِقرأ\"تلاها المصطفى ***فكـان جيــــــــلُ الأرقمِ

 

لم يكن من حظي أن ألج مدرسة الأرقم، ولكني لمنهاجها أنتمي، فلن أتعلّم حرفًا واحدًا من غير معلّم الأرقم..

فأنا لا أعرف من التاريخ إلا سيرتَه.. ولا أعرف من الجغرافية إلا مدينتَه..ولا أعرف من الأخلاق إلا شمائله..

على شبّاك الأرقم..

أمضيتُ عمري أتطلّع إلى معلمها الأعظم..ومنه وحده أتعلّم..

على شباك الأرقم نخلةٌ واقفةٌ لا تشكو من تعب، وإنما من ظمأ إلى شربةٍ, من حوض النبي الأكرم، - صلى الله عليه وسلم -..

على شباك الأرقم نخلةٌ عاشقةٌ تتعلّم.. يتدلى منها رطب حجازيٌّ الهوى والهُويّة.. نخلةٌ عزمت أن لا تكتب إلا عن منهاج الأرقم.. وألاّ تقرأ إلا باسمِ ربها الأكرم..

(اِقرأ وربٌّكَ الأكرم، الذي علّمَ بالقلم، علّم الإنسانَ ما لم يَعلم)

ما كان أكرمَ وقفة الشباكِ..

 

قلمي، تُحدّثني حـــــــروفُك أنّها *** كانت تحومُ على جــــدار\"الأرقمِ\"

 

حتــــــى أتيتَ بكلِّ ألوانِ الســـنا *** من وحي ربّكَ ذي الجلالِ الأكرمِ

 

قلمي، فحدِّث عن جمالِ المصطفى *** وجـــــــمالِ حُبِّكَ للنـــبي الأعظمِ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply