الآياتُ .. بين السطور والصدور


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما أروعَ الآياتِ.. حينما تُشرِقُ في حَنايا الرٌّوحِº فتُورِقُ وتستريح.. وما أجملَ الكلماتِ حِينَما تُزهِرُ في الصٌّدُورِ، وتُحلِّقُ في أفئدةِ الناسِ مثلَ أسرابِ الطيور!

تساءلتُ.. وأنا أقرأُ سورةَ العنكبوت، وقد استَوقَفَتنِي آيةٌ ظَلَلتُ أُرَدِّدُها.. ولا يَمَلٌّ اللِّسانُ من استعادتِها، بل يشعر القلبُ كلَّ مَرَّةٍ, برَوعَتِها.. (بَل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدُورِ الذين أُوتُوا العلم)![1]

 

الآياتُ هي الآياتُ.. ولكنَّها في السٌّطُورِ كَلِماتٌ.. وفي الصٌّدُورِ نَبضٌ وحَرَكَةٌ وسَعيٌ إلى تغيِيرِ أنماطِ السٌّلُوكِ وِفقَ هذه الكَلِمات! وحينما تَتَغَلغَلُ الآياتُ في القُلوبِº تُثمِرُ أحسنَ الثمارِ، وأما إذا ما بَقِيَت هذه الآياتُ حبيسةَ السٌّطُورº فسيظلٌّ القلبُ على الدَّوامِ قَفراً مِن القِفار!

 

إنَّ كثيراً مِن الناسِ مِن حَولِنا.. يقرؤون الآياتِ.. ويحفظُون الأمثالَ.. ويُنشِدون الأشعارº ولكنَّ قليلاً مِن هؤلاءِ.. مَن يُدرِك كَوامنَ الرَّوعةِ ويغوصُ على المعاني والأسرار، وأقلٌّ مِن هذا القليلِ.. مَن يأخُذُ الكلامُ بتلابِيبِه، ويُمطِرُهُ بشآبِيبِهº فيُدِرٌّ الدَّمعَ مِن مَيازيبِه! كما روى البخاري عن عبدِ الله بن شداد قالَ:\"سمعتُ نَشِيجَ عمر وأنا في آخرِ الصٌّفوفِ يقرأ: (إنَّما أشكُو بَثِّي وحُزنِي إلى الله)[2]\".[3]

 

تساءلتُ.. كم بين الكلماتِ التي تُغرَسُ في الصٌّدورِ، والكلماتِ التي تُحبَسُ في السٌّطورِº فلا ترى النور؟! وما فائدةُ الأفكارِ مهما كانت جميلةً وبرّاقةº إذا لم تتحوَّل سُلوكاً وتتمثَّل مُعامَلَةً وأخلاقا!

 

إنَّ الكلِماتِ في السطورِ.. بحوثٌ، ودروسٌ، ومواعِظُ نظريّةٌ.. وأما الآياتُ التي في الصدورِº فلها في واقعِ الناسِ ثمراتٌ عمليّةٌº فهي بُرهانٌ عقليُّ، وذَوقٌ وِجدانيُّ، ومعرفةٌ يقينيّةٌ!

 

هذه عُيُونُ الناسِ.. تجري كلَّ حِينٍ, بين الكَلِماتِ، وتُطالِعُ السٌّطُورَ، وتُقلِّبُ الصفحاتِº ولكن.. مَن يُدرِكُ حَلاوةَ العباراتِ، ويَجنِي ثَمَرَ الكلماتِ؟ ويقطفُ زَهرَ المفرداتِ؟

 

إنَّ الكلماتِ الحبيسةَ في السٌّطورِ.. مهما كانت رائعةً وبديعةًº لا تتحوَّلُ إلى معرفةٍ, وإدراكٍ, ونُورٍ,º إلا إذا صارت آياتٍ, بيِّناتٍ, في الصٌّدورِ! وصدقَ الله العظيم حين قال عن كتابِهِ: (بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صُدُورِ الذين أُوتُوا العِلم)!

 

وكثيرٌ مِن الناسُ تسحرُهم روعةُ الكلماتِ ببلاغتِها وفصاحتِها.. وتأسرُهم سلاسةُ التعابيرِ ورشاقتُها، ورِقَّةُ ألفاظِها وعُذوبتُها.. ولكنّها تحبسُهم عن مُلاحظةِ جَوهرِ الجمالº حين يتمثلُ في ميلادِ الإنسانِ والحياةِ من رَحِمِ الكلمات! كما قال ربٌّ العالمين: (هو الذي بعث في الأميِّين رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِه ويزكِّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ, مبين).[4]

 

وقد فقِهَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -هذا المعنىº فعاتَبَ نفسَهُº حين لم يُثمِر سُجُودُه بُكِيّاً! كما روى ابنُ كثير أنَّ عمر - رضي الله عنه - سجد عند قول الله - عز وجل -: (وإذا تُتلَى عليهم آياتُ الرَّحمَنِ خَرٌّوا سُجَّداً وبُكِيّاً)[5] وقال: (هذا السّجودº فأين البُكِاءٌّ؟!).[6]

 

كَم مِن الناسِ.. ذاقَ لَذَّةَ غَرسِ الكَلِماتِ في قُلوبِ الآخِرينº فأينعت حياتُهم القاحِلةُ وأشرقت بأحلى السٌّنبُلات؟! مَن عَرَفَ حلاوةَ رَسمِ السَّعادةِ بالعِباراتِ الـمُثمِرَةِ.. التي تنبتُ في سُويداءِ القلوب.. مثل النَّخلِ الباسِقات (لها طلعٌ نَضِيد)؟

 

إنَّ القلوبَ وحدَها هي التي تتعامل مع الكلمات: إدراكاً ووعياًº ولذلك لا تُلقي الأُذنُ سمعاً، ولا تَذرِفُ العينُ دَمعاًº إلا إذا أدركَ القلبُ روعةَ القرآنِ وخالَطَتهُ بشاشةُ الإيمان! فحينئذٍ, تصِيرُ الكلماتُ عِلماً وتُثِيرُ فِقهاً وذوقاً، وتَسِيرُ بين الناسِ معرفةً وفهماًº (وكذلك الإيمانُ حينَ تُخالِطُ بشاشتُه القلوب)![7]

 

ليت شعري.. أينَ مِنّا مَعشَرَ المسلِمِين ثَمَراتُ الآياتِ؟ وما فائدةُ ما نتلُو ونحفظُ.. على قلوبِنا وعُقولِنا ومنهجِنا في الحياةِ.. إذا لم تتحوَّل إلى عِبَرٍ, وعِظات؟!

 

إنَّما الآياتُ لأهلِها.. الذين أثنَى الله - عز وجل - عليهم بأنهم (قليلاً مِنَ الليلِ ما يَهجَعُون وبالأسحارِ هُم يستغفِرُون)! فهي تُوقِظُهم بالأسحارِ وتُعمِّرُ قلوبَهم بالنَّهار، كما روى ابنُ عمر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا حسدَ إلا في اثنَتَينِ: رجلٌ آتاه اللهُ القرآنَº فهو يقومُ به آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٌ آتاهُ اللهُ مالاًº فهو يُنفِقُهُ آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهار).[8]

 

وأمَّا الذين لم يَقُومُوا بالآياتِ لَيلاً.. ولَم يَصحَبُوها نَهاراº فلَيسُوا مِن أهلِها، بل هُم أبعَدُ النَّاسِ عَنهاº لأنَّهم\"وَرِثُوا الكِتابَ ودَرَسوهº ولَكِنَّهُم لم يَتَكَيَّفُوا به، ولم تتأثَّر بهِ قُلوبُهم... شأنَ العقيدةِ حين تتحوَّل إلى ثقافةٍ, تُدرَسُ وعِلمٍ, يُحفَظُ... هُم دَرَسُوا الكتابَ وعَرَفُوا ما فِيهِ، بلى! ولكنَّ الدِّراسةَ لا تُجدِي ما لم تُخالِط القُلُوب[9]º وكَم مِن دارِسِينَ للدِّينِ وقُلوبُهم عنهُ بعيد؟...وهل آفةُ الدِّينِ إلا الذين يَدرُسُونَهُ دِراسةً ولا يأخُذُونَهُ عَقيدةً؟!\"[10]

 

ـــــــــــــــــــــــ

[1] العنكبوت 49.

[2] يوسف 86.

[3] رواه البخاريٌّ في كتاب (الأذان) باب (إذا بكى الإمام في الصلاة). فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر 2/441.

[4] الجمعة 2.

[5] مريم 58

[6] تفسير القرآن العظيم 3/171.

[7] رواه البخاري ومسلم.

[8] رواه البخاري ومسلم.

[9] وما أحسنَ التعبير عن ذلك في حديث هرقل الطويل: (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب)! وقد ختم به البخاري كتاب بدء الوحي.

[10] في ظلال القرآن 9/1387.

  

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply